الأحد ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم فيصل سليم التلاوي

حفنة من تراب

يوم وقعت بين يديَّ قنينة العطر الفارغة إلا من بقايا رائحة، تشي بروعة عبقها الأنثوي المستفز، وقد أسرني جمال تصميمها في شكلها شبه الدائري، وعنقها المشرئبة العالية، وقاعدتها الباذخة في أناقتها المترفعة، التي تحاكي الكعب العالي، إلى جانب ثغرها المنمنم الدقيق.لم أدر في بادئ الأمر ما الذي سأصنعه بهذه التحفة الجميلة، التي عثرت عليها في طريقي بينما كنت متوجها إلى منزل أخي الأكبر، الذي يستقر عند كتف الجبل بعيدا و وحيدا. كان وما يزال أقصى بيوت القرية من الجهة الجنوبية، وأكثرها تعلقا بعنق الجبل، فقد كنت أقيم فيه وحدي، بعد سفر أخي وعائلته إلى مدينة أخرى حيث مقر عمله.

عند ولوجي عتبة المنزل عصر ذلك اليوم الصيفي، أحسست بدافع يدفعني دفعا نحو الحديقة، وليس نحو غرف البيت. ووجدت نفسي أفترش الأرض تحت شجرة اللوز الكبيرة، وأتأمل التربة الطينية الحمراء في ذلك المنحدر، كما لم أتأملها من قبل، ثم أبادر إلى تناول حفنة منها، من أدق وأنعم ترابها، أفركها بين يدي، ثم أودعها بحنو وعطف داخل قنينة العطر بصعوبة بالغة لضيق ثغرها، ثم أقفلتها وتناولتها بين يديَّ برفق وحنان، وأودعتها حقيبة أمتعتي القليلة، التي كنت أعكف على تجهيزها انتظارا لسفري الأول للدراسة في الجامعة، بعد ظهور نتائج القبول في الأيام القليلة المقبلة.

لست أدري أي شعور كان يخالجني وأنا التقط هذه التحفة البديعة، وأي قوة غامضة كانت توحي لي بأنني لن أطأ هذا التراب مرة ثانية، ولن أعود إليه كما يعود كل صيف من سبقني من أبناء قريتي إلى رحاب الجامعات في البلدان المجاورة.

ها أنذا أتذكر ذلك اليوم بعد نيف وأربعين عاما، لم يكتب لي فيها أن أعود لأكحل عينيَّ بمرأى ذلك الثرى، وبقيت قنينة العطر ترافقني في حلي وترحالي مثل تميمة لا أطيق التخلي عنها أبداً.

استقرت قنينة العطر أمامي على مكتبي حيثما حللت، طالبا في بادئ الأمر ثم موظفًا أنتقل من بلد إلى بلد. وإذا كانت أمتعتي وأغراضي تتبدل وتتجدد بين عام وآخر، فإن قنينة التراب هي الشيء الوحيد من مقتنياتي الذي لم يتبدل. فقد كان لها دائما مكان الصدارة في حقيبة أمتعتي في كل أسفاري، ولا يمكنني أن أنسى ما سببته لي من المواقف المضحكة أحيانا، والمحرجة أحيانا أخرى عند مراكز الحدود والتفتيش الجمركي، فهذا مفتش يشك في محتواها ولا يصدق أنها حفنة من تراب، ويصر على نثر محتوياتها، بينما أتوسل إليه إن كان فاعلاً أن ينثرها على أرضية نظيفة، حتى يمكنني معاودة جمعها، وعندما لم يجد مكاناً نظيفاً أولم يهتم بمطلبي، سارعت إلى انتزاع قميص من حقيبتي أتلقى به التراب الذي ينثره، ثم أجهد نفسي في إعادة تعبئته مرة ثانية أمام عيون المسافرين المتطلعة المندهشة، وربما المتهمة لعقلي في حرصه على ذرات التراب، وآخر يظنها نوعا من المخدرات، ويصر على إرسالها إلى المختبر لتحليلها، وغيره يسخر ضاحكا ويقايضني بأن يملأ لي غيرها قُفَّة من تراب. وآخر يصر على مصادرتها ولا أفلح في استردادها إلا ببالغ الحرج والرجاء.

ولو أن ركاب الحافلة التي كنت أستقلها ذات مرة عرفوا أن سبب تأخيرهم قرابة ساعتين، كان سببه التدقيق في محتويات قنينتي، لألقوا بي وبها خارج حافلتهم، ولكن الله سلم وظنوا سبب التأخير دواعٍ أمنية.

رغم ما سببته لي قنينة التراب من متاعب ومواقف محرجة، فإنني ما تخليت عنها أبدا، ولا ارتضيت السفر مرة إلا وهذه التميمة ترقد آمنة مطمئنة إلى جانبي. وما بقي أمرها سرا بيني وبينها، بل إنه انتشر ليصل إلى كثير من أصدقائي ومعارفي. ما إن أقابل أحدهم بعد فراق امتد سنينا إلا بادرني مازحاً:

ما أخبار قنينة التراب؟

وهل كنت تدرك أن هذا التراب سيخضع للاحتلال بعد شهور معدودة من سفرك وأنك لن تعود إليه؟

وكنت أطمئنهم إلى أنها لا تزال على حالها في الحفظ و الصون.

في حياتي القلقة الحائرة التي لا تعرف الاستقرار، ألفت الترحال والانتقال من بلد إلى بلد مسافرا يكره السفر. لكنها الأيام وصروف الدهر تدعني إليه دعًا. وقد فقدت في ترحالي المتواصل كثيراً من أغلى ما امتلكته وهي كتبي. يوم غادرت جامعة بغداد وقد أنهيت دراستي الجامعية، أودعت مكتبتي التي جمعتها على مدى أربع سنوات ربما بنصف نفقتي الشهرية الزهيدة. أودعتها عند صديقٍ، وبقيت وديعة أبدية. ويوم غادرت الجزائر بعثرت كتبي هنا وهناك، حتى لا أحمل ما يزيد على حقيبة أمتعة واحدة، ويوم رحلت عن ليبيا بعت بعض كتبي بثمن بخس، ووزعت أخرى لأني لا أجد ما أحملها عليه. وليس لي مستقر آمنٌ أودعها فيه.

أسفت كثيراً على ضياع كتبي، وتمنيت لو كان لي مستقر من الأرض، فأجمعها فيه دفعة إثر دفعة لتصير مكتبة قيمة. كل ذلك آلمني وزال عني ألمه بعد حين، لكن حفنة التراب التي لا أدري متى وأين فقدتها قد آلمني فقدها كثيراً ولا يزال.

فأنا لا أعلم على وجه اليقين كيف ضيّعت قنينة العطر.

هل صادرها أحدهم عند مركز حدودٍ دون أن يخبرني؟

هل إن زوجتي عمدت إلى إخفائها لتخلصني من سيطرتها عليّ، وقد صارت حكاية على ألسنة معارفنا؟

أو لعلها غارت منها لفرط اهتمامي بها وحرصي عليها؟

لست أدري. كل ما أدريه أنني افتقدت تميمتي فلم أعثر عليها.

وعرض علي بعض الأصدقاء من المقيمين في القرية أو زائريها متندرين أن يأتوني بقنينة مشابهة، وأن يملؤوها تراباً أحمر من نفس المكان، من تحت شجرة اللوز، التي حلت محل أختها التي هرمت وماتت منذ سنين.

لكنني أبيت، وأفهمتهم أن ما فقدته لم يكن حفنة من تراب، فالتراب موجود في كل مكان، لكن ما فقدته كان دفقة من شعور غامض، وحزمة من ضوء مبهر، وقوة خفية من استشراف الغيب، أوحت لي رغم أن كل شيء كان يبدو هادئا قبل شهور معدودة فقط من الاحتلال: أنني لن أعود لقريتي مرة ثانية، وصدقت نبوءة التراب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى