الأربعاء ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم آمال عواد رضوان

حوار مع القاصّةَ والرّوائيّة فاطمة يوسف ذياب!

 مَن هي فاطمة ذياب؟
 في قريةٍ لا تشبهُ القرى، وفصلٍ لا يُشابهُ الفصول، ويومٍ لا يُشبهُ الأيّام 27-9-1951، كانت القلوبُ تلهثُ بالدّعاءِ (يا ربّ صبيّ)، أرادوني أخًا لوحيدِهم بعدَ ثلاثٍ مِنَ الإناث، وجئتُ أختًا وليستْ كأيّةِ أخت، وظلّ رحمُ أمّي ينزفُ أربعينَ يومًا حزنًا وتأثّرًا، وصرختي في اللّفّةِ تعلنُ ميلادي كما أرادَ الله لا كما أرادوا، ومِن ذاك اليوم بدأتْ مسيرةُ الأيّامِ والعمرِ في محطّاتٍ نفقيّةٍ لولبيّةٍ لها أوّل مِن غير آخِر، وعام 1954 يأتي الفرَجُ وتعمُّ الفرحةُ وتُقامُ الحفلةُ الكبرى والمهاهاة: يا ناس صلّوا عالنّبي/ مرْتو للمختار جابتْ صبيّ.

 حدّثينا عنِ الرّحيل الملائكيّ.. وإلى أينَ يعود بكِ؟
 كان المولودَ الملائكيَّ أخي، ليسَ أحلى ولا أجمل، أحببتُهُ أذكرُ ذلك، وكانَ لعبتي وكلَّ حبّي، ولا أريدُ أن أتذكّرَ غيرتي، بل تشقُّ عليّ غيرتي حينَ انتزَعَ الموتُ هذا الأجملَ والأحلى والأغلى عام 1959، إنّهُ الوجعُ الأوّل والرّحيلُ الأقسى، وأمّي الباكيةُ والصّابرة بصمتٍ، تُقبِلُ عليَّ مُكفكفةً دمعي قائلةً: إنّه هناك طائرٌ مِن طيورِ الجنّة، وبتُّ أراهُ مع كلِّ طيرٍ يطيرُ في السّماء. كنتُ أناديهِ باسمِهِ.. "أحممممد"، وأتمنّى لو يحطُّ على شجرةٍ ألعبُ تحتَ ظلالِها، وكنتُ أعتصرُ حزني وأندسُّ معَ الأطفال، وأحيانًا يَغلبُني الحزنُ فيتفجّرُ صرخةً وعنادًا وشقاوةً، وتتعدّدُ أشكالُ أحلامي وألوانُ فنونِ شقاوتي، وأحمدُ الطّائرُ يرفضُ القدومَ في جسدٍ آخر، كأنّما اختارَ الرّحيلَ ليظلَّ طائرًا في الجنّة، يرقبُ قدومَ الإناثِ، ليُصبحَ عددُنا ثماني بناتٍ وصبيًّا وحيدًا مُدلّلاً.

 أزقة عكّا وشقاوة فاطمة والغوارنة، ألا زالت ملهاةً تلتصقُ بذاكرتك؟
 كانتْ مدينةُ عكّا بأزقّتِها وأسوارِها وناسِها ملهاةً لي ومدرسةً، تتلمذتُ مع الغوارنة ألوانَ أخرى مِنَ العنتريّةِ والشّقاوة، كالاعتداءِ على ممتلكاتِ الغير، السّرقة، التّحدّي والرّقص على أنغامِ الطّبلة وهزّ البطن، وكلّ ما يخطرُ وما لا يخطرُ ببالِ أحد، وقد جسّدتُ في رواية "الخيط والطزّيز" بعضًا مِن ذاكَ الماضي المتجذّرِ بأعماقي، ففي بيتٍ ملاصقٍ لبيتِ أبي كانت تسكنُ جدّتي زليخة؛ امرأةٌ غورانيّةٌ مِن غوارنةِ عكّا، كانتْ تساعدُ أمّي في البيتِ والحقلِ مقابلَ لقمةِ العيش، وفي نهايةِ كلِّ أسبوعٍ وفي العُطلِ المدرسيّةِ، كانتْ تصحبُني ليرتاحَ أهلي مِن شقاوتي. وهكذا تكوّنتْ لي علاقاتٌ مع أبناءِ جلدتِها، فأخذتُ عنهم العنادَ والتّحدّي والجرأة، وعندما كنتُ أعودُ إلى القريةِ أستعرضُ أمامَ الحضورِ في ديوانِ الوالدِ أو في ركنِ النّساءِ ألوانًا مِنَ الفنونِ العكّاويّة، مِن رقصٍ وغناءٍ وهزّ بطنٍ وتهريجٍ وتقليدٍ، فتتبعُني العقولُ والقلوبُ الضاّحكة، وتضجُّ في رأسي، "حرام يا ربّ لو كانتْ صبيّ"؟ ولم أكنْ وكنتُ!

حدّثينا عن علاقةِ فاطمة ذياب بالدّبدوبة واحتجاجاتِها ومَقالبِها؛ الفتّة، السّدّة، الزغاليل، الجارة ومشاهد أخرى تتحرّش بذاكرتك!

دبدوبةُ حقبةٌ مِن الشّقاوةِ الطفوليّةِ الجميلةِ، لقبٌ أطلقَتْهُ عليّ جدّتي زليخة وعُرفتُ بهِ، حتّى أنّ بعضَ معارفِ وأقرباءِ ذاكَ الزّمنِ المُشاكسِ لا زالوا ينادونَني بهِ، وإنْ خسرتُ كلَّ ذاكَ الوزن وأصبحتُ جلدًا على عظم! ولكِ أن تتخيّلي مشهدَ الطّبليّةِ وصينيّةِ فتّةِ الخبزِ الجافّ معَ الشّاي، أو الخبزِ الجافّ مع مرقةِ العدسِ، وثماني كنافيش يتصارعْنَ، واحدةٌ تقولُ للأخرى (صغْري اللّقمة، لا تنقّطي على حالِك، هاي الزّلفة زلفتي و"إلخ)، وأراني أمسحُ النّقاطَ السّوداء عن الخبزِ الجافّ بفوطةٍ مبلّلةٍ بالماء، أمّا الخبزُ الطّازجُ والأرغفةُ السّاخنةُ فهي للدّيوانِ وضيوفِ المختارِ وابنِهِ، والجبنُ المكبوسُ والبطّيخُ والشّمّامُ للضّيوف، وأمّا نحن البنات فلَنا الفتات!

صحيح أنّي كنتُ أتماهى مع الضّيوفِ إلى أبعدِ الحدود، أشاركُ الحيارى دمعَهم، والملهوفينَ حزنَهم وآلامَهم، وكانتْ لكلٍّ منهم حكايةٌ تأخذني إليها، فأظلُّ قلِقة يقِظة لأيّام. لكني أيضًا كنتُ أحتجُّ على طريقتي، فأجدُ الطّرُقَ كي أصلَ إلى السّدّة، وأحصلَ على ما أريدُ مِنَ الجبنِ والبطّيخ واللّيمون لي ولزميلاتي وباقي أخواتي، فلا يردعُني قضيبُ رمّانِ أبي، ولا قشاطه الجلديّ الّذي يدبغُ جلدي بلون الرّمّانِ الدّاكن، بل كنتُ أرى أنّني أحقُّ بهذا الخيرِ مِنَ الوافدينَ إلى الدّيوان.

أمّا عن حادثةِ الزّغاليل، فأذكرُ حينَ أرسلتْني أمّي إلى فرنِ البلد قائلة:
 «خذي الصّينيّة وقولي للفرّان عجِّلْ، عند أبوي ضيوف»!

ولكِ أن تتصوّريني أنا الجائعةُ جدًّا، وصينيّةُ البطاطا مع جوز زغاليل مقمّرة، فهل أشمُّ ولا أذوق؟ كانتْ رائحةُ الزّغاليلِ تدعوني فقط للتّذوّق، ولقمةٌ وأخرى وأخرى.. وحينَ وصلتُ البيتَ اختفى زوجُ الزّغاليل، ولم يتبقَّ في الصّينيّةِ إلاّ حبّاتِ البطاطا وقطعة لرُبع زغلول، وضعتُ الصّينيّة على الأرض وابتعدتُ متأهّبةً للفرار منادية أمّي لتأخذ الصّينيّة، وحينَ رأتْ ما فعلتُ توعّدَتْني بالموت والقبر. لا بأس، ليكن الموت، المهمّ أنّني قبرْتُ زوجَ الزّغاليل في بطني في الغداء، وكانتْ وجبةُ العشاءِ جدًّا دسمة، لها مذاقٌ خاصٌّ بألوانٍ داكنةٍ تناولَها جلدي بقضيبِ الرّمّان.

أمّا عن الوجبةِ الأخرى مِنَ التّحدّي، فكانتْ مع جارتِنا أمّ أحمد، لها ابنةٌ في مثلِ عمري، كنّا نلعبُ معًا وأذهبُ إليها قبلَ طلوعِ الفجر، للّعبِ أو لانتظارِ العجّال راعي البقر، لنرقبَ قطيعَ البقرِ والأغنام في طريقِهِ إلى المزرعة، وذاتَ يومٍ نهرتني أمّ أحمد قائلة: "يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم، انقلعي عَ داركو، البنت بعدْها نايمة". وانقلعتُ وأنا أتوعّدُها أن أدَفّعَها ثمنَ البهدلة. بعدَ ساعاتٍ دقتْ أمّ أحمد بابَ بيتِنا، فطلبتْ أمّي أن أرفعَ الرّدّة وأفتحَ الباب.

حسنا.. (هاظ حَبّها تحت طاحونتي)، لم أفكّرْ طويلاً، قلتُ لها: لن أفتح لك الباب حتى تضعي عينَك في الطّاقة (فتحة المفتاح). لماذا؟ حاولتْ أن تعرف، وما كان منّي إلاّ الإصرار ألاّ أفتحَ البابَ حتى تضعَ عينَها كما طلبت للحظةٍ. هل أغرسُ خشبةً طويلةً في الطاقة لتصلَ إلى عينها؟ اكتفيتُ بأن بصقتُ في عينِها ورفعتُ الرّدّةَ وهربتُ، فدخلتْ أمّ أحمد باكيةً وهي تحسبُ أنّ أحدًا طلبَ منّي ذلك!

 ما قصّةُ موْت دبدوبة؟
 كانَ لي أخت تكبرُني بأربعةِ أعوام، تستعدُّ للذّهابِ مع زميلاتِها لزيارةِ عمّتي الّتي تسكنُ بعيدًا عن بيتِنا، أردتُ الذّهابَ معها فتوعّدتْني بالضّرب، وضعتُ ثوبي بين أسناني وركضتُ أسابقُها إلى هناك، وحينَ رأتني قذفتني بحجر لم يُصبْني، لكنّي تمدّدتُ على الأرض كأنّي سقطتُّ مِن مرتفع، صاحتْ زميلاتُها: أختك كأنها ميتة، لعلّ الحجرَ وقعَ على رأس قلبِها وقتلها؟ عادتْ أختي وزميلاتها يحاولنَ أن يوقظن دبدوبة، وبدأ الصّراخُ والشّطّ والنّطّ، وأقبلَ كلُّ مَن سمعَ الصّراخ، ودبدوبة بلا حِراك، هرعَ خالي يسألُ عن الخبر.. ماتت دبدوبة! وخالي أعلمُ بحالي وبمقالبي، صاحَ: ارفعوا يدَها لفوق، إن ظلّت عالية ومرتفعة تكون ميتة. ولأنّني لم أمتْ مِن قبل، بقيت يدي مرتفعة، فما كان منه إلاّ أن صفعَني: قومي.. الله يقصف عمرك!

 لزوجةِ المختارِ حكايةٌ في الزّمن القديم.. كيفَ عايشت فاطمة ذياب تراجيديًّا السُّلطةَ آنذاك؟
 حقيقةٌ شغلتني، ما بالُ النّسوة يتسابقنَ لخدمةِ زوجةِ المختار؟ أهي لقمةُ العيش أم مركزُ المختار؟ وأظلُّ في حيرةٍ مِن أمرِهنَّ، لماذا نحنُ أغنياءُ وهم فقراء؟ الدّيوانُ عامرٌ يضجُّ بالحياةِ والرّجالِ والنّساء، والمطبخُ لا يهدأ ولا يكلُّ ولا يملّ، والمائدةُ الّتي ما أن تُرفَعَ أطباقُها حتّى تعود ثانية لتستقبلَ فوجًا آخرَ!

وتأخذني «لماذا» الّتي شغلتْ فكري واهتمامي إلى علاقاتٍ وثيقةٍ مع أبناءِ وبناتِ هذهِ الطبقةِ الّتي تتميّزُ ببساطةِ العيش والحياة والهدوء، لا قاهرٌ ولا ناهدٌ، لا تعالي ولا اذهبي، وكسرةٌ مِن الخبز المدهونِ بزيتِ الزيتون يسُدُّ الرّمق.

أيّامٌ كانَ لها مذاقٌ خاصٌّ ونكهةٌ لا يُقدّرُ طعمَها إلاّ مَن عاشَها وعايشَ لحظاتِها، كانَ لنا كرْمُ زيتونٍ في كابول، وكانت جدّتي تأخذُني معَها لننامَ عندَ أهلِ الكاتبِ محمّد علي طه، لنغادرَ قبلَ طلوعِ الشّمس إلى الكرْم المُجاور، ولنحرسَهُ مِن البعّار الّذين يلتقطونَ ما تبقّى على الأشجارِ والأرضِ مِن حبّاتٍ متناثرةٍ هنا وهناك، وينضمّ القطروز والجوّالاتُ اللّواتي يعملنَ بالسّخرة ليبدأ العمل، وأكثرُ ما كان يهمُّني طوابيرُ الأطفال في مثلِ سنّي، لكلّ واحدِ عصا ودلو وشوال، أحيانًا كانوا يُغافلونَ أصحابَ الكرْم فيقطفونَ قبلَ أن يفرغَ الأهلُ مِن قطافِهِ، وأحيانًا يساعدون أصحابَ الكرم بالتقاطِ الحبّ، كي يضمنوا بقاءَ المتبقّي من الحبّ لأنفسهم، والقطروز وسيّدُ الكرْم يُطاردونهم مِن مكانٍ إلى مكان، وجدّتي تنهرُهم بعيدًا، وأنا أسرق الحَبّ مِن الأكياس ومِن الكومة، وأضعه في حرجي وأغافل جدّتي والقطروز وأعطيهِ لهؤلاء، وحين تضبطني جدّتي توبّخني!

تجاوزَ عمري العشرَ سنوات، وكنتُ أجلسُ على شوال الزّيتون، وإذا بمجموعةٍ مِنَ الشّبابِ قادمةٌ مِن بعيدٍ، سمعتُ أحدُهم يقولُ: "شو هالحلوة اللّي قاعدة لحالها"!

لم أعُدّ للعشرة وانطلقتُ بالسّبّ... و(طبِّقْ على الباقي)! وحين اقترب منّي، وإذا بهِ ... !!! مَن؟؟؟
"يا أرض انشقّي وابلعيني" ركضتُ أحدّثُ جدّتي التي أثنت عليّ وقالت هيك أريدك.

كنتُ أتفجّرُ ألمًا مِن مرأى دموعِ الطّانباتِ في بيت المختار أبي، حين تأتي إحداهُنّ لتشكوَ ضيقَ اليد والفقر والعوز، أو لتبحثَ عن عملٍ أو تطلبَ وساطتَهُ لتوظيفِ ابنِها، أو فتاة أرادوا تزويجَها كُرْهًا وغصبًا، وكانت هناكَ أشكالٌ وألوانٌ لقصصٍ لا تُحَدُّ ولا تُحصى مع كلِّ طانبةٍ، ولكلٍّ منهنّ حكايةٌ ومشكلةٌ، والحَلُّ في بيتِ المختار، و"الله يخلّي ابنَك"، دعاءٌ واحدٌ ووحيدٌ، أمّا نحنُ البناتُ فلم يكنْ يَشملُنا الدّعاء!

 مَن أوّل مَن اكتشف نبوءة الأدب والشّعر عندك؟ وكيف جاءت بدايتك مع الكتابةِ والنّشر؟
 لعلّ هذهِ المكتبة جعلتني أُقبِلُ على القراءة، وحتّى تجربة الكتابة في سنٍّ مُبكّر، وأذكرُ يومًا استدعاني أبي وأنا في الصّفّ الرّابع، لأقرأ على ضيوفِ ديوانِهِ قصّةً قصيرةً ألّفتُها عن قريتي، طمرة يا ستّ القرى، فيكِ لا نجوعُ ولا نعرى. وكانَ مِن ضيوفِ الوالد الشّاعر أبو السّعود الأسدي قال: "بنتك راح تصير شاعرة أو أديبة"، وظلّ قولُهُ يضجُّ في رأسي، وأنا أتخيّلُ اسمي بارزًا على غلافِ كتاب. وأبدأ بالكتابةِ وتكونُ مقالتي الأولى مقالةً سياسيّة، تحتَ الحروفِ الأولى مِن اسمي الكامل جاءتْ في مجلّة المرصاد عام 1965.

 كيف لعبت الأجواءُ السّياسيّة ونكبة 48 ونكسة حزيران دورًا في إثراء موهبتك وانطلاقتك الأدبيّة؟
 عندما أتممتُ صفَّ الثّامن أرسلّني أبي إلى مدرسةٍ داخليّةٍ في النّاصرة، ولم أستطعْ تحمُّلَ ضوابطِ وقيودِ الرّاهبات، فكانَ التّحدّي وعدمُ الطّاعةِ والعنادُ صفةً ملازمة، فاشتكت المسؤولة لأبي، ولم يَمنحْني فرصةَ التّجربةِ للتّأقلم، وأعادَني إلى البيت: "هون محلّك.. اللّي مثلك مش لازم يتعلّم". لم تشفعْ لي دموعي ولم يُنصتْ لرجاءِ أمّي، وغادرتُ المدرسة قبل أن أنهي صفّ العاشر بشهر، وأقبلتُ على المطالعةِ بنهمٍ وشغف.

وعام 1967 كان عامًا مفصليًّا غيّرَ مسارَ حياتي بعدَ حرب الأيّام السّتّة واحتلال القطاع، وذهبَ والدي يبحثُ عن شقيقتِهِ اللاّجئةِ في خان يونس، فالتقى بها وحاول أن يُعيدَها مع أفرادِ أسرتِها بعدَ غيبةِ عشرين عامًا، وكانَ لها ابنةٌ في مثلِ سنّي أصبحتْ صديقةً بل اكثر من ذلك، حينَ اصطحبَني أبي لزيارةِ عمّتي بقيتُ في خان يونس لمدّةِ شهرٍ، لألتقي العالمَ الّذي يختلفُ عن كلِّ ما مرّ في عالمي القريب، فالفتياتُ هناك مثقّفاتٌ متعلّماتٌ جريئاتٌ لا قيودَ ولا حدود! هناك الغربةُ والشّوقُ والحنينُ والتّوعّدُ والوعيدُ واللّجوءُ واللاّجئين، ومخيّمُ خان يونس ظاهرُهُ العوَزُ والفقرُ والقهرُ، وباطنُهُ عزّةٌ وكرامةٌ وإباءٌ وشهاداتٌ جامعيّةٌ دُسّتْ بينَ الأوراقِ، واحتلّها غبارُ المخيّم والزّمن! كنتُ أرى وأنصتُ وتعتصرُني المشاهدُ وتأسرُني القضيّة، ويهزُّني سؤالُهم: أنتم عرب 48 ماذا فعلتم للقضيّةِ؟ يقولون أنّكم صرتم يهود! ولا أجدُ الحروفَ التي تدفعُ عنّا الاتّهامَ، ولا أتصوّرُ دَوْرَنا؛ لا شكلَهُ ولا لونَهُ ولا طعمَهُ، لكنّي عدتُ أصطحبُ مجموعةً مِن صورِ الزّعيمِ الرّاحل عبد النّاصر الّتي كانت تملأ الصّحفَ والمجلاّت هناك، لأستعرضَها وصديقاتي، ونتقاسمَ قصاصاتٍ لوجوهِ عبد النّاصر وزوجتِهِ ونهرو وفيتو وبومدين والقذافي والجعفري وبن بيلا، صورٌ لها ملامحُ اشتعالِ ثورةٍ تتأهّبُ للانطلاق، مجهولةٌ معالمُها في إطلاقِ صرختِها.

 ما بين المختار وزوجتِهِ مكتبة وصفط هريسة.. أين وجدت فاطمة ذياب نفسَها بين الثقافتين؟
 كانَ والدي مُطالِعًا مِنَ الدّرجةِ الأولى، وكلّما سافرَ إلى المدينةِ يعودُ بمجوعةٍ مِنَ الكُتبِ، فتقولُ أمّي معاتبةً: "لو جبت صفط هريسة أحسن مِن هالحكي الفاضي"، وأُقبِلُ على هريسةِ أبي وأقرأ، ويَعِدُني أن تصبحَ لي حصّةٌ مِن الهريسةِ، وبالفِعلِ أصبحَ يَمدُّني بقصصٍ تناسبُ جيلي، مجموعة الكيلاني وقصص أخرى مترجمة، أقرؤُها وأعيدُ سردَها لبناتِ صفّي. وذاتَ مرّةٍ استرسلتُ في سرْدِ قصّة، ووضعتُ لها نهايةً مِن عندي، (لا مِش هيك خِلصت القصّة)، اعترضتْ شقيقتي الّتي تكبرُني، وكانَ الرّدُّ بين أسناني عضة لا تنساها.

كبرت الطفلةُ وكبرت معها، ولم تعُدْ هذهِ القصصُ تلائمُ فكري وميولي، ورُحتُ أُقبِلُ على قصصِ إحسان عبد القدّوس، وذاتَ يومٍ ضبطَني والدي بجريمةِ قراءةِ إحسان، وعلا صوتُهُ وهو يصفعُني ويصرخ: إحسان يا بنت الكلب؟ وتهرعُ أمّي: "وطّي صوتَك الدّيوان مليان زلام، أنت قول لي مين إحسان ابن مين". فينهرُها قائلاً: "أنت ما عرفتِ تربّي بنتك. وأصيرُ ابنةَ أمّي حينَ أخطئ، وإن قمتُ بعملٍ صائبٍ من وجهةِ نظرِهِ أكونُ ابنته، وظلّ إحسانُ رفيقي خلسةً حتّى غادرتُ بيتَهُ عروسًا.

 ماذا عن الإنتفاضةِ في طمرة الجليليّة!
 في أحدِ صباحاتِ شباط الماطرة مِن عام 1968، إذا بالشّوارعِ الرّئيسيّةِ تضجُّ بصورٍ وملصقاتٍ ومناشيرَ تدينُ الاحتلالَ وتتوعّدُ بالثّورة، وإذا بالشّرطةِ تحتلُّ القريةَ معتقلةً الشّبابَ وكلَّ مَن على عتبةِ الامتحانات، وصوتُ العربِ مِن القاهرة ينقلُ الخبرَ؛ "انتفاضةُ عرب 48 في قريةِ طمرة في الجليل الغربيّ"!
الشّرطةُ توصّلتْ إلى الآلةِ الكاتبةِ الطّابعةِ الّتي استُخدِمتْ في طباعةِ المناشيرِ باللّغةِ العبريّة، واعتُقلَ ابنُ عمّي، وصوتُ العرب أعلنَ عن إصدارِ الحُكمِ على المناضلِ البطلِ بسجنِهِ الفِعليّ سنةً كاملة!

 ما دوْرُ أبيك على مستوى البلد والمخترة؟
 كانَ والدي مختارَ البلد، وأخذ المخترةَ مِن والدِهِ، وعامَ 1956 عُيّنَ كرئيسٍ للسّلطةِ المَحلّيّة، وعام 1959 انتُخبَ كعضوٍ للكنيست، ولم يَدُمْ في منصبِهِ إلاّ عامَيْن، بعدَ أن أعلنَ عن مواقفِهِ المبدئيّةِ المتعلّقةِ؛ بقانونِ تركيزِ الأراضي الّذي صوّتَ ضدّهُ، وقانون تحديدِ الوقفِ الإسلاميّ الّذي عملَ مِن أجلِهِ، ورفضهُ لقانونِ التّجنيدِ الإجباريّ، وحرصه على مساواةِ الميزانيّاتِ للسّلطاتِ العربيّةِ مع السّلطاتِ اليهوديّة، ثمّ شغلَ منصبَ رئيسِ مجلس التّبغ عام 1966 حتى 1968.

 ماذا عن فاطمة ذياب أدبيًّا وأسَريًّا؟ هل وجدت مساحتها "الحلم" في زوج وأسرة؟
 مضيتُ في طريقي مُقبلةً على الكتابةِ وعلى الزّوجِ الّذي تغلغلَ معَ الأيّام إلى كلِّ ذرّةٍ في كياني، أحببتُهُ، ولهذا الحبِّ المذاقُ الآخر مِنَ العِشرةِ والأيّام والأولادِ والتّفاهم، وبكلِّ الأحوالِ هو الحُبُّ مهما احتجَّ الماضي أو عاندَ أو كابد.

معًا بدأنا مشوارَنا، كانَ مُثقّفًا مُقبِلاً على الحياة، وبكلّ الأحوالِ والظّروفِ بدأتْ مسيرةٌ أخرى مِنَ الأيّام، حيثُ لم أُنجبْ إلاّ بعدَ ثلاثةِ أعوام، وفي هذهِ الفترةِ الزّمنيّةِ أعددتُ "رحلةٌ في قطارِ الماضي" روايتي الأولى، مبتدئةً إيّاها بقصّةٍ قصيرةٍ "خواطرُ عاقر"، الّتي جسّدتْ واقعي آنذاك، وتأتي الصُّدَفُ أن يُصدرَ الكتابُ في نفسِ العامِ الّذي وُلدتْ فيهِ ابنتي البِكر رشا، وأنشأ لي زوجي مكتبةً لبيْعِ الكتبِ والمجلاّتِ وكلِّ ما يتعلّقُ بالأدب، وكانتْ أوّلَ مكتبةٍ في بلدِنا عام 1972، ومَحجّةً لكلِّ المثقّفينَ مِن بلدي، وفي هذهِ الأثناء عُرضت الرّوايةُ على د. سعيد زيداني، الّذي شجّعَ الفكرةَ وكتبَ المُقدّمةَ، وبدأ مشوارُ الإصدارِ بزيارةِ عكّا وحيفا والنّاصرة، لإصدارِهِ مِن دارِ القبس في عكا 3000 نسخة ب 6000 ليرة، وآنذاك اعتبرَت الخطوةُ جنونيّةً مِن حيث أعداد النّسخ والمبلغ المدفوع، وبهذهِ الخطوةِ دخلتُ عالمَ الأدبِ مِن حيثُ لا أدري، كأوّلِ قاصّةٍ روائيّةٍ في هذه الدّيار، وكانت "ملامح وأضواء على أوّل مجموعةٍ قصصيّةٍ تُصدرُها امراةٌ في بلادنا" كتبها محمود كناعنة في الأنباء.

 كيف تقبّلَ المجتمعُ الفلسطينيّ روايتَكِ الأولى؟ وكيف كانَ موقفُ والدك منها؟
 كمجتمعٍ مثقّفٍ بوركَت الخطوة، وكمجتمعٍ محافظٍ هوجمَ الكتاب، وكانَ أبي مع مَن هاجمَ وصرخَ وتوعّدَ، والمضمونُ لم يكنْ مألوفًا ولا حتّى في أسوأ أحلامِ المختار، فقالَ "هذا ليسَ أدبًا، بل قلّة أدب". وبدأت معركةُ التّحدّي بينَ الرّجالِ مِن جهةِ الأب، ومِن جهةِ الزّوج الّذي أخذّ على عاتقِهِ بيْعَ وتوزيعَ الكتاب، وساعدَهُ في ذلكَ صديقُهُ محمّد يونس أبو الهيجا الّذي كانَ يقطنُ في حيفا، ووُزّعتْ نسخُهُ على جميع المناطقِ مِن المغار إلى بئرِ السّبع، وتحدّثتْ عنهُ الصّحافةُ والإذاعةُ والتّلفزيونُ.

باختصار؛ أحدثَ الكتابُ ضجّةً حتى أنّ البعضَ طالبَ بحرْقِهِ ومعاقبةِ كاتبتِهِ.

لا أنكرُ أنّ هذهِ الأحداثَ مجتمعةً أثّرتْ على مسيرتي، وإن كنتُ قد تلقّيتُ الدّعمَ المعنويّ مِن خلالِ رسائل مشجّعة، مِن د. نبيه القاسم، د. فتحي الفوراني، حنّا أبو حنّا وغيرهم، ومِن الوسطِ النّسائيّ سعاد قرمان، حيثُ استضافتْني آنذاكَ في برنامجٍ تلفزيونيّ، وكانت لقاءاتٌ صحفيّةٌ مع داليا مزور، ويوئيل دار في صحيفة يديعوت أحرونوت، وهآرتس، وجوراليزم بوست، ورغمَ كلِّ هذا ظلَّ موقفُ الوالدِ هو الأكثرُ تأثيرًا، حيث انقطعتُ عنِ الكتابةِ وانشغلتُ بإنجاب شادي وبلال وأحمد.

من ثمّ أطلّت الكاتبة هيّام قبلان في وفي 1975- 1980، وتلتها شوقيّة عروق، وأذكرُ مقابلةً تلفزيونيّةً مع الزّميلة شوقيّة جعلتني أعودُ للكتابة مِن جديد حينَ سألَها المُذيع: "هل ستختفي شوقيّة كما اختفت فاطمة ذياب"؟ صاحت: "أنا لستُ فاطمة ذياب، أنا جئتُ لأستمرّ"، ولحظتها وضعتُ رضيعي أحمد وتناولتُ القلم، وعدتُ وما أحلى الرّجوعَ إليه قلمي ومداد حبرِهِ!

 كتبت فاطمة ذياب قضيّتها الإنسانيّة بعدَ وفاةِ والدِها حول تقسيم الإرث بين الإخوة. ما الذي دفعَكِ لكتابة قضيّتك في الإعلام؟ وهل وظّفتِ الكتابةَ والفنّ والمسرح لطرح قضيّتكِ الإنسانيّة، ومحاربةِ العاداتِ المُجحِفةِ بحقّ المرأة؟
 عام 1984 توفّيَ والدي، وبدأتْ محطّةٌ جديدةٌ مِنَ الأيّام العصيبةِ، والمواجهةِ الحقيقيّةِ معَ العائلةِ والميراثِ، وعلاقةِ الأخواتِ معَ الأخ، وعلاقةِ الأخ بأمّهِ، تلكَ العلاقاتُ الّتي تأزّمتْ ورافقَها التّهديدُ والوعيدُ، عندما استقرَّ رأيُ البناتِ على أخذِ نصيبِهنّ مِن ميراثِ الأب.

لقد وقفت العائلةُ وقفةَ رجلٍ واحدٍ في وجهِ البناتِ، عيب، عار، قلّة ذوق. ومع كلِّ العيبِ والعارِ وقلّةِ الذّوق ظللتُ أقودُ المسيرةَ مِن محكمةٍ إلى أخرى، مستندةً على القانونِ والشّريعةِ.

كتبتُ "قضيّةً نسائيّةً" لأدعمَ فكرتي وأبلغُ رسالتي، لكن لم أنجحْ في الوصولِ إلى غايتي. وفي عام 1987 أتاحَ مسرح "بيتُ الكرمة" فرصةَ كتابةِ مسرحيّة "سِرُّكَ في بير"، تعمّدتُ أن تكونَ عن الميراثِ، ففازتِ المسرحيّةُ وأُخرجَت على منصّةِ المركز الجماهيريّ، عندها استطعتُ أن أقولَ إنّني حقّقتُ الهدف، فهذا الجمهورُ الطّمراويُّ أقبلَ بكلِّ حواسِّهِ وتعاطفَ مع قضيتي الّتي كادتْ أن تُكلّفَني حياتي ولم أبالِ، ومِن خلالِ قصيدةٍ شعبيّةٍ خاطبتُ القلوبَ، رَقّت العقولُ وتماهتْ.

بدا لي أنّ هذهِ المعتقداتِ المتأصّلةَ المتجذّرةَ في التّراثِ والموروثِ بدأت تتحلّلُ وتتّجهُ إلى الانعتاقِ مِن قيودِها، واستطعتُ أن أسجّلَ أنّ ما كتبتُ وجسّدتُ مِن أعمالٍ شخصيّةٍ وأدبيّةٍ تُعتبرُ خرْقًا للمألوف، وهذا الاختراقُ وإن أدمى مسيرتي لكنّه يُسعدُني، وأنا أعتبرُهُ إنجازًا أمامَ الواقع اليوم، فهناكَ على الأقلّ فئةٌ مِن الّذينَ يمنحونَ الفتاةَ حقّها، إذن؛ هي قفزةٌ نوعيّةٌ ومرحلةٌ انتقاليّةٌ لاختراقِ العادةِ والمألوف، أعتبرُها الإنجازَ الأهمَّ والأكبرَ.

 ما هي الأمورُ التي جعلت والدَك يُغيّرُ رأيَهُ اتّجاهَ كتاباتِك؟
 قبلَ نهايةِ 1982 كانَ لي إصداران للأطفال، وهي التّجربةُ الأولى للمرأةِ بالنّسبةِ للكتابةِ للأطفال، وعام 1983 أصدرتُ مجموعةَ خواطر وهواجس وقصص قصيرة في كتاب (جرحٌ في القلب)، و(الخيال المجنون).
بصراحةٍ، كنتُ هنا في تراجعٍ مِن ناحيةِ الجرأةِ والمواضيع، ورغمَ هذا أعلنَ والدي رأيّهُ: "ها اليوم أنتِ أديبة"، أمّا أنا فما كنتُ راضيةً عمّا قدّمت.

 بعدَ كلِّ هذا المشوار.. هل تمّ تكريمُ فاطمة ذياب؟
 عامَ 1995 قدّمتُ مجموعتي "جليدُ الأيّام" لدائرةِ الثقافةِ العربيّة، على أثرِ المهرجاناتِ الدّاعمةِ للمبدعاتِ العربيّات، وصدَرَ الكتابُ عامَ 1995، وحصلتُ على التّكريمِ اللاّئقِ مِن بلديّةِ طمرة والكاتب محمّد علي سعيد في حفلٍ مهيب، بمشاركةِ عدّةِ مؤسّساتٍ؛ دائرةُ الثّقافة، المركز الجماهيريّ، مؤسّسة الشّرق وبلديّة طمرة، وكانَ أكبرَ تجمّعٍ أدبيٍّ تشهدُهُ البلدة. أعلنَ د. هشام أبو رومي نيّتَهُ في إصدارِ كتابٍ قادمٍ لي وللأديب محمّد علي سعيد، وهكذا كان، قدّمتُ لهُ رواية "الخيطُ والطّزّيز" ليتمّ إصدارُها مِن بلديّةِ طمرة، وقد كانت الرّوايةُ مُعدّةً للمنافسةِ على جائزةِ السّلطةِ الفلسطينيّة، ولأسبابٍ فنّيّةٍ لم تفُز الرّوايةُ، لكنّها منحَتْني فرصةَ لقاءِ العمرِ مع الشّاعرةِ فدوى طوقان والأديبة ليانا بدر، ومحمود شقير، وفرصةَ حضورِ الاحتفالِ في جامعةِ النّجاح بنابلس، حيثُ ألقى رئيسُ السّلطة ياسر عرفات كلمتَهُ، والّتي أشرتُ مِن خلالِ زاويتي الأسبوعيّةِ في صحيفةِ الصّنّارة عن هذا الحدث.

 هل مَثّلَ عملُكِ في الصّحافةِ مرحلةَ الهروبِ مِنَ الواقع إلى الكتابة؟
 بالنّسبةِ للعملِ الصّحفيّ بدأتُهُ عامَ 1994 بزاويةٍ أسبوعيّةٍ تحتَ عنوان "مذكّراتُ زوجة" في جريدة الصّنّارة، استبدلت فيما بعد (بحروفٍ ليلكيّةٍ وأخرى)، وعام 1998 استدعيتُ للعملِ المكتبيّ في الصّحيفة، وبدأتُ كعضوٍ مِن هيئةِ التّحرير للأعداد الأولى لمجلّة (ليلك) الصّادرة عن مؤسّسةِ الصّنّارة، إلى جانبِ العديدِ مِنَ المقالاتِ والمقابلاتِ والاهتماماتِ الصّحفيّةِ الجريئة، الّتي عالجتُها ضمنَ مجالِ عملي الصّحفيّ، وكانتْ لي مساهماتٌ في صحيفةِ بانوراما وفصل المقال.

لقد اندفعتُ للهروبِ مِن معاناةِ الرّحيلِ والوحدةِ، وجعلتُ الكتابةَ والصّحافة العلاجَ السّحريّ الذي أنقذني مِنَ الانهيار، بسببِ رحيلِ هدى توأم الروح شقيقتي 35 سنة، والزّوج الرّوح وقارئي الأوّل والأغلى عام 1997، الّذي دعمَني ومنحَني الشّعورَ بالأمنِ والأمان في وجهِ كلِّ الأحداثِ الّتي عاركتها. خمسونَ يومًا وأجدُني في مواجهةِ الحياةِ والرّحيلِ والموتِ، وأحاولُ أن أقهرَهُ بكلماتٍ ورسائلَ صحفيّةٍ جمعْتُها في كتاب (جدار الذّكريات)، صدرَ عن دائرةِ الثّقافةِ والفنون.

 ما هي أهمّ اللّقاءاتِ المميّزة في مسيرةِ فاطمة ذياب؟
 اللّقاءُ المميّزُ في مسيرتي الصّحفيّةِ كانَ لقاءَ الشّاعرة فدوى طوقان، الّذي أعددتُ له جيّدًا وأحبَبتُهُ وسعيْتُ إليه، فقدّمت لي كتابَها "اللّحنُ الأخير" إلى فاطمة/ ذياب ذكرى لقاء أسعدني جدًّا/ من فدوى. وكنتُ أعدُّ العدّةَ بعدَها للقاءِ الشّاعر محمود درويش في رام الله، وكنتُ أعرفُهُ جيّدًا ومِنَ الأصدقاءِ الّذين يتردّدونَ على مضافةِ الوالد، وكانت لي معهُ عدّةُ مكالماتٍ هاتفيّةٍ، فقد هاتفني في يوم زفافِ ابني ليطلبَ منّي مساعدتَهُ بخصوصِ عاشقتِهِ الّتي طاردتْهُ برسائلِها اليوميّةِ، وقد نجحتُ بمهمّتي، ولكن ما حدث بعدَ مقابلة فدوى طوقان حالَ دون مقابلتِه، اذ قدّمتُ استقالتي لصحيفةِ الصّنّارة بسبب شِباكِ الصّحافة، فإنّ أحدَهم نشرَ في مجلّةِ سيّدتي الصّادرة في لندن جهدي ولقائي للشاعرة فدوى باسم المُحرّرةِ الرّئيسيّة للصّنّارة فيدا مشعور، وكنتُ قد باشرتُ العملَ في صحيفةِ كلّ العرب ومجلّة ليدي.

ولكن، لماذا فُرِشَ البساطُ الأحمرُ للقادمةِ مِنَ الصّنّارة وسُحِبَ فجأةً مِن تحتِ قدَميْها؟ الجواب في روايتي القادمة "رسائلُ مدينتي الريح".

 هل جُلدت فاطمة ذياب بسياطِ الصّحافة؟
 لابأس، لستُ وحدي مَن جُلدتْ بسياطِ الصّحافة، فهناك العديدُ مِنَ الأسماءِ والوجوهِ النّسائيّةِ التي غابت أعمدتُها الأسبوعيّة، عايدة خطيب، هيام قبلان، فاطمة ذياب، حنان بشارة، وأسماءٌ أخرى كان لها قرّاءٌ وحضورٌ وغُيّبت، و"مدينة الرّيح" روايتي القادمة ستُسلّطُ الضّوءَ على هذا الوجع، وعلى أوجاعٍ أخرى يعانيها حملة الأقلام في هذه الدّيار وخاصّة أقلام النّساء. ولم أتوقف. أصدرتُ مجموعةً قصص أطفال عام 2008، وهناك مجموعات أخرى قيدَ النّشر للأطفال، وأعدتُ طباعةَ "الخيط والطزيز" وقصّة "توبة نعامة"، وتمّ ترجمة العديد مِن القِطع الأدبيّة لعدّة لغاتٍ عبريّةٍ وإنجليزيّةٍ وألمانيّة، إلى جانبِ عشراتِ الأبحاثِ الجامعيّةِ الّتي تناولتْ مسيرتي الأدبيّةِ بالبحثِ والتّحليل.

 ماذا عن تجربتك الإذاعيّة وما كُتبَ عنكِ؟
 كنتُ أطلُّ مِن خلالِ برنامجٍ إذاعيٍّ أسبوعيٍّ لراديو ألفين من النّاصرة، "كي تشرق الشّمس" حنان بشارة، وبرنامج تلفزيونيّ (ليلك) سهى عراق، ويكفيني اعتزازًا أنّني سجّلتُ الرّيادةَ النّسائيّة في غالبِ مشاريعي الأدبيّة في بلادنا، فكُتبَ عنّي فيما كُتب:

عام 1973 ملامح وأضواءٌ على أوّلِ مجموعةٍ قصصيّةٍ تصدرُها المرأةُ في بلادِنا. وعام 1982 "توبةُ نعامةٍ" أوّل قصّةٍ تكتبهُا المرأة للأطفال. وعام 1987 أوّلُ مسرحيّةٍ بقلمٍ نسائيٍّ "سرّك في بير". وعام 1988 "تينة ليلى" أوّلُ حكايةٍ شعبيّةٍ كتبتُها تتحدّث عن قتلِ المرأةِ على خلفيّةِ الشّرف. وعام 1994 "مذكّراتُ دبدوبة" مقالاتٌ ساخرةٌ للمرّةِ الأولى.

 كذلك، أنتِ المرأة الأولى التي ترشّحُ نفسَها لانتخابات بلدتِها. كيف كانَ ردّ فِعل المجتمع والعائلة وقتها؟
 على المستوى الشّخصيّ كنتُ أوّلَ امرأةٍ في بلدي تتقدّمُ في ترشيحِ اسمِها للانتخابات. لم أفُزْ لأسبابٍ سياسيّةٍ وعائليّةٍ، ولكنّني أقرُّ أنّ عائلة زوجي وقفت إلى جانبي مؤيّدةً ومشجّعة، وأنا أعتزُّ بموقفِها، ويكفيني شرفًا أنّني مِن جديدٍ أخترقُ المألوفَ لأمهّدَ الطّريقَ للقادماتِ مِن بَعدي.

بعدَ كلِّ ما واجهتِ في مسيرتِكِ الحياتيّةِ والثّقافيّةِ والاجتماعيّة، ما هو وجهُ التّغيّر الذي تلمسينَه في المجتمع؟
نعم كلّ شيءٍ تغيّر، لا الحياةُ هي الحياة ولا الأولادُ هم الأولاد، وهذا الانفتاحُ الملعون هو نقمةُ العصر، فأين دوْرُ الآباء والاحترامُ والطّاعة والأخلاق؟ أين المبادئُ وصِلة الرّحم والأرحام؟ أين الصّدق والقربى والأقرباء؟ وألفُ أين وأين! نحن جيلٌ لم نُحْسِن تربية أولادِنا، ويؤلمُني الحالُ الذي وصلْنا إليه مِن قتلٍ واعتداءٍ وجرائم، مِن انحطاطٍ خلقيّ وتدهورٍ اجتماعيّ، ومع كلّ هذا، ما كنت متشائمة في يومٍ من الأيّام، فهناك طفرةٌ إيمانيّةٌ هي الضّوءُ في هذا النّفق، ومَن شاءَ الهداية يُسّرتْ له، والفرارُ إلى الله، ولا أحدَ غيره يُصلحُ الحالُ ويهدي البال.

 فاطمة ذياب تجلسُ على مقاعد الدّراسةِ مِن جديد؟
 نعم، أشكرُ الله الذي ألهمّني أخيرًا للإقبالِ على كتابهِ الكريم في دراسةٍ لاحكامِهِ وتجويدِهِ في كليّةِ الشّريعةِ في أمّ الفحم المثلث، فأنا الآن تلميذةٌ على مقاعدِ الدّراسة، أحاولُ أن ألتمسَ الهدوءَ والرّاحة والسّكينة والاطمئنان " ألا بذِكْرِ الله تطمئنّ القلوب"، وكلُّ رجائي أن يمدّني الله بالعمرِ والصّحة كي أؤدّي فريضة الحجّ، وكي أتابعَ مع القرآن الذي هو دستور الحياة وواحة الضّالين، والكنز الأعظمُ الذي يمدّني بالصّبر والأمان.

 ما هي الرّسالة الّتي توجّهُها فاطمة ذياب للمرأة وللجيل الجديد؟
 صدّقيني سيّدتي، لا تخافي مِن المجهول، بيدِك سطّري حروفَ أيّامِك وحياتِك. يمكنُكِ أن تكوني إذا كنتِ أنتِ أنتِ لا غيرك.

أمّا الآن وأنا على عتبةِ السّتّين جدّةٌ ولي أحفادٌ وقصّةٌ وحكاياتٌ مِن جيلٍ إلى جيل، فقط كي أكونَ أجملَ مِن خلالِ عيونِ أحفادي أقول: اهتمّوا بالقراءةِ والمطالعةِ والتّأمّل والصّبر والإرادة ومعرفةِ الهدفِ وتحديدِ الغاية، وكلُّ هذا لا بدّ له مِن مواجهةِ التّحدّيات، فتلك أيّامي بكامل تفاصيلِها تجربةٌ غنيّةٌ، عندما ناقشتُ قضيّةَ الميراثِ وقتلِ المرأة على خلفيّةِ الشّرف، ولامستُ قضيّة الأرملة حتّى قبلَ أن أكون كذلك، وقضيّة الطّلاق وغيرها من القضايا التي تلامسُ واقعَ المرأة، من منطلقِ قوْلِ رسول الله (صى الله عليه وسلم):
"ما أكرمهنّ إلاّ كريمٌ وما أذلّهنّ إلاّ لئيم" و "النّساءُ شقائقُ الرّجال".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى