السبت ١ آذار (مارس) ٢٠٠٣
بقلم سليمان نزال

خارطة للفجر وخارطة للظلام

لا ساعة من هدوء تعانق أيامنا الفلسطينية الصارخة، الصاخبة. و حده النزيف المبجل لشهداء الرفعة والخلود يحتل افئدة المشاهد الدامية. ولن تصبح الشهادة
أمراً عادياً تمر كتحية صباح مكررة، حتى لو أُريدَ لهذا الشعب الفلسطيني المعطاء
أن يُدفع إلى وديان الإحباط و القنوط عبر سلسلة متواصلة من الجرائم و المجازر والإجتياحات المتواصلة، فيجبر في ميدان غير عادي على أن ينظر إلى الموت المقدس لأبطاله و صقور و بواسل حريته و إنتفاضته، نظرة وكأنها عادية.

في مخيم عسكر بالقرب من نابلس يطلق جنود الصهاينة المجرمين نيران مدافعهم و بنادقهم على مجموعة فتيان فلسطينيين عزل، يستشهد البعض، يجرح البعض وتستمر الإنتفاضة الباسلة وتتجاوز بفعل التضحيات السامية لشعب شجاع كل محاولات وخطط ومشاريع إخماد جذوتها وقطع جذورها الجماهيرية، الكفاحية.

وفي خان يونس تحصد الجريمة الصهيونية الشارونية الحاقدة الممنهجة أرواح عدد من الشهداء في إجتياح جديد، و يستبسل الفلسطينيون دفاعاً عن أرضهم و كرامتهم وبالنيابة عن أمة حائرة ضائعة، صار لزاماً عليها أن تتحرك في مواجهة أعدائها الكثر، وعلى مستويات وبنيات متعددة.

ويسطر الفلسطينيون في جنين ونابلس وطوباس والخليل وطولكرم وغزة وكل فلسطين، أروع ملاحم الفداء و البطولة، وتستمر الإنتفاضة المباركة سعياً إلى نيل الإستقلال الكامل، الحقوق الغير منقوصة لكل الشعب الفلسطيني وفي مختلف أماكن تواجده. هذا الشعب الذي أصبح تعداده أكثر من تسعة ملايين نسمة، فانظروا في قلب هذه الملايين وسترون مشاريع الشهداء، سترون الحبق الملائكي وقوافل السمو والضياء الإنتفاضي والجهود والكفاءات والإمكانات الجبارة التي تحتاج إلى مزيج من التنظيم وحسن التوظيفي في ساحتي الوطن وفي الشتات والمهاجر والمخيمات.

فكيف إذن والحال هذه، يصبح موتنا عادياً في مرحلة برهن فيها البواسل عن قدرات غير عادية في مقاومة الأعداء وطلب الشهادة والنصر؟ كيف يصبح موتنا كشهداء في الوطن المحتل، من المسائل العادية، وقد بذل ويبذل شعبنا جهوداً غير عادية في الصمود والصبر، تحمل خسائر باهظة يتسبب بها الصهاينة من خلال مجازرهم وحصارهم وقهرهم لشعبنا ومحاولة إذلاله وإرغامه على الموافقة على شروط مذلة تجعله يتخلى عن أهدافه الوطنية الثابتة في الحرية والعودة والإستقلال وقيام الدولة الفلسطينية الحقيقية؟ ويقبض الفلسطينيون الصامدون المرابطون على جمر الصمت العربي، هذا الجمر العربي الرسمي الذي يلسع أصابع الأحبة والأهل والأصدقاء ويصبح برداً وسلاماً وتحيات عاطرة وتقبيل أياد على الجبهة الغربية.. التي تستعد وترسل جيوشها للإنقضاض على العراق وشعبه وثقافته ومصادرة عقول العلماء فيه وربما إستخدامهم، فيما بعد..
لتطوير أسلحة دمار شامل فعلي، جديدة، تلقى على رؤوس من سيتبقى من العرب العنيدين وفي الطليعة منهم أهل فلسطين وسوريا ولبنان.. وبقية العرب والمسلمين الأحرار، أصحاب المبادىء والقيم، ممن يركبون رأسهم فلا يتعضون بما حدث أو سيحدث لأبناء جلدتهم في العراق وفي الأرض المحتلة.. تريد الإدارة الأمريكية ومن معها ويتبعها ويترسم خطاها التوسعية، تغيير الخارطة العربية، فتجدد من أساليب وطرائق النهب والإستغلال، وتحدث "ثورة" في الصحراء..

فتنفض الغبار عن جلد التابع القديم، فتستبدله بوضعية ومواصفات حديثة، وحين تستكمل أهدافها، حسب مخططها وتصوراتها، تعهد بوظائف التبعية وتأمين مصالح أمريكا وشركاتها وإحتكاراتها، إلى جيل شاب.. يذهب إلى الجحيم "المعولم" في معاداة مصالح شعبه وهو مغمض العينيين، مسلوب الإرادة، ميت الضمير. خريطة للعجز، للسلب، لتجزئة المجزأ، لتأسيس دويلات طائفية، في زمن الإستنساخ والإستمساخ! والتوغل الإمبريالي وحماية إسرائيل الإرهابية، صار "إبن العلقمي" قبيلة وفخذ وهم يستعدون لدخول بغداد وغير بغداد برفقة المغول والتتار وزمر الخانعين..

فهل تدافع الأمة عن مصالحها وأوضاعها الحيوية والإستراتيجية والكيانية، أم أصبحت الانظمة الرسمية لا تعرف الصعود إلاّ على سلالم الإقليمية والفئوية، وتجيد بكل اتقان النزول من قمم وذرى الكرامة، والتخلي عن المنظمومة القومية والإسلامية وحتى الإنسانية؟ وإلا كيف نفسر هذا الهوان في السكوت المخزي عن جرائم الصهاينة في فلسطين، وتدخل الإمبرياليين في شؤون العرب وخصوصاً في العراق ومصير العراق؟

لكن هنالك في المقابل خرائط للبطولة والعزة والشموخ العربي الفلسطيني، يصنعها الإستشهاديون الأبرار، خرائط تسعى لكي تتمسك بكل تضاريس الوحدة والتضامن والمناصرة والمصالح العربية المشتركة. إن الخريطة التي تحملها الأساطيل والطائرات وأسلحة الدمار الشامل الغازية الدخيلة، لن يكتب لها أن تغدو حقيقة ووقائع، حتى وإن نجحت على المدى القصير في خلخلة بعض الأوضاع. فلا خرائط سرطانية يمكن لها أن ترسم حدودنا وحدود آمالنا وتطلعاتنا كعرب وكمسلمين، كدعاة تحرر ووحدة ونهوض وتقدم في كافة المجالات، وانبعاث ومقاومة مشروعة.

خريطة المستقبل العربي المنشود ترسمها الإرادات والعقول الجماعية لجماهير الأقطار العربية. خريطة للفجر الكامل، تمحو الحدود المصطنعة بين الدول العربية.

تزيل الخلافات المقيتة، ترفع من مستوى معيشة المواطن العربي المقهور، خريطة للتماسك المصيري، تزيل مكعبات الهم والتخلف والأسمنت والقمع. تؤسس لتضاريس البهاء الموحد، تمهد لقدوم ملامح الشروق، تشكل صورة وجوهر الزمن العربي المطلوب في مواجهة دعاة التمزق والتشتت والحلول الظلامية.

عندئذ، ستعانق ساعاتنا الحزينة، كلَّ الفرح الممكن في مجال الإستقلال والفخر والديمقراطية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى