السبت ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم سناء الشعلان

حكاية شجرة

في أرض نصفها ثلج ونصفها الآخر وهج، في أرض نصفها في الشمال، ونصفها في الجنوب، في أرض نصفها في الماضي، ونصفها الآخر في الحاضر، في أرض نصفها هناء، ونصفها الآخر تعاسة، هناك في أرض الجفاف حيث ملتقى البحرين، في أرض تسمى قلب، نبتت شجرةٌ وحيدةٌ، اسمها شجرة (التوأمين)؛ سميت بذلك لأنّ لا شجرة تنمو وحيدةً أبداً، بل تنمو من انفلاق بذرة نادرة، تنبتُ شجرتان من نفس النوع،ونفس الطول، ونفس السن، لم تسمع شجرتنا من الشجرات الأمهات أنّ شجرة توأمين نمت من قبل وحيدة، فهي تعلم أنّ أي شجرة تبزغ وحيدة لاتُكتب لها الحياة، وسرعان ماتجفّ عروقها،وتذوي أغصانها، وتسقط أوراقها اليافعة، وتسلم نفسها حطباً ميتاً يهوي على الأرض.

لكنّها نمت وحيدة، هكذا كنبات شيطاني، تكوّرت ومزّقت رحم الأرض، ونبتت برعماً أخضر، ثم استطالت واستدارات في أيام صيفية ممطرة، وغدت شجرةً صغيرةً وحيدةً، كانت فرداً في حين كانت الأشجار توائم متجاورة متفرعةً من بذرة واحدة.

شعرت باستحياء خاص، فقد شعرت أنّها سيئة أو شريرة، لا تستحق شجرة رفيقة،ولذلك نمت وحيدة ثم ساورها شعور العجز، إذ إنّها أطلت من بذرة عوان بين العقم وبين الأجداب، فكانت وليدها الوحيد، وعطائها الأخير في زمن الشيخوخة، ثم استقرّ في وجدانها أنّ الحظ جافها إذ حرمها من رفيقة تآخي زمانها، وتكون نصفها، وتصبح زوجةً لها، فقد كانت شجرةً ذكراً وحيدةً.

الأشجار العجوزة استعبرت حزناً على الشجرة الوحيدة، وهشّت بأغصانها تعبيراً عن مساندتها،وحثّت الأشجار اليافعة على مساندة الشجرة الوحيدة، وعلى تقديم كلّ حبّ لها، لكن الأشجار اليافعة كانت سعيدة بتوائمها إلى حدّ أنها لم تستطع أن تتوقف إجلالاً لأحزان الشجرة الوحيدة، في حين اكتفت أشجار أخرى بموقف الحياد، فلا هي آمالت أغصانها بعطف نحو الشجرة الوحيدة، ولا هي كفّت عن لفّ أغصانها بحنو على أغصان توائمها، فهيّجت بسلوكها أحزان وتوجدات الشجرة الوحيدة.

كلّ أشجار الغابة كانت من صنف شجرة التوأمين،لذا فقد كان منظر الاشجار المتعانقة، التي تنمو زوجياً من جذر واحد، وتنطلق من ساقين مستقلين ولكن متجاورين، بأغصان متجاورة،وبفروع متداخلة،وبأوراق غضة من نفس الحجم واللون، وبهامات خضراء يافعة وبطول واحد، منظراً وجودياً مألوفاً ومتكرراً في الغابة لا يُستثنى منه إلا شجرة وحيدة تنمو على هون، تمتدّ أغصانها بعشوائية تفيض خضرة وقوة، وإن علت بعض أوراق صُفرةٌ تدّل على طارئ مرض أو قُرب عهدٍ بشفاء.

ولأنّها الشجرة الوحيدة التي تحدّت وحدتها، وتغلّبت على قانون نوعها، وصمدت أمام وجع الألفة التي تعوزها، فقد أطلقت الشجرات عليها اسم أخضر الأوّل، ثم اختصرته من باب الترخيم باسم (إيخو)،الذي ما انفكّ يدرس حالته، ويأصّل لوجوده، إلى أن وصل إلى نتائج مذهلة، فقد عرف أنّ تاريخ الأشجار في حقيقته تاريخ أحادي لا ثنائي، فالأحادية هي الأصل، والثنائية هي الطارئ، فكلّ أشجار الدنيا باستثناء فصيلة نوعه نادرة النوع اعتماداً على ماوصل إليه بعد بحث وتقصٍ، توُلد وتنمو وتعيش أحادية، وإن كانت تعيش ضمن جماعات تٌسمى غابات، أو عٌصب تٌسمى حدائق وبساتين، أمّا حالة نوعه من الأشجار فهي حالة غريبة، إذ تنبت كلّ شجرتين معاً، وتتجاوران طوال حياتهما، وتموتان كذلك معاً،في اللحظة نفسها،وللسبب نفسه.

هذا الاكتشاف أسعد إيخو الذي عرف أنّه نموذج عن الأصل، فهو بمعنى أو بآخر حالة أولى للوجود، وهذا اليقين قاده إلى أسئلة شتى، أولاها ما سبب انحراف أشجار التوأمين عن الأصل ؟ بعبارة أدّق ما سبب جنوح أشجار نوعه عن القاعدة ؟ وما سبب ظهور الثانئية؟ وهل هذه الثانئية تخدم النوع أم تسيء إليه ؟وهذا السؤال يقود بالضرورة إلى سؤال آخر، وهو سؤال أخطر، يقف عند سبب وملابسات هذه الثنائية، أتراها كانت حاجة ماسة دعت إلى هذا التدبير، أم هي رغبة طارئة جامحة ؟ أم هي طفرة أو حالة مرضية طغت على الكلّ،وأعيت التدبير والعلاج ؟ فتفشّت،وأصبحت هي القاعدة في حين أصبحت القاعدة هي الاستثناء؟ إجابة سؤال كهذا ستبني عليها نظرية خطيرة، فهو إمّا أن يكون حالة مثال للشجرة السليمة وسط سائد مريض؟ أي أنّه انتصار مثال الشجرة السليمة وسط سائد مريض؟
أي أنّه انتصار الصحة على المرض ؟ أو أنّه حالة مرض في وسط سليم ؟ وبذا يرى أنّه لا يستحق إلا الموت، أو الرثاء والتقبّل على مضض في أحسن التوقعات ؟

وأيّاً كانت النتيجة فهو يرى نفسه مسوقاً ومدفوعاً نحو تساؤلٍ كبيرٍ ؟ ألا وهو لماذا هو بالذات ؟ لماذا كُتبت عليه دون أقرانه الوحدة ؟وماذا سيكون نصيبه من هذا التأبّد المقيت ؟
أسئلته كانت كثيرة، ولكن الإجابات كانت شبه معدومة،فاكتفى لذلك بحفيف الأشجار العجوزة التي تحنو عليه، وهي تتأبط أغصان توائمها في نسقٍ تكاملي فريد.

كانت الشجرة إيخو تحلم شأنها في ذلك شأن أيّ شجرة ذكر في أن يكون لها زوجة تقاسمها أعباء البرد، وسعادة النسيم، وتجني معها فرحة ثمارهما، وتنعم وإياها باحتضان أعشاش طيور الوروار التي طفقت تسكن أغصانها على استحياء وبناءً على رغبتها، إذ قدّرت طيور الوروار أنّ الشجرة إيخو قد تكون في وحدة وحزن يمنعانها من استقبال أيّ ضيف، ولكن الشجرة خيبت توقعاتها إذ كانت مأخوذة بقضية الأنس وجماليات التلاقي.

وطال العمر، وطالت الوحدة،واعتادت الشجرة إيخو أن تمضي وقتها في مراقبة انثناءات وتحلقات الأشجار التوائم حول توائمها، كانت تجد في ذلك متعة لا تضاهيها أيّ متعة،وغدت شجرة شابة في السبعين من عمرها، بعض الأشجار الأمهات ماتت، ودّعتها دامعة،لكنّ الأشجار التوائم الحديثة شغلت مكانها، واستكملت مسيرة حبّها. أحسّت الشجرة الوحيدة أنّ حياتها ستتوقف عند المنتصف، وأنّ شبابها يُقصف مبكراً، فقد بدأت تشعر بألم في خشبها، وبحركة غريبة في جذرها، وقدّرت أنّ الموت قادم؛ فالشجرة التي تصاب في جذرها عليها أن تفكّر في أمنياتها الأخيرة.

بدأت تنتظر لحظة الموت التي بدا انتظارها على رصيف الوحدة بشعاً ومقلقاً، وجاءت اللحظة، أو كادت،هكذا قدّرت الشجرة من الآلام الرهيبة التي هاجمت جذرها، فشعرت أنّه ينفصم ويتمزّق، كادت تستلم لآخر أنفاسها، لكنّ الحياة أعطتها مفاجأة أسعدت شبابها الطويل وأثارت وحدتها، هي لم تكن تعاني سكرات الموت كما خمّنت، بل كانت نفساً تتساقط أنفساً، وثمرة تنشق عن شجرة، فبعد سنين من الجدب والقحط تحركت بذرتها الأم،

واحتضنت شجرة أخرى،ومن ثم شرعت تدفعها من رحمها باتجاه السماء، كانت شجرة أنثى، بدت طامحة كغاربٍ صغيرٍ، أوراقها الصغيرة مثل نجمات في السماء، أغصانها الغضة الرقيقة أحيت قلب أخضر، الذي حصل على شجرته التوأم بفارق زمني جبّار، ببزوغ شجرته التوأم إلى الحياة نسي كلّ شكوكه وتساؤلاته، وسلا كلّ أحزانه.

امتدّت فروع أخضر لتشمل فروع الشجرة الوليدة، مراقبة جذعها الجميل وأوراقها الصغيرة، كانت متعته الكبيرة،وبقربها ذاق معنى جمال التوأمة، وغدا يؤرّخ لزمن جديد من السعادة والتوحّد مع أنثاه الشجرية المثيرة، أخيراً غدت له حكاية حبّ مثل كلّ حكايا الأشجار، أخيراًَ خطّ القدر قصته مع أجمل شجيرات الغابة، مع شجيرته التوأم التي انتظرها بمقدار سنين عمره، وناجاها دون أن يظنّ أنّ القدر سيجود عليه بلقياها، فقد كان بزوغها من رحم البذرة التي انشقّت عنه صدفة سعيدة ماخال أنّه سيلقاها، لذا كان احتفاؤه بوجودها احتفاءً ماله مثيل، ينزاح بأغصانه يسرة أو يمنة؛ليسمح للنسيم بمداعبة أوراقها،ينحني على قمتها، فيطوقها بأغصانه؛ليمنع أشعة الشمس من إذبال أوراقها، ويفصّل امتصاصه للغذاء على قدر الكفاف؛ ليسمح لجذورها بامتصاص الغداء حدّ التخمة، متعة العطاء كانت متعة لامثيل لها، وهو على أتمّ الاستعداد للمزيد منها.إلا أنّ المنشار كان لهما بالمرصاد، شكلهما الشاذ دون أشجار الغابة أغرى النجّار ببترهما بمنشاره الكهربائي، فصلهما دون رحمة عن الجذع، فهويا على الأرض.

حبّهما كان آخر ما يحملان،فضلاً عن ذكرى ألم لم يرحل بعد أن استوطن في مساماتهما، ومنشار آثم فرّقهما للأبد يستلقي براحة إلى جانبهما.هي كانت لاتزال شجرة غِره لاتعرف شيئاً عن تاريخ ملاحم الأشجار وعن مذابحها، أمّا هو فكان يعرف أن مصيرهما حزين أسود، توقّع أن يطعم وإياها لنيران مدفأة ما، كان يستطيع أن يتحمل فكره موته، أمّا فكرة تفحّمها في النار، فكانت فكرة تزيد من ألم أغصانه المفصودة بالقدوم عن جسده، وما كان في اليد حيلة، سوى انتظار لحظة الافتراق والتفحم، قُدّما خشباً خاماً لرجلٍ مسنٍ يستعين بنظّارات سميكة، تأمّل خشبهما طويلاً، طرق على أسطحهما، ومسدّ على لحائهما، ثم شرع يُعمل آلته الدقيقة فيهما، أمضى أياماً يحفر في خشبهما، ويطوي أسطحهما، ثم ثبّت أوتاراً على الخشبتين، فغدا أخضر كماناً حزيناً، وغدت شجرته الصغيرة قوساً شُدّ إلى جنبيه شعرات خيل رقيقة بتراصٍ شديد، حدّق الرجل العجوز فيهما، قلبّهما بحنو،قربهما من صدره، أسند الكمان إلى كتفه، وأجرى القوس عليه، فانطلقت الأنغام شجية حزينة، تناسب أحزان عازف الكمان، وتحاكي آلام الشجرتين التوأمين.

كان عازفاً حزيناً، أفنى الكثير من ساعاته في صياغة أحزانه أنغاماً واهتزازات أوتار،ألِفت الشجرتان أنامله العجوزة التي تداعبهما بكلّ عطف، حفظتا قسماته العجوزة التي خطّ القدر فيها ساعاته ودقائقه.

لليالٍ عزف العجوز على كمانه بواسطة قوسه، كان مصمماً على أن يؤلّف قطعة موسيقية حزينة، الكمان العاشق، والقوس المتيمة أضفيا من أحزانهما وعزيفهما الشيء الكثيرعلى أنغامه،فبدت قطعته عبقرية نادرة الوجود قادرة على محاكاة الطبيعة ومناجاة كائناتها.

في الصباح الذي لم ينتظره الكمان أو القوس، وإن انتظره العجوز بفارغ الصبر، استعدّ العجوز للخروج، ارتدى ملابس العزف الرسمية، المغلّفة بحرص، ومعلّقة منذ زمن في الخزانة القديمة التي حفر في خشبها المتين كلمة أحبّك، وانطلق إلى المسشفى الذي هجر زيارته زمناً، حيث تنتظره الزوجة الحبيبة، التي هاجمها مرض الزهايمر منذ زمن،فأكل ذاكرتها بشهية آثمة، ومسح ماضيها وحاضرها إلا حبّها للموسيقى، فقد بقي متجدّداً قابعاً في نفسها، أراد الزوج أن يهديها معزوفة ليس لها مثيل، أضنى نفسه في صنع الكمان والقوس، واعتصر كلّ موهبته في قطعة موسيقية أخّاذة،طار لعزفها على أذنيّ من أحبّ، لكنّها كانت قد رحلت،وسبقته إلى الموت، تبعها إلى رمْسِها مهزوماً محطماً،وقف بين يديها بإجلال، ثم عزف على الحجارة التي احتوت جسدها الهزيل معزوفته الموسيقية، عزفها لعشرات الساعات، حتى كَلّ جسده، وتيبست عضلاته، شعر بتعبٍ شديد، أسند الكمان والوتر إلى قبرها، انحنى إجلالاً وإكراماً لمن تسكن القبر،ثم ولّى متبعداً لا يلوي على شيء.

الكمان الحزين اشتاق إلى لمس قوسه الأثير، حاول أن يدنو منه بحركات انتحارية متهورة، انزلق وإيّاه على الأرض إلى جانب الرِمْس، سمعا صوت نزيلته العجوز تدندن مترنمة بالأنغام التي سمعتها منذ وهلة،تمطيا احتراماً لذائقتيها العظيمة، واستسلما للشمس المحرقة، ثم انغرسا في الأرض التي أنشبا أظافرهما فيها، ثم ضربا بجذورها في العمق، امتدا حياة تشمل جسديهما، وتغزو مساماتهما،أزهرا زهوراً نادرة، كست جسدهما الخشبي، أسماها الناس أزهار الحب التي توّجت حكاية شجرة عاشقة، فالأشجار مثل البشر تملك هي الأخرى حكاياتٍ وسيراً وملاحم وآمالاً وانكسارات ونهايات، وتبقى مقيمة على عشقها،مخلصة لذكراه...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى