الجمعة ١٥ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم محمود سلامة الهايشة

حُسن الخاتمة!

غاب العمدة منذ عدَّة أيام، فَذَهبوا للاِطْمئنان عليه، ودَقُّوا جرَس الباب فلم يُجِبهم، فحاوَلوا الاتِّصال به عشرات المرَّات، لكن دون جدوى، فظنَّ بعضُهم أنه سافر لزيارة ابنٍ من أبنائه.
في نِهاية اليوم الثالث، تلقَّى أحدُ جيرانِه اتصالاً من ابنه الأكبر، يطمئنُّ على أبيه الذي حاول الاتِّصال به أكثر من مرَّة دون جدوى، فأمسك هذا الجار أعصابَه، وقال له:

• ربما يكون التليفون معطَّلاً، سأذهب إليه بعد قليل وأُطَمئنك.

ملأ الشكُّ صدْرَ الجارِ وعقْلَه، فَهذا ابنُه الأكبر يسأل عنه، فمن المؤكد أنه اتَّصل بباقي إخوته، وتأكَّد أنَّه ليس عندهم، إذًا فالرَّجل ما يزال داخل بيته، فقام على الفور مُنْطلقًا حتَّى وصل إلى الباب وهو يحمل شاكوشًا، فكسَر باب البيت، وألقى السَّلام فلم يَرُدَّ عليه أحدٌ.. بدأ يبحث في غُرَف البيت الكثيرة، فلم يَعْثر على شيءٍ في الطابق الأوَّل، فصَعِد إلى الطَّابق الثاني حتَّى وصَل إلى غرفة نومه، فطرَق الباب بِخِفَّة؛ حتَّى إذا كان نائمًا لا يُزْعجه، ثم فتَح الباب وعينه تنظر في كلِّ جنباتها فلم يَجِد شيئًا، وفجأة عندما اقترب من السَّرير وجدَه ساجدًا على سجَّادة الصَّلاة في الجانب المقابل خلفه.

في لحظة فارقة وقبل أن يتحرَّك من مكانه، رجعَتْ به ذاكرتُه إلى الشَّيخ عبدالسَّتار إمام المسجد الكبير، حينما سجَد وهو يَؤُمُّ النَّاس في الرَّكعة الأخيرة من صلاة العشاء ليلة السَّابع والعشرين من رمضان الماضي، فلم يرفع، وطالت السَّجدة، فقام أحد المُصَلِّين، وأمسك بـ (الميكروفون)، وكبَّر وأَنْهى الصَّلاة، وعندما سلَّم وجده قد قُبِضَت روحه.

فالتفتَ وانتبه للموقف الذي هو فيه، فقال بينه وبين نفْسِه:

• أيكون العمدة قد قُبِض بنفس الكيفيَّة؟!

• لا.. لا.. انتظِرْ قليلاً.. حتَّى يُنهي صلاته.

ظلَّ يَنْظر في ساعته، وتَمُرُّ الدقائق كأنَّها سنوات، فقال لنفسه:

• لن أستطيع الانتظار أكثر من ذلك.

فهمَّ واقترب منه يرفع أرجُلَه بِصُعوبة كأنَّها ملتصقة بالأرض، ووضَع يده على ظهره، وقال: "بسم الله"، وشدَّ كتفيه، وعدَّل جسده وهو يُنادي عليه، فعرف على الفور أنَّه قد مات وهو ساجد، أمسك بالتليفون واتَّصل بالشُّرطة التي هرعَتْ إلى المكان ومَعها الإسعاف، حضر وكيل النِّيابة لِمُعاينة الغرفة والتأكُّد من عدم وقوع جريمة، وطلَب من رِجال الإسعاف نَقْل الْجُثَّة إلى مقرِّ الطبِّ الشرعي؛ للتأكُّد من أسباب الوفاة.

تَجمهَر أهالي البلدة حول بيت العمدة عندما رأَوْا وسَمِعوا صوت سيَّارات الشُّرطة والإسعاف، وظلَّ الجميع طوال تلك الليلة في حَيْرة، منتَظِرين نتيجة تقرير المَعْمل الجنائيِّ؛ فالجارُ المُبَلِّغ قد تَمَّ التحفُّظ عليه لِحِين ظهور كلمة الحقِّ، مرَّت السَّاعات كالدَّهر، وحضر جَميع أبناء المُتَوفَّى من أماكن إقامتهم.

وفي الصباح أُفرج عن الجار وصرَّحَت النيابة بِدَفْنه، وتبيَّن أن رُوحه قبضت منذ ثلاثة أيام وهو ساجدٌ لله تعالى يصلِّي، فذهب أهالي القرية بِصُحبة أبنائه لاِسْتلام الجثمان من المَشْرحة، فقال لهم الطبيب:

• هل هذا الرجل كان صالحًا؟

فردَّ عليهم أحد أبنائه:

• لماذا هذا السُّؤال؟

• لأنَّه لَم يتحلَّل جسَدُه رغم مرور تلك المُدَّة الطويلة، ولَم يتخشَّب عظمه؛ فقد فُرِد بسهولة! إنَّا لله، وإنا إليه راجعون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى