الخميس ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم أميرة فايد الناحل

خارج…«الكادر»

يمد يدا مرتجفة.. يلتقط في وجل أحد الكتب المترجمة.. محاولا ممارسة فعل القراءة من جديد. كان، ولازال، يحفظ الكثير من عباراته. يشهد -علي غير توقع- بعث أطيافه الملونة التي ما هي إلا إقتباسات من صفحات الكتاب نفسه. تنفلت مبتهجة محلقة في أجواء الحجرة الضيقة. ترتسم السطور نورانية علي صفحة الفراغ. ينعكس منها ألوان قوس قزح. يصاحب تدفقها إنبعاث صوت رخيم يتلوها في أناه.. يشبه صوته لكنه ذا أصداء مغايرة.. تتردد خلابة في أنحاء النفس.

"…الرواية فن تطبيقي, والقصة القصيرة فن خالص…"

(…هذا وقد صرح السيد الوزير أن إمتحانات الكادر…)

إنطلقت حلقة النقاش تتصايح في غوغائية.. تعقب متذمرة علي الخبر المنشور..كيف..لا..لن..تعسا..بئس..!

يستمع لطنطنتهم في فتور. أحد القرارت الركيكة،المستهترة، والمتعالية في آن. ستنصاع له الاغلبية الغاضبة في النهاية..وسيتبع القطيع.

يصعد الدرج الضيق المتآكل..ساحبا جسده.. يجر أكياس الرمل. تتوكأ أمه الأريكة عابسة. يرمقها بنظرة إستفسار مجهدة..تجيب سؤله الصامت: -إتصل المحامي ليذكرك بجلسة الغد. ينتظر إتصالك.

يطرق مغمغما في خفوت بكلمات غير واضحة.

لم تفاجئه حين إنفجرت باكية..تحسبن علي الظالمين، وتدعو عليهم. تفند المبالغ الطائلة التي تكلفها في هذه الزيجة "المصيدة".. تنوح ضياع كد وشقاء عشرة أعوام لم يذق فيها طعما للراحة. أخذ صوتها يتباعد في متكئها.. يخف وطأه. أمامها الليل الطويل تغزل في عتمته إلتياعها، فزعها من دنيا شائهة لم تعهدها هكذا، رعبها الهادر ورعبه من الضياع في جراب زمن لا نهاية لعجائبه ولا تفسير لأحواله. تترجم بعفوية بمفردات الدمع علامة إستفهام كبري مغروسة في رأس أجوف لشخصه المتجمد.

"… إن الصمت الأبدي لهذه الآماد اللانهائية يرعبني …"

يغلق باب غرفته، لطالما لقبوها بالصومعة، كانت بالفعل كذلك.. إرتقي فيها الي آماد نورانية، وإنكشفت له فيها آفاق مسحورة، وأسرار جليلة، صانته كالدر فبات نقيا ونبيلا بشكل يستوجب القلق.

دولاب صغير يلتصق به مكتب متواضع..في مواجهتهما سرير لفرد واحد تعلوه مكتبة بسيطة في صناعتها. كتب دينية، قصص قصيرة..المجموعات الكاملة.. يوسف إدريس، أبو المعاطي أبو النجا, محمد المخزنجي..وآخرون. عدد كبير من كتب النقد تعالج الموضوع ذاته..القصة القصيرة. دائما ما يتعلق بصره به..كتابه الأثير المسكون بالأطياف. يردد عنوانه نشوانا "الصوت المنفرد". علي بعد سنتيمترات قليلة من المكتبة.. يتدلى برواز ذهبي.. يؤطر شهادة تقدير ممنوحة من نادي القصة.إسمه مسطور بوضوح علي صفحتها. قبل أحد عشرة عاما.. كان كاتبا مبتدئا، وربما واعدا. نال إستحسان البعض, وحقق مراكز متقدمة في مسابقات أدبية بارزة. حين زاول حياته المهنية..إنقطع عن الكتابة , وجحد الموهبة. خيوط حريرية لحوحة ومباغتة.. تكبل قدميه، فيديه , فرأسه. تشده إلي مفرمة هائلة. يساقوا إليها أبابيل. تفري الوقت، فالإرادة، فالرغبة. ينطرح منها..آنية مداد فارغة.. إنسكب محتواها في أرض التيه.

(… تظاهر عدد كبير من المعلمين معلنين إحتجاجهم علي إهانة المعلم المصري، ورفضهم للإختبارات مقابل الزيادة الهزيلة في المرتب والتي يستحقها جميع المعلمين، وطالبوا بتنظيم دورات تدريبية لهم لتطوير مهاراتهم وإجراء الإختبارات بصورة تليق بمكانة المعلم مع تطبيق ما نص عليه القانون من التدريب بالأكاديمية المهنية للمعلمين قبل الإختبارات..وإختتموا البيان بأن نادوا بالمقاطعة …)

إزدحمت غرفة التطوير التكنولوجي ,علي غير العادة. الطابعة الملاصقة للحاسوب تومض بلا إنقطاع. تفرز تلال من الأوراق المجلوبة من الإنترنت. تنقل إليهم إجتهادات غير أكيدة لمعلمين دأوبين..تحاول سبر أغوار الإختبار، وإستنباط تفاصيله.

تتعالى الأصوات بلا تجانس.. يؤلفها التخبط والحيرة. تستمع العاملة بضجر لإرشادات أحدهم بخصوص عدد النسخ المطلوب تصويرها. يخط لها ورقة، بينما يقرأها بنبرة مرتفعة ورنانة. يكرر محتواها ويذيل كلامه في كل مرة بلفظ: أتفهمين؟!

إعتنق حبها بإخلاص. ويقسم أنها قد بادلته الحب أو كادت!

لكن المسخ المتربص في الكهف المظلم..الذي كانت ترتاده دوما.. قرابينه كانت مشروب مبدع من سائل شرايين حبيبها، ونور قلبه، وطحين عظامه مخلوطين جميعا بعصارة عرقه. وجائزته السرية الأكثر روعة علي الإطلاق..كانت أن يمسخهما مثله.

لم ينقض وقتا طويلا قبل أن يدرك أن زوجته تتبع التعليمات الخبيثة لكتاب "المرشد في قهر الشريك" من تأليف أمها. كتبته بمداد أسود, وضمير آثم.

لم يخبر أحدا علي الإطلاق سبب إعتداؤه عليها بالضرب, وهو الخلوق، الكريم، الحالم..ولم يلح المحيطون كثيرا طلبا لتفسير..ويا له من تفسير.. صفعته زوجته بعنف وصلف حين تجرأ ومزق صورة وقحة تجمعها بزميل دراسة في رحلة جامعية.علم أهلها بالأمر.قلبوا موازين الاشياء. تمرد اللئام. أسقطوا الأقنعة. أسقطوا ورق التوت. خاضوا ضده بلا مقدمات معركة إنتقام جهنمية ساحتها أروقة المحاكم.

كانت أمها أشرسهم. راعيتهم ومحرضتهم. لكنها إستطاعت أن تواري كل ذلك خلف سيول من جمل المداهنة والمهادنة. وراء ترسانة من المكر واللؤم والدهاء.

حين تبتسم هذه المرأة..يتشقق وجهها.. وتزحف من شقوقه عقارب وأفاع إستوائية.. يبرق في إحدى عينيها نصل سكين متوهج و في الأخرى مخلب وحش ملتاث. حين تقطب يتجسد البغض.

آل علي نفسه أن يتقن ما يحب أن يفعل أو ما يضطر إلي فعله. لكن العمل ومشاقه كان أهون ما يمكن مكابدته في هذه الحياة. أقسى ما يمكنك مجابهته هو البشر..النفس الإنسانية.

إنخرط في عالم الدروس الخصوصية كغيره من الكادحين، المعوذين. لكنه لم يسقط في وحل التهافت، ولم ينزلق الي مستنقع طاغوت النهم الذي أغرى البعض علي إقتراف ممارسات معيبة.. تثير الغثيان والإزدراء.. كالضغط علي التلاميذ وإبتزازهم.. إطلاق تهديدات صريحة متبجحة، تلاعب بدرجات أعمال السنة، إضطهاد مقرون بإيذاء جسدي أو معنوي. مافيا المتهافتين..تسيء للجميع , وتشوه الجميع.

كان حب وإحترام تلاميذه، أنباء دراساته العليا، إيفاده مبعوثا للخارج , ولقب المعلم المثالي.. تلهب جميعها مزاج الإساءة لدي هؤلاء.. بينما يلهب عدم سعيه للمال في لهاث مسعور مزاج الإضطهاد لدي آخرون ممن يؤثر سلبا في أرصدتهم نقص أعداد الطلاب في مجموعاته المدرسية..متهافتون آخرون من المديرين والنظار!

لم تكن الكراهية منفردة هي محرك سلوك أصهاره المقيت

لكنها كانت مصحوبة ومسبوقة بإنحراف حاد في منحى التفكير والمنطق، ومقرونة بشذوذ إنفعالي صارخ. كانت علاقاتهم.. داخل أو خارج محيطهم، تحتاج لتدخل أباطرة الطب النفسي.إحساس مروع بالنقص ممزوج بكبر و جبروت بالغين. وقدرة فذة محبوكة علي إحقاق الأباطيل، وإستمراء الدمامة، وإنكار الفضل وأهله..متذرعين في ذلك بكل ما يعن لهم من أسلحة الكذب،التحامل، الرياء، وإخفاء الحقائق.وقدرة أخرى تفوقها عبقرية علي إبتكار واختلاق تبرير أخلاقي لأي سلوك لا أخلاقي يرتكبه أحدهم. وبتحري الدقة البالغة يحسن استبعاد كلمة لا أخلاقي.. لانها غير موفقة وستعطي إيحاءات غير مطلوبة ومضللة. وتفضلها الصياغة لأي سلوك فاسد، متطاول.. لا يراعي أبسط أبجديات الأدب و الذوق والإحترام، ولا يعني بتطبيق بدائيات أسس العدل في معاملة الآخر.سلوكيات تسعى جل ما تسعى لإستخلاص وإمتصاص مصالحها من رحيق كيانك لآخر قطرة، بلا بادرة عطاء.ولا تعترف مطلقا في حق نفسها بعيب أو خطأ أو تقصير.

"… لكن القصة القصيرة تبقى بحكم طبيعتها الثابتة بعيدة عن الجماعة, ورومانتيكية, وفردية, ومتأبية … "

تتكرر غواية أطيافه.يقاومها

بكل أمل في الهزيمة وكل توق للوقوع تحت سيطرتها..فريسة مواتية يحرقها الوجد لإكتشاف ذاتها من جديد.

تركت مفرمة الواقع ندوبا لا تمحى في صفحة القلب. إنطفأت جذوة الفرح الخالص، العشق المبدع،علقت شوائب الشك بعقله تبارز إيمانه بالبشر. لن يكتب سطرا لن يظهر فيه هذا الكدر. لن يقدر أن يصف الطهر الطفلي في قلب عاشق. ضاعت منه بللورات النور التي يقذفها في وجوه أبطاله فتضيء الكون، وفقد تعويذة الجنون الملهمة التي تهب الكاتب لآليء الكلم.

هل ما يعانيه هو "قفلة الكاتب" أم خرس الروح؟ هل إنتهي ككاتب أم إنمحق كإنسان؟ أظلمت روحه كما قاع بئر أحكم إيصاده بيده..و إنقصفت رؤوس فرسان الشرف في مذبحة القبح. ماذا سيخط قلم لا يرسم زهرة..لا يشعل حماسة..لا يثمر فكرة.ماذا سيقول أسير العتمة، وربيب اليأس؟!

ماذا سيكتب للناس من كفر بهم..وسخط عليهم؟

من فقد القدرة علي الدهشة..من أفرغ كل أرصدة الدهشة في كابوس واحد.

(…لجنة الإمتحان الخاصة بمدرستنا وكل مدارس الإدارة سوف تكون في مجمع مدارس النصر.يبدأ الإمتحان في الثامنة..من يتخلف أو يرسب لن يستحق العلاوة حتى يخضع للاختبارات من جديد….)

وفي الموعد المحدد لعرض الملهاة..توالت

التفاصيل كئيبة. تزين السور الخارجي للمجمع حينا بالرسوم وحينا بجمل الشعر والحكم. إصطدم بصره ببيت شوقي الأشهر منقوش بخط رقعة جميل..

قم للمعلم وفه التبجيلا..

كاد المعلم أن يكون رسولا.

يطل إبراهيم طوقان, الشاعر المعلم , من رأسه صارخا:

شوقي يقول وما دري بمصيبتي

قم للمعلم وفه التبجيلا

بهو البناية الأنيق يفضي إلي الفناء. يتألف من حدائق صغيرة ذات اشكال مربعة او مستطيلة..تحيطها

مقاعد خشبية عديدة ومتناثرة تصطف في الممرات.لا تستوعب عشرات المئات من المعلمين المتكدسين.شيء في مظهرهم ..إنكسار ما.

يتحاشد الوافدون الجدد أمام صحائف الأسماء المنشورة علي الحائط. تحوي أيضا بالإضافة إلي الإسم الفصل أو اللجنة مقر الإمتحان، ورقم الطابق والردهة. كل التفاصيل بعد ذلك تذكرك بإمتحانات الثانوية العامة. كأنه إرتداد بالزمان إلي كيان مصغر منك.. لا يعترف بشهادتك الجامعية.. ويجردك من خبرتك المهنية الطويلة أو القصيرة. أعلن مراقبين اللجان تعاطفهم مع زملائهم لإيمانهم بأحقيتهم دون شروط في الحصول علي علاوة الكادر..بالإضافة لصعوبة وعبقرية بعض أسئلة الإختبار.. خاصة التي تتعلق بتطبيقات النظريات التربوية!..وهو التعاطف الذي سوف يترجمه غض الطرف عن محاولات التعاون الجماعي والتي توصف في مقامات أخري بالغش!. أثبت المعلمون براعتهم الفائقة في محاكاة أساليب الغش المتنوعة, التقليدية منها و المستحدثة, التي يكافحونها لدي الطلاب. مارسوا كل ذلك في جو يشيع بالسخرية المؤلمة، الدعابات الممرورة، والضحكات المتشنجة.

تأكد من أهليته لإنجاز الإختبار نظرا لتواصله، بحكم الدراسة،مع كل موضوعاته. لكن

بدا له، من خلال معاناة زملائه، إن المطالبين بالمقاطعة كانت مطالبهم أقل من عادلة وأكثر من مشروعة.

كان موقنا من عقم المحاولة وعدم جدوى الإنسحاب. لكنه مارسه، رغم ذلك، كتشبث أخير بهوية منشطرة ,ومتشظية الآف القطع المنسية في ثنايا المفرمة. يئوب إلي غرفته خفيفا متواثبا..

تدرك أطيافه ما ينطوي عليه مظهره من عزم فتحذره مداعبة:

"… وكل إختيار يقوم به يحتوي علي إمكانية قالب جديد, كما إنه يحتوي علي إمكانية إخفاق كامل …"

يشهر قلم البوح في وجه العدم. يشرع يكتب.." خارج الكادر".. غير عابيء بالإخفاق الكامل..متحديا الصمت الأبدي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى