السبت ١٤ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم فوزية العلوي

حي ميت

تجمّع النّاس في الزّقاق

غصّ الزقاق وتجشّأ

توقّفت الحركة في الشوارع والأزقّة المجاورة. أغلقت الدّكاكين والمحلاّت أبوابها. بعضها ظلّ مفتوحا نصف فتحة، لكنّ أصحابها غادروها مهرولين. أخمدت آلات التّسجيل التي كانت تزعق منذ حين.جاء الناس من كلّ صوب، بعضهم أتى راجلا وبعضهم اكترى عربة ببغل وبعضهم استأجر شاحنة. أبو اللّطف رجل شهم،وجميع من في المدينة يحبهّ، وله أياد على الأرامل والأيتام وأبناء السبيل،وأقلّ الوفاء،أن يحضر الناس جنازته ويشيّعوه إلى قبره مهلّلين مكبّرين داعين له بواسع الرّحمة والأجر الوفير. تسارعت بعض النّسوة منفوشات الشّعر، وبعضهن متّشحات بالمحارم الدّاكنة. ولطمت امرأة سمينة وجهها وصوّتت أخرى ماطّة شفتيها، لكن ّالدمع لم يطاوعها فاكتفت بالاستغفار. تدافع الرّجال حاملين السّلال وأكياس الخبز، والأطفال تعثّروا في الأرجل وهم يزعقون في فرق. تجمهر الناس وهم يتطلّعون إلى الباب المفتوح على مصراعيه منتظرين خروج النعش، غير عابئين بلذع البرد والمطر الذي بدأ ينهمر بعد أن كان ينثّ بطريقة مكتومة. قال قائل: ـ كانوا سيدفنونه أمس بعد صلاة العصر،ولكنّهم أرجؤوا ذلك إلى اليوم منتظرين عودة ابنه عبده من طرابلس. ردّ آخر: أظنه لن يأتي، لم يبلغه الخبر قيل إن ّهاتفه معطّل. علّق ثالث: ـ يأتي أو لا يأتي، لن يسلّم عليه في كلّ الأحوال. إنّا لله وإنا إليه راجعون، ردّدها الشجر والحجر وسرب من الخطاطيف المقرورة التي عبرت الفضاء مبلّلة الريش تبحث لها عن مكمن آمن. مرّ المؤذن عبد الستار ممتقع الوجه مسرعا، يتبعه المؤدّب عبد السّميع وعون من أعوان البلدية اعتاد جمع المكوس يوم السوق الأسبوعية،والافتراء على بائعات الخرشف المنتصبات حسب رأيه في فوضى، تفسد أناقة المدينة غير الأنيقة أصلا.

تململ الناس،بعضهم بدا عليه الملل والإعياء،والبعض الآخر انشغل بإشعال السّجائر واستعمال الهاتف الجوّال. فجأة أطلّ رجل طويل أسود لا أحد رآه من قبل وهو يصيح: ـ تقبّل الله منكم يا جماعة وجازاكم بكلّ خير. غادروا من فضلكم، أبو اللّطف لن يدفن اليوم. " لن يدفن اليوم " ردّدها الناس في استغراب، لكن من سيبدّد حيرة المتسائلين؟ تدافع بعض الرّجال مجتهدين في دفع المتطفّلين وإغلاق باب الحوش. قال المؤذن وهو زائغ النظرات:

أنا غسّلته بيديّ هاتين، وكان جثة جامدة كالصّخر والدم ينزّ من منخريه وأذنيه حتى أنّي حشوتهما قطنا. قال المؤدّب: عيناه كانتا منفرجتين هكذا، وأنا حاولت إغماضهما،وزوجته أمّ السّعد كانت سقته وتشهدّت له عندما تفطّنت إليه وهو يشخر، وعندما نادت أخته من غرفتها كان قد أسلم الرّوح.

قال عون البلدية: ـ سأدعو الطبيب الشرعي ّ، هو الذي سيحسم الأمر. فنهره المؤذن غاضبا: ـ ولماذا الطبيب؟ وماذا بيد الطبّ أن يفعل؟

اشتدّ هطول المطر فتفرّق الناس. وقرفصت الأسئلة فوق هام الجبال .وظلّ بعض الفضوليّين يتمتمون غير عابئين بسيول الماء التي غرّقتهم،وتسارع آخرون إلى الدّكاكين المجاورة وغصّ المسجد بالناس. تكوّم سحاب أسود ليلتها فحجب القمر. وانتثرت بقع حمراء حوله فازداد الفضاء وحشة. ربما تكون القطط أدركت شيئا لذلك أصابها الفزع فنطّت في كلّ اتّجاه،ورمت بكتلها من فوق السّطوح،وأذنابها مشهورة كالرّماح وعيونها ملتهبة ووبرها منفوش، وتسارعت لتختبئ في المقاصير وتحت أكوام الحطب المبلّل. تذكّر المؤذّن عبد الرّحمان أنه أحسّ بشيء غريب وهو يصعد إلى المئذنة ليؤذن لصلاة الفجر. وتعثر مرّتين حتى كاد يسقط .وسمع دوياّ لم يعرف مصدره.

وكان قلبه انقبض حتى كاد يغمى عليه،لكنّه استغفر وكبّر ولم يخبر بذلك أحدا مخافة زرع البلبلة والفتنة في قلوب النّاس. لم يفتح الباب كامل لليوم إلا للمقرّبين،أو للجزّار الذي دخل وخرج برأسين أحدهما للخروف الذي ذبح لإعداد عشاء القبر،والثاني لخروف ذبح ولا احد يعلم لماذا؟

ظلّ الناس يقفون هنا وهناك في الزّقاق. يتحلّقون قليلا، يتمتمون قليلا ثم ينصرفون،ولكنهّم يعاودون الظهور بعد قليل ويقتربون من الباب ويسألون الأطفال ثمّ يمضون.فجأة، دوّى عيار ناري تتطايرت له الأسئلة من فوق الجبال،وعرجت إلى السماء زغرودة مولولة كأنها صليل ريحانة من الفضّة،وانطلق البخور خانقا مصوّرا دوائر خضراء في فضاء الحوش، سرعان ما توزّعت فعمّت الزقاق كلّه ـ أبو اللّطف بعث. ـ أبو اللّطف عرج ورجع. أبو اللّطف وصل مشارف الآخرة وعاد محمّلا بالوصايا والبركات. ـ أبو اللطف صار في جمال يوسف،وصوته غدا كهديل اليمام. ـ أنامله، يا سبحان الله نقشت برموز غريبة في لون الحناّء. سقطت زينب في الحوش مغشيا عليها حتى شجّت رأسها فتحلّقت الجارات حولها يضمّدن جرحها بالبنّ المسحوق.وضعت حليمة قبل ميعادها من هول ما سمعت.سلحفاة أصابها الفزع فهرولت مسرعة لتلقي بنفسها في حوض الماء. كلب ولغ في إناء المرق سبع مرّات ولم ينهره أحد. فرشت أم السّعد الحجرة القبلية وهي ترتعش وتبسمل،وأخت أبي اللّطف تصبّ على رأسها من قارورة،وتحكم شدّ رأسها بمحرمة حمراء. أمرها المؤدّب أن تكسو الحجرة باللّون الأخضر، وصفّفت الوسائد على الجدران كلّها. وأحكمت إغلاق النافذة غير قادرة على منع ركبتيها من الاصطكاك،ولا متجّرّئة أن تنظر إلى زوجها الذي مازال في الكفن، والمؤدّب يحيطه بالبرنس الأبيض وهو يقرأ عليه آيات من الذّكر الحكيم.ثم بدأ يريق على رأسه ماء الزّهر، ويطلب من أمّ السعد أن تدلّك قدميه بزيت الثوم،وأن تسقيه القهوة المرّة ليستعيد وعيه. سقطت أم السّعد قبل أن تبلغ المطبخ في سابع دوخة،وعجّ الحوش بالناّس. والزّقاق غصّ،والمدينة أصابها الهلع،والجبال من الهول شاخصة تكاد تميد. منع عون البلدية من الدّخول ومعه الطّبيب الشّرعيّ، والغرفة تم ّإغلاقها، والخرفان توافدت على المنزل ودماؤها سالت أنهارا، والطّعام توزّع قصاعا على طول الطّريق، والشّاي الأخضر والشّروبو الأحمر وعصير الليمون.سال جداول، ورقصت العجائز وهنّ يلوّحن بالمناديل، والأطفال سقطوا على وجوههم يجمعون البيض والزّبيب وطوابع السّكر والحلوى الملبّسة. كان أبو اللّطف يرتعد وعيناه غائمتان،والأسئلة تنهال عليه من كل ّصوب

كيف البرزخ يا أبا اللطف؟ هل رأيت الجنّة؟ هل بلغت حافة العرش؟ من رأيت من الموتى هناك؟ هل كانوا بأكفانهم أم بأثواب الدنيا؟ هل سمعت أصوات الكفرة وهم يتضوّرون؟ ماذا كان حال اليهود؟

لم يكن أبو اللطف يتكلّم.كان يرتعش وهو في أسوأ حال، والمؤذن يتلو في أذنه سورة القارعة ويكبّر. أمّا الكفن فقد نضوه عنه ووضعوه في الخزانة لميتة أخرى.

ألبسوا أبا اللّطف قميصا وجبّة،وأحاطوا رأسه بعمامة صفراء،ووضعوا على أكتافه برنسا أبيض. أجلسوه على الحشيّة وأحاطوه بالوسائد والمتّأكآت ثم ستروا وجهه بقماشة خضراء،.لا يمكن لمن كان في مقامه ان يكشف عن وجهه لأحد

رجل في مقام القدّسين والشهداء فمن يرجو مقابلته أو يطمع في إشراقة وجهه؟ اصطفّ الناس أمام المنزل طوابير طوابير

وجاء شرطي ينظّم حركة المرور والأمل يراوده أن يصبح الحارس الشخصي لأبي اللّطف. أما الطّبيب فقد أصرّ على معاينة الحالة ليفهم المسألة،والمؤدّب لعن جهل الأطباء. جاء العرج والصمّ والبكم والعمي ومرضى الفالج والدّم .وتزاحمت العوانس والتّواعس، وأصحاب رؤوس الأموال الذين طغوا في البلاد، وعاثوا فيها فسادا وباتوا يخشون على أنفسهم من الحسد.وجاء رجل يستخبر عن مكان أسامة بن لادن،وصدّام حسين إن كان سيحكم العراق من جديد، أم أنّ ذهابه إلى غير رجعة.
كان أبو اللّطف ينتفض من الحمّى ولا ينبس ببنت شفة، لكنّ المؤذّن كان يتكلّم على لسانه، والمؤدّب يصف الوصفات مكانه، وأم ّالسعد تدلّك المصابين من رغوة،تقول إنّها بصاق الوليّ الصّالح أبي اللّطف. والابن الذي جاء قبل الدّفن أحجم عن العودة إلى طرابلس،صار يوزّع على المرضى والزّائرين أرقاما مسجّلة على قطع من الكرتون الأصفر ويتقاضى معاليم التسّجيل حسب نوعيّة الدّاء وحسب الحالة الاجتماعية للمريض.وأقيمت الحضرات ليالي الجمعة، وكثر توزيع الطعام والمشروبات،والصّبية أصابهم كالفرح الداّئم فانقطعوا عن الذّهاب إلى المدرسة، وباتوا يحضرون حاقات الذّكر ويرقصون في الحضرات على رجل واحدة،وانتصب باعة الكعك والمشروبات الغازية والسّجائر المهرّبة من والجزائر، والملابس القديمة،والموز المستورد من ساحل العاج،في الأنهج المفضية إلى زقاق أبي اللّطف.أماّ حلاقة نفرتيتي فإنّهاصارت تصفّف الشعر بطريقة عصرية ورفعت في التسعيرة واتخذت أختها منصّة كتبت فوقها لافتة بلغة إفرنجيّة معوجّة
مشيرة بذلك إلى الوشم الجديد، الذي باتت الصبايا وكذلك الفتيان يوشّحون به أجسادهم إغراء أو رفضا أو عبثا.ويصوّرون القلوب والزّهور وأسماء الأحبّة وسهام أفروديت التي تمزّق نياط القلب.كلّ ما في الحيّ صار نشيطا ونابضا، والبلديّة اتخذت قرار بتوسيع الطّريق وإصلاح الفوانيس المعطّلة وتبرّع رجل من أصحاب الكرامات والمعجزات بمال وفير لبناء مستودع يأوي السيارات القادمة من البلدان الصديقة والشقيقة والتي باتت تتقاطر في كلّ الأوقات.وجاء المسؤولون الكبار لحلّ مشاكلهم الاقتصادية والسياسية والجنسية،فأبو اللطف قلب الدنيا رأسا على عقب والأطباء كتبوا عريضة إلى عمادتهم للتنديد بالخرافات التي يروّجها أبو اللطف والتي باتت تهدّدهم بالإفلاس.أمّا أمّ السّعد فقد شعّ نجمها في السّماء،فهي امرأة موعودة بحقّ، والا لماذا اختارت لها أمّها من بين الأسماء كلّها أمّ السّعد؟ ولهذا مسّتها بركة زوجها وباتت تدلّك بريقها وتمسّد أرجل الكسيحين وعيون العشاة .واستقال عون البلديّة وصار حاجبا للبيت

والمؤذّن استغنى عن الآذان المباشر واشترى للغرض آلة تسجيل عصرية ذات مصادح تبلّغ الأذان إلى البلدات المجاورة.وازدهرت تجارة الأعشاب والبخور والسلاحف والحرابي عظام الموتى المهرّبة من المقبرة القريبة،وأبو اللطف يرتعد تحت أكوام الملابس الزاهية،وصدره يحشرج من عجاج البخور الذي يحترق صباح مساء، وأصوات الأذكارتدوّي في الزّقاق من مصدح معلّق على ناصية دكّان اتخذه صاحبه لبيع رؤوس الخرفان المصليّة والمقانق الرديئة المشويّة . والناس في رزق مابعده رزق، والطّبيب المتربّص يأتي آخر اللّيل متخفّيا ليحقن أبا اللّطف بمادّة مجهولة تهوّن مصابه وتخفّف من أوجاعه،وأبو اللّطف انعقد لسانه من الجلطة،لذلك لم يخبر أحدا بما رأى في البرزخ أو بين النّجوم، والمؤدّب أصرّ على بقاء أبي اللّطف منفردا في المقصورة، فمثله لا يتحاور مع النّاس بعد كلّ الذي رأى، ورئيس البلدية ربح الانتخابات مرّة أخرى بفضل أبي اللّطف،وأمّ السعد وعدته بفوز قادم مادام فوّت لها في الساحة الفسيحة التي تقابل حوشها لركن السيارات القادمة من البلدان الشقيقة والصّديقة.وليلة أقيمت الحضرة الكبيرة وذبح الثّور الأسود الهائج وكسرت الجرّة المليئة باللّوز وقوالب السكّر،سُمعت صرخة تزلزلت لها جدران الحوش وطار لها الحمام الرّابض في البرج.وعندما دخلت أمّ السعد لتسقي زوجهاوجدته بلا روح والدم ينزّ من أنفه فأسرعت إلى المؤدّب تخبره،فجهّزه في لمح البصرللدّفن، وأخرج من الباب الخلفيّ ليلا في عربة محمّلة بالبطّيخ.وعندما أشرقت شمس الغد كان المؤدّب يجلس مكانه وقد أسدلت على وجهه حجب الكرامة .وقرّرت أمّ السّعد أن تبني مقاما بقبّة حضراء لا يدخله غيرها،أماّ ابنها العائد من طرابلس فقد ذهب يستخبر عن طريقة الاشتراك في خدمات الانترنت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى