الأربعاء ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم مروان أبو صلاح

حين تتكامل الصور

قراءة نقدية وفكرية للمجموعة القصصية "أبي والشيخ" للقاص زياد أبو لبن

تنبض هذه القصص بجوانب متعددة من حياة الإنسان العربي عامة والفلسطيني خاصة، وتعرض لمراحل الاحتلال من بداياته أي أربعينات القرن الماضي، إلى ما تبع ذلك الاحتلال من تشرد الأغلبية في المنافي، فصارت لهم مخيمات بائسة ثم هجرة جديدة خلال هزيمة حزيران، ومخيمات جديدة تحولت فيما بعد إلى مشاريع مدن، ولا تنسى أيضاً أن تعرج على من بقوا محتَلّين في أرضهم.

وتعرض حال الإنسان الواقع تحت ضغط الأحكام العُرفية الاستثنائية، ليعاني الجوع والفقر والجهل بالإضافة إلى القمع وكبت الحريات ليطحن في غالب الأحيان، وتعرض أيضًا قضايا ذهنيَة فلسفية كجدلية الحياة والموت، ومفارقة القتل السياسي خلال الاعتقال مع الشهادة أمام المحتل، وتلمس الألم، وتناقش رحلة البحث عن الأيدولوجيا التي يمكن أن تنقذنا مما نحن فيه.

فالقصص تنحو باتجاهين: الأول منهما ذهنيّ تصوريّ يجسد بحث الفلسطيني عن سبيل خلاصه، دون أن يتمكن من الوصول إليه، ليتركه مشروعًا في طور التكوين، عماده الأساسي حرية الإنسان واحترام آدميته وحقوقه الأساسية، ورفض أي تسلّط قمعي يمارس عليه سواء من خلال سلطة سياسية أو علاقات اجتماعية أو وصايا فكرية.

والاتجاه الثاني هو العرض الحياتي الواقعي الذي يظهر من خلاله القاص حياة الإنسان العربي، الفلاح في القرية واللاجئ في المخيم، والمدني في المدينة، والمهاجر وراء تحصيل العيش، وعلى التوازي يعرض مواقف صاحب الفكر، ومن يملك إرادة التغيير، ومن يبادر إلى القيام بأفعال تغييريه، والراضخ غير المبالي، والعادي الذي ركن إلى الذوبان في العيش، دون أن يقبل ذلك العيش أن يتيح له متسعًا كافيًا، لتلفظه منافي ذوي القربى من جديد.

ونظرًا لتنوع هذه القصص فقد تنوعت الفضاءات المكانية من فلسطين إلى عمان إلى القاهرة...، وامتدت زمنيا إلى ما يقرب من ستة عقود.

ويظن القارئ خلال القراءة الأولى أن ما بين يديه هي مجموعة قصصية منفصلة (دراميًّا) عن بعضها، كونها جاءت تحت عناوين بارزة متعددة، وبفهرس مفصّل، وهي بأسماء أبطال مختلفين، بالإضافة إلى تعدد الفضاء القصصي لكل واحدة منها فمنها ما كان في المخيم ومنها في القرية والمدينة، ومنها قبل الاحتلال وبعده... ويبدو أن كل منها قد كتب في مرحلة زمنية متباعدة عن الأخرى نسبيًّا، ومع ذلك فقد يتبادر إلى ذهنه بأن ثمة شيئًا ما غير عادي يبدأ بالتشكل كلما أوغل في تلكم القراءة.

فالقارئ حينما يشرع في القراءة المتفحصة، ويطلق العنان لملكة التأويل لديه قد يكتشف أن سيكولوجيا البطل الرئيس لكل واحدة من هذه القصص ترتبط مع سائر الأحوال النفسية لأبطال القصص الأخرى بخيط خفي يبدأ بالفرار من لفافته حتى يحيطهم جميعًا ويربطهم معًا، وحتى نتبيّن شكل هذا الارتباط وماهيته فلا بد من عرض سريع لمضامين تلك القصص.

القصة الأولى (أبي والشيخ) التي سميت المجموعة بها، هي قصة ذهنية محورها الجد الذي يموت ويدفن ويبعث! ويرد ذكر أب يموت ويدفن... فقط دون أن يبعث! والبطل الذي يبدو (بمعزل عن سائر القصص) بلا اسم أو ملامح، محض خيالٌ ووهم... صبي يرى الفكرة ممكنة ومتحولة.

والشيخ حسن (الجد وخال الشاب) متقدم في السن قادر على التأثير وإحداث التغيير فيمن حوله من الأموات الذين سبق أن دفنوا ( صوت القرآن يرتله الشيخ يوقظ تلك الأجساد من نومها الطويل، ويلملم أعظمها من تحت التراب، وينتزع لحمها من فم الديدان...) ص7، أيمكن أن يكون هذا الجد غير المنقذ الذي يعيد الحياة للشعوب الموتى!

إلا أن هذا الشيخ نفسه قد تسللت إليه الديدان ( لم أر إلا الشيخ ينام طويلاً ويحيا من جديد في شكل ديدان صغيرة وأنمل تجر لحمه كجيوش متعبة من طول الطريق، صدقت نفسي أن الملائكة هي تلك الديدان والأنمل التي تصعد بالشيخ إلى السماء عن طريق ثقوب تخرق الأرض كيفما تشاء) ص8، غير أن صبينا يحاول أن يمارس فعل الشيخ ليعيد لحمه من فم الديدان كما سبق أن صنع الشيخ بالموتى حوله، ولكن كيف يكون باستطاعته ذلك؟ كيف سيتسنى له ذلك وهو لا يملك صوته في قراءة القرآن، ولا سر صنيعه؟ ذلك لأن الجد قد وصل إلى عمق الرؤية ووضوحها (يقف أمام كل دكان يحيي أصحابها من حيث يرونه ولا يراهم. كان يرى الله كما يرونه، ولا يراه الله كما لا يراهم) ص8، فالشيخ حسن قد وصل إلى تلمس ومعرفة حقيقة وجوده، يرى الله حقيقة كما يرى الآخرون الشيخ حقيقة، ومن المفهوم هنا أن الرؤية المقصودة هنا هي ذاتها الأبعاد الفلسفية الصوفية التي توحي بالوصول إلى نهايات الأفكار وسر الأسرار، وهذه الصورة للشيخ حسن تلامس أبعادًا أسطورية إضافية، وذلك في كونه لم ينجب أولادًا (كان يمني النفس بامرأة تكشف عن قدرته بانتفاخ بطنها أمام أهل الحي...) ص8، فهذا الشيخ هو الفكرة التي لم يرثها أحدٌ مجبرًا بقدريّة غير مسوَّغة.

في القصة الثانية يبدو البطل(محمد) موظفًا بسيطًا مقهورًا أمام مديره العام، الذي يمارس عليه كل وسائل القمع والقهر ( رقصت الفرحة في قلب المدير العام الذي اسود قلبه بتلك التقارير التي نامت... المدير العام ذاك الذي يرقص على جراح الآخرين كحرذون سال من فمه دم جرذٍ تاه في جرحه...) ص14، ويعاني ذلك المدير من كل عقد غياب الذكورة عند الذكر! (وذاك أخطأته القابلة عندما قصت عضوه بدلا من الحبل السري، ينتصر على الآخرين كلما جاء زوجته مزبدًا مرغيًا) ص15، فهذا المدير لا ينقل لمن حوله إلا الفشل والإحباط، ولا يجد له دورًا في الحياة إلا طحن من هم تحت سطوته، فمن يكون هذا المدير إلا الأنظمة التي لم تفلح في إنجاز حياة لشعوبها؟! بل تسعد بطحن تلك الشعوب، وقتل مساحات إبداعها، حتى تلك التي لم تولد بعد، ويخرج البطل من هذا الصراع مهزومًا باحثًا عن الفكرة... المرجعية... المعجزة... التي يمكن أن تنقذه مما هو فيه، ليجد نفسه معصوفًا بأساطير متجادلة في تكوينها... ( يعبر الصحراء وصورة موسى والطير صافات، تتراءى من وراء الأفق. أين أنت يا الله؟ أرني وجهك، فأنا موسى، لا أنا محمد، الرعد يزلزل قدميه، والمطر يجر خيوله، ومحمد يصرخ قد تحققت المعجزة، هذا حزيران، وهذا الرعد والمطر، هذا أنا، فأين أنت يا الله؟!) ص15، وهذا المقطع يعيدنا مباشرة إلى القصة الأولى (أبي والشيخ) لنطوف محملقين في سر رؤية الشيخ حسن لله، سر المعرفة والوصول إلى لب الحقيقة ونور المعرفة... ومحمد الشاب كونه يتلمس طريق الشيخ، ذلك الحكيم الذي لا وارث له من صلبه، يرى نفسه الوريث المرشح له، ( وجدت الشيخ واقفًا ينظر إلي بعينين مبصرتين، فتح فمه قال: أنا أنت وأنت أنا، وسقط، فمات، فأدركت حينها أن الشيخ لن يقوم أبدًا) ص9، وبكونه الوريث له يبدأ بتلمس الطريق للمعرفة... فيقدم جهده وعمله وحزيران (الهزيمة) و... حتى يسأل الله عن الكشف عن ذاته العليّة لتنير له الرؤية التي استترت عنه، ليعيد بذلك الكشف الأبطال الذين غابوا إلى مجدهم، وبالتالي يريحوه من كل عنين تولى أمره، وهي رؤية توظف الموروث التاريخي الأسطوري لقصة وقوف سيدنا موسى على الطور ومناشدته الله عن الكشف والتأييد بعد تجاربه الحزينة مع بني إسرائيل الذين خذلوه، وكأنه يطلب من الله أن يهبه الفكرة ناضجة ومكتملة كما قد وهب موسى الألواح من قبل!

في القصة الثالثة( الثقب) ينفتح المشهد على سرب من النمل يسير في صف طويل... وأب مع طفله يتابعون مجموعات النمل، يحدث الأب وهو هنا البطل ولده عن بطولات الجيل السابق... وعن قسوة الاحتلال وعن الثوار الذين تحولوا إلى شهداء... احتُفي بهم ودفنوا كما يدفن الأبطال.

ولكن ما الحافز الذي دفع الأب للحديث عن الثوار والشهداء الذين ما كانوا ليواروا الثرى إلا بمصاحبة الزغاريد ومواويل الفرح باستشهادهم؟ أيمكن أن يكون شيئًا غير مجموعات النمل التي تنقل الجنادب مقطّعة إلى باطن الأرض، لنعي من خلال القصة الثالثة الأبعاد التي تضفيها العبارة الواردة في القصة الأولى(أبي والشيخ): (صدّقت نفسي أن الملائكة هي تلك الديدان والأنمل التي تصعد بالشيخ إلى السماء عن طريق ثقوب الأرض كيفما تشاء) ص8، وإن كان كذلك فلماذا تنقل النمل الآن الجنادب والخنافس؟ أليس لأنها لم تعد تجد شهداء تعيد تكوينهم من جديد؟ (نظر إلى ابنه الذي ما يزال يحملق في سرب النمل، وقال: كل الرجال الآن يذهبون صامتين كصمت القبور، والنسوة يغلقن أبواب البيوت، ويأخذن في النحيب، وأنا مازلت أردد أغاني الرجال، وأرقص رقصهم، صمت، ثم أخذ في البكاء) ص20، تضعنا القصة الثالثة في صلب الحياة الرمادية التي نعيش، فلم يعد لها لون كما كانت من قبل(أيام الثورة)، لتتضح بعض معالم صورة بطل المجموعة القصصية، ذلك الذي أخطأته الشهادة، وعاش حتى وجد الحياة بلا لون يميزها...

ولكن كيف كان ذلك؟ كيف غادر تلكم الحياة؟

قد نجد الجواب في القصص (صوب الجدار) و(فراق) و(الدوامة) و(عيون الفتيات) حيث تتفتح المدارك على مشاهد من مواقع المعتقل ودوائر التحقيق...

ففي القصة الرابعة ( صوب الجدار) مناضل يسعى لبث روح التمرد ورفض التسلط إلى محبوبته حين يطلب منها أن تخوض صراعها الخاص مع أخيها، وأن لا ترضخ لضغوطه للزواج ممن لا تحب، فهو في إرشادها لفعل الرفض ومجابهة السلطة الاجتماعية الواقعة عليها، يجد نفسه بعد ذلك مُمتحَنًا حين يُزج به إلى غرف التحقيق ليخوض بذاته صراعه مع السلطة السياسية، تلك التي رفض الإذعان لها من قبل. فماذا كانت نتيجة صموده؟ (في اليوم التالي كان عادل قطعة لحم متجمد. سار فيه رجال أخفى الظلام ملامحهم، وأخوته يكتمون بكاءهم، ودموعهم تبلل ملابسهم الرثة، وأمه تمزق ثوبها وتشد شعرها في خوف وانكسار.) ص26، ويفجعنا هذا الموت الناجم عن القتل السياسي، من خلال المشهد الحزين للأهل وهم يجرون أنفسهم بانكسار ليسحبوا الجثة، ويدفنوها بصمت ممزوج بالألم، لنقارن الصورة السابقة بنموذج الاستشهاد الوارد في القصة الثانية، والذي اعتدنا فرح الأهل فيه.

وتضعنا القصص مباشرة أمام سؤال إشكالي: هل هذا الموت انتصار ظاهريّ للظلم أم اندحار للجلاد؟!

قد نحب أن يكون موته اندحارًا للجلاد، غير أن الواقع غير ذلك، ففي القصة السادسة (فراق) نرى أن ذلك الموت لم يأت بجديد، فلن تستفز الجماهير، ولن تقوم الدنيا وتقعد على موت مواطن خلال تحقيق تجريه قوى أمن مهمتها السهر على راحة مواطنيها، لن تستقيل الوزارات، ولن يتغير شيء (وجاءت صحف الصباح في عناوينها الرسمية كالمعتاد، لاشيء يتغير، هذا ما قاله. ومضى) ص36. بل وحتى لو تجاوز القمع الحالة الفردية وأصبح سلوكًا يمارس ضد الجموع، ليغدو القتل عشوائيًّا، فالنتيجة هي ذاتها (وصحف الصباح تمارس لعبتها في صمت وروتين ممل) ص78، كما في قصة (الجنوبي).

تطرح تلك المشاهد جدلية القيام بفعل التغيير وإرادة التغيير، فعل الثورة وإرادة ذلك الفعل، الجدوى والنتائج الواقعة على مجموع الثوار، معتقل وألم وتضحية واستشهاد، دون أن يترك القاص لتلك المشاهد والمصائر المؤلمة فرصة يفرح بها فاقدو هذه الإرادة بما تحصلوا عليه من أشكال حياة غير مستساغة، فهي حياة عنيفة عبثية كما في (الجنوبي) و(أبوشاكوش)، أو حياة باهتة كما في (الجوقة) و(الثلاجة) و(الوحل) و(في المكتب) و(الخروج)، ففي هذه المشاهد التي يجمعها غياب إرادة التغيير يعاني أبطالها من فقدان اتجاه البوصلة، وتعرض صورًا متعددة لضياع الإنسان العربي... ضحية الفقر والجوع والاحتلال... فمثلاً في (الجوقة) لا تواصل حقيقي بين الرجل وزوجته، بل مللٌ وضجر... شرب شاي... نفث دخان... لعب الشدة... زوبعة... هيجان... وانسحاب دون أي فعل تواصلي حقيقي، ينم عن حياة إنسانية، مشهد واقعي لنمو العلاقات الاجتماعية الرثة. وفي (أبوشاكوش) يضيع الإنسان العربي من جديد في دوامة العنف العبثي الجُرمي، فبعد أن عانى من سوء التوافق مع المجتمع وبعد تجربة سجن كانت النتيجة( الدنيا ضاقت بعينيه، وخمسة قروش تعتصر في كفه، والجوع أقوى من زلزال القاهرة.

عمان بدت حبات رمل متناثرة، وبيت جحر قنفذ متهدم، ورأسه بركان يتملل للانفجار. تكور فوق سريره يلعن برد الشتاء وصقيعه، نظر إلى زاوية الغرفة المبعثرة بالأواني القديمة، والأدوات المهترئة، فقفز من سريره وحمل شاكوشًا قديمًا صدئًا، وضرب به الكرسي فتحطمت أضلاعه فلبس معطفه وأخفى في شاكوشه، وانطلق مسرعًا يجوب شوارع عمان النائمة والبرد يلسع خديها في أنين وحزن وتعب) ص101، وبذلك أليس الجوع والجهل وغياب الفكر الثقافي الذي يوجه البوصلة الإنسانية، أي باختصار غياب نور رؤية الله الذي ما طفق ذلك الشاب في (أبي والشيخ) و(المدير العام) يبحث عنها هي ما يضمن لنا عدم تواجد فكرة العنف العبثي... الذي يتشكل كبركان ثائر لا نحسن التنبؤ بموعد ثورانه، كما في (الجنوبي) حين يثأر الجنوبيون لجنوبهم و( مئات من الطلبة يحملون نعش معلم التاريخ، وهم يهتفون عاليًا يحيا الوطن. ولافتة كتب عليها: نحن من الجنوب والجنوب انتفاضة) ص78، أو يتشكل كشاكوش مخفيّ في جيب أحدهم كما في قصة (الشاكوش).

فأبطال القصص جميعاً سواء من حضروا المشهد الدرامي أو من استتروا عنه في مراحل ما يبدون بملامح سيكولوجية متقاربة حدّ التماثل، بما يتيح لنا خلق شخصية افتراضية، نسقطها على جميع القصص، تتنقل عبر الزمكان كما الخضر(عليه السلام)، تبدو ملامحها الخارجية بوجه أسمر ملثم تظهر من عينيه ملامح الجدية والإصرار، شخصية تعيش آلام أمتها، وتبحث عن سر خلاصها، حالمة لأقصى ما يمكن أن يصل إليه الحلم، طفل عاشق يرنو إلى معشوقته كما في(ذات مساء)، ومغامر كما في(الرهان).

بدأ هذا الملثم حياته مشتت الهوية حين لم تبدأ أزمته بعد، ولم ير حاجة لأن يكتشف خيارًا بين المتناقضات التي يعيش، ليكون بعدها معلّق الهوية حين بدأت أزماته بالتشكل وطفق يبحث عن مصيره ضمن الموروث يستقي من هذا الموروث ما يزاوجه بواقعه وتصوره الثقافي.

وينمو هذا الملثم ليكون منجز الهوية في مرحلة ما... فلا تقوى بعض الأنظمة السياسية على استيعاب هكذا هوية فتئدها! ليقوم طيف بديل له من ذلك الموت، ويرى هويته هذه المرة منغلقة في الموروث، ويعود من جديد ولكن بفكر عبثي عنيف...

فآليات الدفاع عند هذا البطل الملثم تجاه ما وقع عليه من استلاب لذاته الإنسانية وأرضه وحقوق مواطنته متنوعة، بدأت بالتفكير الجاد في العمل الثوري المنظم القائم على أيديولوجيا لم يفلح في الوصول إليها رغم أنه مات من أجلها! لتتناوب آليات دفاعه بعد ذلك الفشل بين الخضوع للسلطة، ولم يكتسب من هذا الخضوع إلا الملل والجوع وغياب حقوقه، وذوبانه في نمط علاقات لم يحمل لها مشاعر الاحترام والتقدير، لتنحو آلياته نحو العدوان المؤذي، والذي لم يجن منه أيضًا إلا الاضمحلال وتفجير عنف مضاد.

كل تلك الآليات لم تفلح، وتماهت القصص دون أن يقدم ذلك الملثم رسالة أيدلوجية تقدم الحل المتكامل، وهذا ما يضفي على النص إمكانيات التأويل المتعددة، ومن المؤكد أن القاص لا يعدّ نفسه بأي حال معنيًا بتقديم إجابات تنظيرية عن تساؤلات فكرية مصيرية تخص في جانب منها الإطار الجمعي للإنسان.

وحين تجلو هذه الرؤية في ذهن القارئ تنحو أفكاره باتجاه آخر، وذلك أنه لم يكن بصدد مجموعة قصصية جمعتها دفتي كتاب مصادفة أو رضوخا لدواعي النشر، لاسيما وأن العنوان لا يحوي أي إشارة تحددها بوصفها مجموعة قصصية، ويرى نفسه ضمن ذلك التأويل أنه قد يكون بحضرة عمل روائي عنقودي، تماما كالقنبلة العنقودية يجمعها (قبل التفجير الأولي) حيّز مكاني واحد (برميل حديدي)، غير أنها حال وصولها الأرض تنطلق باثة مجموعة من القنابل المتماثلة الصغيرة في كل الاتجاهات، وذلك لأن ما بين يدينا دفتين من الورق تجمع مجموعة من المقاطع السردية، تتفتتح في كل قراءة صورة لبطل ينمو باتجاهات تكون أحيانا متوازية، ومتقاطعة في أحيان أخرى، دون أن يغادر المنطق الممكن في الحالة السيكولوجية العامة (نمو الهوية وآليات الدفاع)، ليشكلوا كأبطال (مختلفين في الشكل الخارجي) حالة تكامل توصل القارئ إلى مضمون الرسالة التي يريدها الكاتب، وبالطبع إن أحسن القارئ الاستقبال، ولا يكون ذلك ممكنًا ضمن حالة البناء والتشكل السردي إلا في حال قدم القاص بعض الإشارات الذهنية المترابطة كما قدم أبو لبن فعل النمل، أو غرف التحقيق، أو مناشدة الله خلال البحث عن المرجعية، ليربط بين أكثر من قصة، وكأنه يقدم إشارات ودلائل تعين القارئ على الوصول للرسالة المتكاملة، والتي لا يمكن تقديمها خلال نص قصصي محدود بشخوصه وعدد صفحاته.

وهو ما قد يبشر بولادة تقنية بنائية قصصية جديدة، تجعل من مجموع القصص المتشاكلة زمكانيًا رواية مستقلة إذا ما توافقت السيكولوجية الداخلية لأبطالها، وترابطت فكريًّا خلال نموها بنسق يتمتع بمنطق نسبي. وذلك دون أن يضطر القاص لأن يسمي الأبطال باسم واحد كما في رواية (ماركوفالدو) للروائي الكوبي (إيتالو كالفينو) حيث إنها رواية جمعية لقصص قصيرة لا تجمعها حبكة درامية، ولكنها لبطل واحد بنية واسما.

وبذلك فقد تكون الرواية العنقودية فرصة متاحة للقصاص يمكنهم من خلالها الاستفادة من إمكانات القصة القصيرة، كقدرتها على تقديم المفارقات الدرامية بصورة تضمن واقعية حصولها، كونها تقدم منفردة، وتزاوج بين الحبكة الواقعية الممكنة والدلالة الرمزية، ويستفيدون أيضًا من البناء الروائي الذي يضفي عمق الفكرة وفرصة الاسترسال في التنظير الجدلي، يقدم كل ذلك دون أن يضطر للسيطرة الكاملة على شخوصه وضبط سماتها الخارجية طوال الرواية.

ويستفيد القارئ أيضًا من هذه البحبوحة، حيث توفر له هذه البنائية فرصة موازية، توصل له الرسالة كاملة دون أن يكون مضطرًا لإعادة قراءة الرواية عدة مرات ليتفادى انصراف ذهنه عن جزئية هنا أو هناك، أو أن يضطر لإنهائها في وقت متقارب، فهي صياغة تقدم له فكرة الرواية على جرعات قصصية منفصلة في حبكتها متوحدة في سمات بطلها النفسية.

قراءة نقدية وفكرية للمجموعة القصصية "أبي والشيخ" للقاص زياد أبو لبن

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى