السبت ٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم هبة عليوة

حكواتي... والخوف حكاية

ذاك الذي لا ينام، ذاك الذي لا يهدأ،...
هكذا كان يوصف، يدور فكرة في أذهان الناس دون أن يسمى، دليلا لمن لا سبيل له سوى الهرب، عبر الجبال يقودهم إلى حيث الأمان، وله الجبال وطن آمن، وكنت أهابه لحد الأرق، أسير معه في الضوء والظلام هاربا منه إليه، أرقب صلاته المجهولة في النهر مع الفجر، فيخيل لي أن برودة الماء ترتجف منه، وعلى ظهره العاري ترتسم أوشام تظهره كطوطم قبلي عاد بعد ألف عام، لتختفي حين تلامس النور، كأنما الرسوم عمدت خياله الذي تلمح بعينيه عمقه القادم من بداية الزمن، ليجبرك على طرح سؤال مجنون: ترى... ما الزمن؟

ذاك الذي لا ينام، ذاك الذي لا يهدأ،... لم يتحدث، و قد كانت خيبة كبرى لشاب مثلي طمع في ثروة من الأفكار قد يقدمها مثل هذا الجب العميق، من التجارب والحكايا، فنظرة تحمل في طياتها كل هذا التاريخ لابد وأن يكون صاحبها قد قبض على جزء منه، بل وربما صنعه، لكنه لم يكن يتحدث، كنا نسير فقط، وكان لا يتعب، وحين اعتدت صمته انحسرت مساحة الخوف منه في قلبي وحلَّ الحسد، حسد كل إنسان خائف مغترب لآخر آمن مطمئن، حسد كل من اضطر لترك من يحب في حين أن آخرين يسكنونهم، كنت أنظر إليه سائلا متوسلا: احك لي، علمني أيها الرجل الغريب، فأنا رغم حماس العالم كله... لا أعرف.

كأنني كنت أهيم في حضرة رجل مسكون، نظر إلي وقال بهدوء ووضوح:

 قل ما تريد.

فاجأتني كلماته، كان كمن يفتح لي في منتصف سفري الهارب واحة حديث مفتوح، وأنا المظلوم الذي كل ما في حياته حادث يروى قلت له بسذاجة الغر:

 لست أدري ما أقول

 فلتبدأ إذن حيث انتهت أفكارك، فيم كنت تفكر؟

 لست أرغب بالهرب، أريد أن أبقى

 لم تريد البقاء، أبسبب امرأة؟

ابتسمت لفطرة هذا المتصوف المزعوم وقلت:

 السبب دوما امرأة

 في زمن الهروب الذي عشته كانت هناك أكثر من امرأة، لكنني بقيت لأجل الأنثى

 أليست المرأة أنثى؟

 لا، فقد تكون المرأة دون معنى، لكن كل المعاني الرائعة أنثى، حين تحبها تكون قد تجاوزت الاضطراب والشهوة، وبلغت حيث تلامس فكرتها الأصل، وتلامس العقيدة

 امرأتي أنا ذات معنى، لكنني في حبها لا أزال المراهق، وقد آن له أن يصير الرجل

ولم أكن بحاجة لقول المزيد، فقد كان قبلي المئات، أو الآلاف، نحمل جراحنا سرا بعيدا عن سجون الحق، علنا بإنقاذنا لحياتنا نعود يوما لإنقاذ الحياة، أصدقائي أربعة، قادهم قبلي حيث لا يصلنا جند الطاغية، عبر طريق أشيع أنها عاشت نفس الحكاية منذ سنين وسنين، وكلنا تركنا الحب والحنان لأجل الكرامة والحرية، يملؤنا أمل أن نعود لنهزم الظالم كما ذل من قبله، تنهدت لحلاوة الحلم ومرارة الانتظار، قلت له:

 إن حجم الألم لأكبر من أن أسمح لنفسي بأن أصدق أننا سننتصر، قل لي، كيف السبيل لنفعل؟

 ليست مسألة فعل بقدر ما هي مسألة نضج، ربما لم تنضج حريتكم بعد، ربما هذا الزمن لا يزال زمن ظلم، فكما للحق جولاته فكذا للظلم جولاته

 أتقول لي أن لا فائدة من العمل؟

 بل أقول أن حق الحياة قدر عظيم لا يمكن استعجاله

صمت، ثم نظر إلي، لكنه كان يسعى لإبصار ما هو أبعد مني بكثير، ثم قال:

 عشت زمانا يخاف فيه الناس الطغاة لحد العبادة، لكن حين يكون المعبود غير كامل لا مفر من قدوم يوم الكفر، ليصير المخاف خائفا ممن رفضوا خوفه بعد ذاك اليوم

 وما الذي حصل له؟

 هرب، واغترب، ثم عاد بعد أن صار طي النسيان، فلا يستطيع أحد يستطيع العيش في أرض تخافه إلا بعد أن يصير غريبا عنها، وفي وحشة الوحدة عرف خطأه، عرف أنه هو من يجب أن يخاف من نفسه، من الإنسان الذي كانه، والذي يكونه الكثيرون، الذي يطعن ويحاكم النزيف، الذي يظلم ويجرم الدموع...

وتنهد، وبعينيه آلام لا تمحى وأشجان لا تستقر، تابعنا المسير، استغرقني الهرب، واستغرق هو أرضا هام بها طيفا منذ الأزل، إلى أن بلغنا نهاية الجبل، أو نهاية الدنيا، لم يكن من فرق بين الاثنتين لدينا، وأحسست بقلبي ينقبض، وبصوتي يقول دونما اتصال بعقلي كمحاولة أخيرة لإيجاد داع أو سبب:

 ما الذي يبقيك هنا؟

 يبقيني الأمل

 دعني أبْقَ معك إذن

 ليس قبل أن يرهقك العمل، الأمل ليس ترفا، إنما حق يستل

وافترقنا كما يفترق الجميع، وما بينهم شبيه لهذا الغريب، هذا الذي لا ينام، هذا الذي لا يهدأ، هذا الذي ندم بعد أن طغى فهام غريبا... إلى أن سكن الأمل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى