الجمعة ٣٠ أيار (مايو) ٢٠٠٨
قراءة نقدية في مجموعة (بحر رمادي غويط)
بقلم خضر محجز

حين تتفكك العوالم

لذكرى الزميل المبدع زكي العيلة

لا تتحقق أدبية الأدب من حضور كلمة بعينها، أو من وجود تركيب لغوي بذاته، في هذا النص أو ذاك: فالحقيقة أن كل الدوال اللغوية تعمل بالطريقة نفسها، والكلمات تتشابه في آليات إحالتها إلى المعاني. وقديماً أكد الجاحظ على أن كل المعاني ملقاة على قارعة الطريق، وإنما العبرة في طريقة استخدام الكلمات، وأن تحقق الأدبية إنما يكون من خلال منظومة علاقات تجمع بين الكلمات والجمل والفقرات. وهذه المنظومة كلها هي ما يطلق عليها البنيويون مصطلح (البنية)، أو هي ما سبق أن قال فيها الناقد العربي الكبير عبد القاهر الجرجاني: "إنها خصوصية في نظم الكلم، وضم بعضها إلى بعض، على طريق مخصوصة، أو على وجوه تظهر بها الفائدة". نافياً بذلك تعلق الفصاحة بمجرد اللفظ، حيث يواصل قائلاً: " كيف، والألفاظ لا تتغير حتى تؤلف ضرباً خاصاً من التأليف، ويُعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب؟!".

إذن، فالكلمة وحدها لا تعبر عن منظومة، وكذا مجرد الجملة. لكن وضع الكلمة بين كلمات أخرى، ووضع الجملة بين جمل أخرى، ووضع الفقرة بين فقرات أخرى، هو الذي يحقق الأدبية أو ينفيها، بحسب براعة المؤلف وقدراته اللغوية ومواهبه السماوية. فيتحقق بذلك الإدهاش، وتنشأ الفجوة بين الاستخدام اليومي والوظيفي للغة العادية، من جهة، وبين الاستخدام الجمالي، من الجهة الأخرى؛ وتشتغل اللغة على نفسها، فتطرق المعنى أو المحتوى الثقافي للنص، بأدوات غير مباشرة.

فلنلاحظ كيف يفعل زكي العيلة ذلك في مجموعته القصصية "بحر رمادي غويط":

1ـ حين تتفكك العوالم الواقعية، هناك "نوافذ أخرى للبوح":

في القصة الأولى في المجموعة، والتي تحمل العنوان "نوافذ أخرى للبوح"، ومنذ اللحظة الأولى، يلاحظ المتلقي أنه يقف بين عالم من الأنقاض: حيث تتفكك العوالم، ولا يعود بالإمكان إعادة تركيبها؛ وذلك حين ينشئ المؤلف الضمني قراءة غاضبة لمرحلة ما بعد أوسلو. ففي تأمل رافض، يوجه الراوي عدسة الكاميرا نحو أدق أسرار المشهد، وأكثرها بشاعة، نافذاً بعدسته ـ من وراء كل البهارج الشكلية ـ إلى البنية العميقة لمشهد ما بعد أوسلو. فلنلاحظ في هذا المقطع، كيف يتم توظيف هذه البهارج الخادعة كخلفية، مهمتها إبراز التناقض الحدي، الحادث بين كل من الشكل الخادع، والمضمون الأعمق:

"النيونات عريشة تبهر البصر... تاكسيات يتصاعد منها عطرٌ نفاذٌ وأغانٍ صاخبة.. بحر شاسع على بعد أمتار يتقيأ زبداً ورغواً"(ص8).

وإذ ظل الراوي، حتى المقطع السابق، غير خارج عن إطار الوصف: وصف الخلفية الشكلانية للمشهد المكرور؛ فلقد نراه يسدد ضربته ـ بطريقة فجائية ـ إلى كل مشاهد القبح التي أنتجها أوسلو. فجأة يضرب زكي العيلة ضربته على شكل لقطة "زوم"، مركزة على البنية العميقة، التي قام عليها المحتوى الفكري الكامل، لهذا المشهد القصير؛ ليقول لنا فوراً:

"هاتف نقال يتحدث، ربما، عن صفقة وقود، أو أغذية مضروبة"(ص8).

ها نحن نرى الراوي يكشف عن نواياه أخيراً، إذ يقرر أن الهاتف النقال يتحدث عن صفقة وقود أو أغذية فاسدة.

ولئن بدت الأيديولوجيا هنا ظاهرة، بما يهدد بكشف الأدوات الفنية؛ فلقد نرى الراوي يعود في حركة التفافية سريعة إلى التخفي، أو إلى الخداع: خداعنا نحن المتلقين عن حقيقة المشهد، بما يمكن أن يثير انتباهنا. إنه يوظف "الإنساني" فينا، لكشف بشاعة السلطة المشتراة بالشرف. يريد الراوي أن يقول لنا: لا تتوقعوا من كل من كان في موقع السلطة أن يكون مجرد متاجر بأقوات الفقراء، فلربما يمكن أن يكون هذا المسؤول ـ الذي ترصده عدستي ـ منشغلاً الآن بترتيب موعد مع امرأة!. وحري بمن كان هذا حاله أن نحسن الظن فيه، على اعتبار أنه مجرد إنسان له الحق في الحب. لقد كان كل ذلك ممكناً، لولا أنه عاد ليرسم لنا المشهد، بطريقة توحي بأنه ليس مجرد راوٍ موضوعي محايد، يقول ما يرى فحسب، بل هو راوٍ أيديولوجي شديد المكر، يسعى إلى تفتيت العالم، وإنشاء عالم آخر مكانه، أكثر جمالاً، أو أقل قبحاً على الأقل. ولنرصده يقول:

"ربما يرتب موعداً مع امرأة بلحم وفير متأجج، تزوم وهي تفتح خزائنها المشتهاة"(ص8).

فالمرأة المشتهاة في هذا المشهد ليست مجرد أنثى، بل هي ذات لحم وفير، يعاني من التخمة في وجود الجوعى، وتمتلئ خزائنها المشتهاة بالملابس الغالية الثمن، وسط مجتمع يعاني من قهر الاحتلال والفقر والمرض. ألسنا نرى هنا كيف تتخفى الأيديولوجيا وراء العديد من الضوابط الفنية، التي من أهم مهماتها خداع المتلقي عن حقيقة اهتمامات الراوي!.

إن هذا المشهد "الإنساني" يراد به أن يصرفنا، بالفعل، عن توجيه النظر المباشر نحو الاهتمامات الحقيقية للراوي: انتقاد صفقات الأغذية الفاسدة، التي يجريها عقداء السلطة ووكلاؤها، ولفت النظر إلى ذلك الحلف غير المقدس القائم، من جهة، بين الشركاء ـ الذين هم بالصدفة متنفذون في السلطة ـ وبين موردي الوقود الإسرائيليين، من الجهة الأخرى. إذن، فلم يكن الهم الأساس للراوي أن يقودنا إلى حواسنا الملتهبة، بتصور المرأة المتأججة التي تفور بالشهوة وفعل الجنس، بل أن يوظف كل تلك الشهوة البشرية، في نقده الأيديولوجي لسلطة أوسلو.

لا جرم، فهكذا يفعل الأدب الجيد عندما ينتقد واقعاً سياسياً: إنه يجعل المحتوى السياسي للنص تحت الجلد، تحت قشرة النص، متخفياً بدهاء لا يكشفه إلا متلق خبير. وهكذا يفعل النقد العلمي، عندما تكون مهمته كشف هذه الألاعيب الفنية، وقيادة المتلقي لقراءة النص قراءة كاشفة، تحلل علاقاته، وتكشف بنيته العميقة. وهكذا يفعل زكي العيلة في كل قصص مجموعته هذه، حين ينوع أدواته فيخفي بعضاً منها، ويبرز بعضاً آخر.

2ـ "دنكرك... الدهيشة": البنية الثقافية وعلاقات الإنتاج :

لقد رأينا ما فعل المؤلف الضمني في قصة "نوافذ أخرى للبوح". فماذا فعل في قصة "دنكرك... الدهيشة" من نفس المجموعة؟!. فلنحاول الآن الاستكشاف.

دنكرك مدينة في فرنسا زارها زكي العيلة وآخرون، في أوائل عهد السلطة الوطنية الفلسطينية، ضمن وفد من أدباء فلسطينيين، غطت أسماءهم وتحركاتهم الصحافةُ المحلية، في حينه. والمتفحص لإنتاجات زكي العيلة الأدبية، سوف يلاحظ أن هذه المجموعة ـ التي نحن بصدد قراءتها ـ قد صدرت في القدس عام2000، مع أن الكاتب يعيش في غزة، وحريّ بإصدارته أن تنشر في غزة!. فهل ضاقت علاقات غزة الإنتاجية بإصدار كهذا!. وما هي العلاقات التي تسمح بنشر نصوص أقل جودة في غزة، من خلال مؤسسات عامة أو شبه عامة، ثم لا تسمح لهذا النص بالظهور إلى النور؛ خصوصاً عندما نعلم أن إصداره الأخير ـ الذي جاء بعد هذه المجموعة ـ هو الآخر قد صدر عن مؤسسة في الضفة الغربية؟!.

لقد لاحظت أن الرجل مقل في إنتاجه الإبداعي، لأنه متمهل يكثف النصوص، يعيد المراجعة، ليخرج نصاً متماسكاً، قلما تجد فيه زائدة هنا أو هناك. ومع ذلك فهو يواجه تعثرات عند النشر ـ على الأقل في غزة ـ بينما نرى نصوصاً متكاثرة، لكتاب متكاثرين ومكثرين، ثم نجد علاقات إنتاج تسمح بصدورها، مبكراً، وفوراً، وبأموال عامة!.

وإذا كان كل هذا جزءاً من مشكلة الإنتاج والتلقي، ومنظومة الثقافة، في كل العالم عموماً، فإنه هنا، وفي هذا الجزء من الوطن المنكوب، أشد حضوراً، وأكثر ضرراً، خصوصاً ونحن نعلم أن أدوات الإنتاج الثقافي، يتحكم فيها قلة من الحزبيين، من متواضعي الموهبة، ومثيري الكثير من الضجيج على ساحة الحكم والتحكم. وإذا كانت أدوات النقد الثقافي قد تنبهت أخيراً إلى هذه الفضيحة الثقافية، وسلطت الضوء عليها؛ فلقد عادت إلى التأكيد على أن الأدب الجيد وحده هو الذي سيبقى في المستقبل، وهو الذي سيظل يستحق القراءة، حتى لو عانى من كل مصدات الإبداع في الحاضر. ولئن كان زكي العيلة قد مات جسدياً، فالمستقبل كفيل بالقول إذا ما كان سيعيش أدبياً، أم لا. وإن كنت أراهن أنه سيعيش، في حين تموت أسماء تدعي أن انتخابات "حزبية محسوبة ومضبوطة" تستطيع أن تعطيها شهادات إبداعية!. ولقد سُئلت ذات مرة عن مستوى أحد هؤلاء،، فقلت: "إنه أكبر مبدع لدينا، بدليل حصوله على أعلى الأصوات في الانتخابات المضبوطة!".

!ذن، فهذا الحديث وشجونه هو الذي يقودنا الآن لنتذكر رحلة زكي العيلة إلى دنكرك، المدينة الفرنسية التي زارها زكي العيلة، وأشار إليها هنا. أما الدهيشة، فمخيم بائس، في مدينة بائسة، في وطن بائس، يسيطر عليه أعداء بائسون، ويتحكم فيه متحكمون بائسون ـ وللبؤس دلالات متعددة ـ وتحكمه علاقات توازن وطنية صاغتها معاهدة أوسلو، التي وقعت فوق رأس المخيم، قبل زمن الكتابة بسنوات قليلة. فكيف يصوغ الراوي هذه الثنائية العجيبة، ما بين الغنى والفقر، أو الحرية والاحتلال، أو الثقافة والفساد؟. ثم كيف يغلف كل ذلك بغلاف من علاقات متشابكة، تحاول إخفاء محتواها السياسي الأقوى؟.

يقول الراوي:

"تحتمي بأنفاس نجوى. تغطس في ثنايا صدرها المرشوش برائحة بحر غزة، تلاحقك أنياب دوريات البر والبحر. تنتشر فوق مساماتك دمامل مفتوحة"(ص14).

حسناً.. نحن ـ سكان غزة ـ قد علمنا أن دوريات اليهود البحرية، بعد أوسلو، ظلت تسيطر على بحر غزة، وتمسحه طوال أربع وعشرين ساعة في اليوم. فما شأن دوريات البر!. واليهود لا يطأون البر!.. هل يريد المؤلف الضمني أن يقول إن دوريات العسكر الثابتة، لأجهزة السلطة الفلسطينية، تخدش حرية الإنسان، وتنتهك حرية الشاطئ، كدوريات اليهود تماماً؟. هل يريد المؤلف تذكيرنا بهذه المعسكرات، و(الإقطاعيات) التي حاصرت الشاطئ، ومنعت المواطنين من المرور، ثم رفعت علم فلسطين؟!.أنا شخصياً أظن ذلك، خصوصاً وأن بحر جباليا ـ التي أقطنها ـ لم أتمكن من الوصول إليه طوال سنوات، حتى جاء محمود عباس، في وزارته الأولى، وأعاده لي.

لكن محمود عباس لم يكن قد تولى السلطة، حين كتب زكي العيلة هذه القصة. ومحمود عباس لا يعارض أوسلو، مثل المؤلف الضمني الذي يوظف راويه ليقول، في نفس الصفحة وبعد كلمات قليلة:

"وغزة التي كانت تحلم بوسائد عرائس البحر، مازالت تتمرغ في مسالكها الموحلة، والبر شوك، البر أسلاك مدببة، البر أبراج مزينة بالقطيفة الحمراء"(ص14).

حيث تبرز الثنائية الفاجعة، بين غزة الحلم، وغزة الواقع: غزة التي كانت تحلم من أوسلو بوسائد عرائس البحر، فاكتشفت أن هذا الاتفاق لم يعطها إلا التمرغ في الوحل، والأبراج العالية التي تعتدي على جمال المكان، وحرية البشر، ثم هذه المعسكرات البائسة، لهذه القوات البائسة، المتعددة الأسماء، والتي من مهمتها سرقة البحر وخنق المواطن، رغم أنها ترفع علم فلسطين. ولو قدر لزكي العيلة أن يعيد كتابة هذه القصة، بعد انقلاب غزة المشؤوم، إذن لعاد إلى تذكيرنا برؤيته المتشائمة لدور هذه القوات، التي لم تستطع الدفاع عن نفسها ومواطنيها، حين لاحت لحظة الحقيقة.. هذه هي نتاجات أوسلو في نظر المؤلف الضمني: مدينة تحلم، وواقع بائس، احتلال لا يزول، وسلطة تمارس الغواية بأبراجها، وتمارس القوة الكاذبة بدورياتها، وتمارس حصار البحر بمعسكراتها العشوائية.. والإنسان مطحون، والبحر مضرب عن الحضور:

"والبحر واسع غويط، لا يعطي جسده إلا لمن يثق فيه"(ص15).

ها نحن نلاحظ ـ بعد العنوان ـ وصف البحر بالغويط. و"الغويط" كلمة شديدة العامية، يستخدمها الفلسطيني العادي بمعنى يقارب كلمة "العميق". فلماذا لم يستخدم زكي العيلة الكلمة الفصيحة؟!.. إن الأبراج المترفة المتعالية لا تعبر عن روح المكان، ولا عن شعور الإنسان.. إن الدوريات التي تقهر الشاطئ لا تتحالف مع الرجل العادي العامي الفلسطيني، وبذا فإن كل هذا العالم يمتلك لغة ليست هي لغة الإنسان الفلسطيني، الذي يمتلك لغة مختلفة، نبعت من باطن الأرض، من وحل المزارع، من عمق البحر. فليستخدم المترفون الأقوياء كلماتهم الخاصة، وليستخدم المكان لغته الأصيلة "الغويط".

نحن نرى هنا ثنائية (الأصالة/الغربة) في صورتها الواضحة، التي يريد المؤلف الضمني أن يقول إنها ترادف ثنائية أخرى هي (الجمال/القبح). فالبحر غويط، يحدث الفلسطيني المقهور بلغته. ولنترك للدوريات والأبراج أن تستخدم لغتها، التي يترفع عنها زكي العيلة. وهكذا كان بعد ذلك: إذ عاش البحر الغويط، فيما انسحبت دوريات البر، في انتظار تلاشي الأبراج ودوريات البحر، وتسلط الأقوياء!. ألم يقل زكي العيلة إن هذا البحر الواسع الغويط لا يعطي جسده إلا لمن يثق فيه؟!. فهل كان كاتب هذه السطور من هؤلاء الذين يثق فيهم البحر؟.. ربما. ألم نقل منذ البداية أن أغلب عوالم هذه المجموعة تتفكك، ثم لا يعود بالإمكان إعادة تركيبها، خصوصاً مع هذه البنية العميقة الرافضة لهذه العوالم، التي أقامها السياسي وحده، دون التفات إلى صوت التاريخ؟!.

3ـ "تحويلة": الأيديولوجيا في خدمة الجمال:

لقد تحدث الدارسون كثيراً عن "الراوي" و"المنظور" و"الموقع" و"وجهة النظر"... تحدثوا فيما لا طائل من إعادته هنا، أو استعراضه، لمجرد التعالم أو الادعاء. وخلاصة ما يمكن الاستفادة منه في هذه القصة، التي نحن بصدد إعادة قراءتها، هو محاولة وضع الحدود ما بين الراوي والمؤلف الضمني.

فالراوي في "تحويلة" هو شخصية من شخصيات النص، تتحدث عما تشاهده. أي أنه يساوي الشخصية، لا أكثر ولا أقل؛ الأمر الذي لم يدل عليه فقط استخدام الراوي لضمير المخاطب "أنت" في الحديث إلى نفسه، بل ـ إضافة إلى ذلك ـ اكتفاؤه بتصوير ما يراه هو، أو ما بلغ إلى علمه من الآخرين. وهذه هي إحدى تقنيات متعددة ومتاحة، يلجأ الكتَّاب إلى توظيفها، لدى رواتهم "الورقيين".

أما المؤلف الضمني، فهو شخصية الكاتب، التي يريد منّا أن نراها نحن المتلقين، من خلال نصه. وهذا نستكشفه من رصد منظومة القيم والأيديولوجيا والآراء السياسية، المبثوثة بين مفاصل النص الجمالي.

المؤلف الضمني في "تحويلة" شخص كاره لأوسلو، معارض للاستبداد السياسي، يرفض مظاهر القمع، يحارب استغلال السياسي للبسطاء في سبيل مصالحه الشخصية. نلاحظ ذلك من خلال قول الراوي:

"عاد رشاد لافي. تفكك الإبعاد. صفوف من الناس تسلم عليه، تهنئه بالعودة المباركة. تنضم إلى قافلة المهنئين. لا تدري لماذا أحسست ببرودة حالما نزعت أصابعك من يده!. الجلسة شعارات، انتفاخ: الدور الهام المنوط به. يلكزك جارك، يخبرك بأنه قد أبعد على ذمة تنظيم، وعاد محسوباً على آخر"(ص76).

إن الراوي، من موقعه الأيديولوجي، هو الذي يقول: "شعارات، انتفاخ". كما أنه هو الذي يهزأ من عودة أمثال هؤلاء المتسلقين، عندما ينقل أقوال السذج من الناس، في وصفهم لمثل هذه العودة، بـ"العودة بالمباركة". لكن هذا الموقع الأيديولوجي ـ أولاً و آخراً ـ يشير إلى المؤلف الضمني؛ وبشكل آخر، يشير إلى المؤلف كما يود أن يراه المتلقي. إنه يريد أن يكشف البنى العميقة لأوسلو، تلك البنى التي كانت متوارية تحت شعارات "الثورة" و"النضال" و"الوطن"... هكذا يريد المؤلف الضمني لقصة "تحويلة" أن يقول لنا: وذلك عندما يصور الراوي شخصية "المناضل" رشاد لافي:

"محباً للظهور، ميالاً للحركة، للعلانية، أضحى المرجع في حسابات الآخرين... يؤكد البعض أنه وراء كثير من المسائل الخلافية"(ص73).

ومع ذلك، فإن قيام العدو الصهيوني بإبعاده، يستثير الفقراء، الثوار الحقيقيين، للقيام بمظاهرات وفعاليات تتصدى لهذا القرار.ويتبدى موقف المناضل الحقيقي، رجل الشارع "حسن شاهين"، عامل التنظيفات في وكالة الغوث الغاضب، وهو يخاطب الراوي بقوله:

"هل سمعت يا أستاذ!. أبعدوا رشاد لافي، مع مجموعة من الشباب!. هدفهم تفريغ البلد!"(ص74).

وعلى الرغم من اعتراض المؤلف الضمني، على كل هذا الغضب، في سبيل شخص محب للظهور، ويكثر من افتعال المشاكل؛ إلا أن "حسن شاهين" يصر على الثورة والمواجهة والانتفاض، لأنه فلسطيني "بريء" من المصالح الذاتية، و"ساذج" يرى في هؤلاء المتعرضين لقمع الاحتلال أولاداً له:

"هؤلاء قطعة منا. لا فرق بينهم وبين ولدي بكر"(ص74).

فتكون نتيجة هذه "السذاجة الوطنية" أن يصاب حسن شاهين بإصابة بالغة، تسبب له الشلل الكامل، والجري وراء محاولة استصدار "تحويلة طبية"، تتيح له السفر للعلاج خارج البلاد. ولكن هذه "التحويلة" تتأخر، بسبب تعقيدات الاحتلال.

إلى هنا والأمر ما يزال عادياً، حيث حدث مثل هذا خلال الانتفاضة الأولى، مرات عديدة. وإذا كان الراوي يكتم اعتراضه على ما حدث، فإنه لا يفعل ذلك زهداً في الكفاح، بل زهداً في ارتباط هذا الكفاح بمثل هؤلاء "المناضلين المنتفعين"، وخوفاً من حدوث ما حدث بعد ذلك فعلاً. فالمؤلف الضمني يريد هنا تأكيد رفضه لمثل هذه الممارسات، التي تجعل من النضال فعلاً يثير أقسى مشاعر الندم والإحباط. حيث يعود "المناضل المبعد رشاد لافي" بالفعل، لترتفع وتيرة الأحلام لدى المصاب المشلول "حسن شاهين"، كون "رشاد لافي" ـ الذي أصبح الآن صاحب منصب كبير في سلطة أوسلو ـ يعرف قصة الإصابة. وحتى لو لم يعرف، فهو "مناضل" ولابد من أن يتعاطف مع المناضلين، خصوصاً وأن المطلوب ليس أمراً كبيراً: مجرد "تحويلة" طبية للعلاج في الخارج!.

لكن المناضل العائد، المنقلب على ذاته وطبقته، لا يحتمل مجرد وقوف المريض، بكرسيه المتحرك، في موقف سيارته أمام الباب. فيصرخ في "حسن شاهين" و"الراوي" كليهما:

"هل أصابكما العمى؟!. لِمَ تقفان هنا؟. ألا تبصران اللافتة؟!.."(ص78).

و هكذا أصبح للمناضل السابق "رشاد لافي" لافتة وسيارة وباب. وتفكك عالم "حسن شاهين" المصاب بسبب هذا "المناضل" وأمثاله!. هكذا حدث مرة واحدة، وهكذا سقط العالم المتفكك فوق رأسه. ونحن نرصد هذا التفكك من الخطاب اللغوي الذي يلملم أطراف المشهد البائس بقوله:

"لافتة تنتصب، كأنها حبل مشنقة، تعلن أن المكان موقف خاص لسيارة"(ص78).

"تكلبش على حافة الكرسي، تتحاشى النظر في وجه الراقد فوقه، الجذع المرخي، الظل والعين والمتراس، يتعالى صوت أنفاسه جرحاً غير مندمل، طنين في الأذن، جلطة صمت تزحف، نظرات مهروسة، الشارع يبدو ثقباً صغيراً، تجر الكرسي، ثقل حجر طاحون، تحس كأنك تجر سفينة تتكسر في غيوم متناطحة مشروخة"(ص78).

فماذا يريد أن يقول لنا الراوي بعد كل هذا عن أوسلو ؟! سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى!.

 [1]


[1زكي العيلة. بحر رمادي غويط. مجموعة قصصية. ط1. القدس. منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين.

1ـ دلائل الإعجاز. قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر. القاهرة. الهيئة المصرية للكتاب. مكتبة الأسرة. مهرجان القراءة للجميع. سلسلة الأعمال الفكرية. 2000. ص36.

2ـ عبد القاهر الجرجاني. أسرار البلاغة. تحقيق: محمد الفاضلي. ط1. صيدا ـ بيروت. المكتبة العصرية. 1998. ص8.
9ـ ص76


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى