الأحد ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
قصة إيطالية قصيرة من:
بقلم نور الدين محمود سعيد

حكايات «ماركو فالدو»

ل (إيتالو كالفينو)

مهداة إلى د. خليفة التليسي.

المسارات التي تََّتبِعها الطيور وهي تهاجر، نحو الجنوب أو نحو الشمال، في الخريف أو في الربيع، قلّما تعبر فوق المدينة. أسراب تقطع السماءْ معتليةً صهوات الحقول الخضراءْ، وحواف الغابات، واحياناً تبدو وكأنها تَتَتَبَّع الخطوط المنحنية لأحد الأنهار أو أخاديد الوديان، وأحياناً أخرى تطير عبر الطرق غير المرئية للريح. لكنها تدور على إتساع ما أن تترائَ لها سلاسل القرميد التي تغطي أسطح البيوت المتراصة.

كذلك ذات مرة، كان سرب من دجاج الأرض في ذالك الخريف قد بدا واضحاً تحت صفحة السماءْ فوق أحد الشوارع، ولم ينتبه إلى ذلك أحد، عدا ماركو فالدو، الذي كان يسير بخيلاء كعادته، ورأسه إلى أعلى. كان يمتطي درّاجة هوائية ثلاثية العجلات، يتطلّع إلى الطيور، ويحرك دوّاسة التروس بسرعة، كلَّما إبتعدت الطيور شيئاً فشيئاً، كما لو أنه يشارك سيرها في الفضاءْ، مأخوذاً بحلم من أحلام اليقظة كأحد الصيّادين الخياليين، وإن لم يتأبط في حياته بندقية قط . هكذا كان يسير، وعيناه إلى السماء، ترقب الأسراب المهاجرة من الطير، إلى أن وجد نفسه وقد تجاوز الإشارة الحمراءْ، عند منتصف تقاطع الطرق، بين السيارات التي بالكاد كانت ستدهسه، وأحد أفراد شرطة المرور، بوجهه المتجهم يطلب منه الإسم وتاريخ الميلاد والعنوان، كان ماركو فالدو مازال يبحث في محفظة الجيب عن بطاقة إثبات الهوية، وعيناه تتبعان تلك الأجنحة، لكنها تلاشت وأختفت ما ان تجاوزت الحيطان العالية.

في الشركة حيث يعمل، كانت المخالفة المرورية قد أثارت في نفسه مرارات تأنيبية.

ــ ينقصك فقط أن تمر في الإشارة الحمراءْ؟ صرخ في وجهه رئيس القسم السيد فيليجيلمو:

ــ ماالذي كنت تنظر إليه يا صاحب الرأس الفارغ؟

ــ سرب طير من دجاج الأرض، كنت أنظر الى سـ .....

ــ ماذا..؟ برقت عينا السيد فيليجيلمو الذي كان من الصيادين القدامى، بينما ماركو فالدو يتم الحكاية.

ــ يوم السبت سأصطحب الكلب وبندقية الصيد! ــ قال رئيس القسم، سأكون منتعشاً تماماً، وسيكون كل شئ يدب بالنشاط، وأنسى بذالك كل مشاغلي وهمومي، بعد أن أباشر الصعود إلى حيث التلّة. إن ذالك لمن المؤكد أن يكون أحد الأسراب التي أرعبتها بنادق الصيادين المتربصين هناك، مما دعاها إلى الإنكفاءْ نحو المدينة.

على طول ذلك اليوم ، كان دماغ ماركو فالدو قد سُحق كما لو كان بين كفي رحى. << إذا كان السبت كما هو مرجح أن يكون مليئاً بالصيادين على التلة، من يعلم كم سيكون عدد الطيور التي سوف تهبط على المدينة؛ وإن كنت أنا أعرف جيداً ما أريد أن أفعله، في الأحد سأكل طيرا من دجاج الأرض مشوياً>>.

في القبو تحت الأرضي حيث يسكن ماركو فالدو وعائلته، كان السقف محاذياً لشرفة الطابق العلوي حيث توجد الأسلاك الحديدية لنشر الغسيل، صعد ماركو فالدو إلى السطح مع ثلاثة من أطفاله، وغالون مليء بمادة لاصقة شبيهة بالغِراءْ، وفرشاة، وكيس حبوب. وبينما الأطفال ينثرون الحَب على السطح، كان هو يدهن مكان الحب بالغِراءْ، دهن كل شئ، أسلاك الحديد، و مربعات البلاط، و الزوايا و مداخن المدفآت. كان قد وضع كمية كبيرة من اللاصوق في كل مكان، حيث كاد فيليبيتو الصغير الذي كان منهمكاً في اللعب، أن يلتصق هو الآخر.

في تلك الليلة رأى ماركو فالدو في منامه أن السطح قد نُشِرَ بالطيور الممرغة في الغِراءْ تتقافز بلا هدىً. زوجته دوميتللا الكسولة والأكولة حد النهم، حلمت بالبط المشوي، وقد وضع فوق مائدة، الإبنة إيزولينا الرومانسية حلمت بجهاز تصفيف الشعر، أما ميكيلينو فقد حلم بطائر لقلق.

في اليوم التالي كان الأطفال يتناوبون ساعة بعد ساعة، كل مرة يصعد أحدهم ليستطلع الشرفة من خلال كُوّة كانت معمولة كمِنور عند أعلى السقف، حتى لايزعج الطيور فيما إذا حطت على السطح، ومن ثم ينزل كي يخبر أباه بما حصل.

لم تكن الأخبار طيبة أبداً. حتى منتصف النهار، رجع بيتروشو يصرخ: هاهي ! بابا! تعال!
صعد ماركو فالدو مصطحباً كيساً، كان ما أشار إليه بيتروشو، ليس إلا حمامة رمادية من حمام المدن، الذي إعتاد أن يحتشد، ويتجمع في ميادين المدينة، كانت الحمامة المسكينة قد تلطخت بالغِراء، و رفيقاتها تحوم حولها وتتأملها بحزن، بينما هى تبحث أن تفك جناحيها من هذه المادة اللاصقة التي حطّت عليها بصفاء نية.

كانت عائلة ماركو فالدو تنفش عظيمات تلك الحمامة الهزيلة، عندما تناها إلى سمعهم وقع طرقات على الباب.

كانت خادمة السيدة صاحبة البيت الذي يسكنونه:

ــ السيدة تريدك! تعال معي حالاً !

ًدبّ القلق في ماركو فالدو، لقد دخل في الشهر السادس ولم يسدد الإيجار، كان مرتعباً من أن تطرده صاحبة البيت، وهكذا إمتثل للأمر. صعد بكل حذر إلى الدور العلوي حيث يقطن النبلاء.

كان بالكاد قد دخل إلى غرفة الإستقبال حتى تبين أن ضيفاً آخر قد وصل قبله، كان أحد أفراد الحرس البلدي بنظَراته الصارمة.

ــ تقدم إلى الأمام يا ماركو فالدوــ قالت صاحبة البيت. ثم أردفت:

ــ بلغني أنه على شرفتنا ثمة أحد ما يصطاد الحمام البلَدي. ألا تعرف أي شئ عن ذلك حضرتك؟

ماركو فالدو شعر بتجمد في أعضائه قبل أن ينبثق صوت إمرأة أخرى في تلك الآونة:

سيدتي! سيدتي!

ــ ماذا هناك يا غواندالينا؟

دخلت عاملة الغسيل:

ــ ذهبت لكي أنشر الملابس على الشرفة، فتلطخت بالغِراءْ وألتصقت، سحبتها فتمزقت كلها
لم أعرف ما الأمر؟.

مرر ماركو فالدو يده على معدته، كما لو أنه لم يستطيع أن يهظم أو يستوعب أي شئ.

ل (إيتالو كالفينو)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى