الثلاثاء ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم حسن برطال

خدعتني أيها المصباح

(إلى الجندي المجهول...السحيبات المختار)

عشرة شهور من الانتظار..الترصد والمراقبة و لازال رأس الثعبان لم يظهر بعد..سوف أقبض
عليك هذه المرة بقبضة يدي و لن أدعك تعود إلى الجحر ثانية.

يا للمفاجئة..صدفة جميلة..انه مزمارالغياط (1)..و صوت الطبل يمران تحت النافذة الآن، ستطلين سأراك رغما عن أنفك..سيتدلى عنقك حتى يصل إلى الأرض لأراك من أول دائبة في رأسك إلى
آخر خدشة قمل في قفاك.

إلى لا أعرف عنك شيئا..ولكنك ككل النساء و هذا مغروس في دمهن..سيلقين بأعناقهن من الشرفات ( يبرككن ) (2) ما تحمله ( الهدية ) من – جوج جوج من الحاجة – (3)..و أنواع الحلي و أشكال التبرج.

أعناق المارة تشرئب..أعناق الشرفات تتدلى..كل العيون ناحية العربة المكشوفة العورة و التي يجرهاالبغل ببطء.

ثعابين تنساب من أعالي الجبال..عوانس..شباب ضائع عبرا لجمارك مع حمولات – البال- (4) من
تاوريرت و سلع الشمال..قلوب بستين ألف تأشيرة يسيل لعابها كل واحدة تتمنى لو كان العريس
من نصيبها.

ثعابين تلهت, أضنتها حرارة الصيف المحرقة..المغرية التي دفعت العزب لإقامة الولائم و الأعراس
لازال موكب – الدجال – يتحرك ببطء..يبتعد شيئا فشيئا البغل إلى الأمام و أغنية ( زيد سربي أمول
البار) (5)..و الناس تحيي مراسيم الفضيحة.

علامة الفناء.. هكذا قالت جدتي رحمها الله..سيمر – الدجال- في آخر الزمان عبر الأزقة و الشوارع
و يجر بني آدم إلى البحر و لا ينجو إلا من كان نائما..

نجت صاحبتي من الفناء..شرفتي ليست كغيرها من الشرفات, يا مهجتي...لم ينل منها ضجيج الدجال
و لا مزمار الغياط شيئا..
أحببت فيك تعبدك..و قيامك الليل على نور المصباح أيتها الناسكة..
سأبقى هنا و لن أتحرك..لن أتبع الدجال..أنتظر الأمل الأخير القادم مع آذان العصر لعله يوقظك..

زمهرير الشتاء.. العواصف الرعدية...و رنين الأسلاك الكهربائية حين تحاور أعمدتها..كل هذه
الأشياء.. و أنا....و الثانية عشر ليلا تعلنها ساعتي اليدوية..من زقاق إلى زقاق...من شارع إلى شارع
أخفف الوطء صوب مكانك الآمن..جدع نخلتك المنشودة..أجري نحو الشرفة حيت سجنوك..أهرول
قبل أن تطفئي المصباح..و تنامي..فتفوتني حركاتك و أنت تقفلين الشباك آخر فرصة مواتية لرؤيتك
هذا اليـــوم.

يا الله...أشعر بقلبي ينط..شعور غريب...كشعور أول متسابق يصل إلى خط الوصول..الغرفة لازالت
مضاءة كالمعتاد..المصباح لازال مشتعلا..إنها هناك..لازالت لم تنم بعد..يا لحسن حظي..
الوقوف إجباري..علي أن أقف كما تعودت أن أقف كلما مررت من هنا و رأيت النور يتسلل من داخل
الغرفة عبر النافذة... علي أن أقف...كم من الوقت..؟؟ الله أعلم...حتى تقفل النافذة.. حتى أراها..

المطر يهطل..ألتصق بالجدار لعله يحميني...حانيا رأسي لكنه سرعان ما تجذبني إليها الشرفة المضاءة
إليها سهوا، فتباغتني قطرات المطر في مقلتي فتؤلمني..نور المصباح داخل الغرفة يؤكد وجودها.

و انفتاح النافدة على مصراعيها و حركة الستار خلف الزجاج ربما تقول لي إنها هناك تنظر إلي بنصف
عين..أريد الوجه كاملا يا – مريم – فرؤية الأشباح المطموسة الملامح غير كافية لإخماد النار المشتعلة في قلبي..

هذه الليلة ليست كسابقاتها من الليالي..هذه الليلة سأراك إني لا أشك في هذا...سوف تفضحك الضرورة..
سوف تأخذين المنديل لتجففي زجاج النافذة من ماء المطر..سوف أراك بالتأكيد..جففي الزجاج..النظافة
من الإيمان..الوضوء خمس مرات في البوم شاهد عليك يا – مربم - لا بأس... فتجفيف الزجاج شيء ثانوي بالنسبة لك كقلبي...لكنك ماذا ستفعلين مع الشباك..؟؟ الذي يرتطم
بالجدار الآن من شدة الريح..سيتكسر.. سيعاقبك الأهل..سوف لن يتكلم من كان في المهد صبيا و يدافع
عنك...لماذا لا تقفلي الشباك..؟؟

المطر يتساقط على الزجاج و لا يد تجفف...الشباك يضرب الحائط.. سيتكسرو لا يد تمتد لانقاده..
لا شك أنها نائمة..لا شك أنها في زيارة لأهلها..لكنه، سرعان ما تجيبني أشعة المصباح المختلفة الألوان
بحمرتها..زرقتها..و خضرتها و تقول لي: لا..لا..لا..إنها هناك..هناك..فتقضي علي بالوقوف على قدم
واحدة جاحظ العينين إلى الأعلى كمتعبد يحيي مناسك ليلة القدر..

اثنى عشر شهرا..و عدد الأيام لا يحصى، بلياليها..كنت كلما مررت بهذا الشارع..نهارا..ليلا..
تكون كل الشرفات نائمة..ماعدا نافذتي تكون نور على نور في أعلى العمارة ناحية اليمين منارة
تجرني مركبا إلى الميناء..
غريب أمرك يا ساكنة داخلي و غرفة غيري..و هنيئا لك يا قلبي ..إني أعزك كثيرا و كثيرا
و إني لأشيعك الآن جنازة شهيد و القاتل وجه بدوية..عربية..مخضبة بالحناء..

يا ليت للمصباح أن ينطفئ ، لتنطفئ آمالي في رؤية الوجه الصبوح..الذي رسمته في مخيلتي
زركشة ألوان – الثريا – أريد أن أتحرك.. أعتق رقبتي أيها المصباح..انطفئ و لو ليلة واحدة
معلنا غياب صاحبتي لأعلن غيابي أنا أيضا عن مكاني هذا..

تتكرر زياراتي..مواضبا و بدون تأخير عن برج مراقبتي..أتربص بصاحبة المصباح المشتعل
لعلني أحضى بنضرة ثانية للوجه الجميل..المغناطيسي الذي يشع زينة و وقارا تعكسها العيون
السود..الهادئة تحت الحجاب..تلك العيون التي لسعني و وميضها الكهربائي مند عام و في هذه
الشرفة بالذات..

فكم أصبحت أشك في أمرك..أمر وجودك في الغرفة أو غيابك طبعا و ليس غير هذا..أنت نطفة
خالصة..لم يكن أبوك امرئ سوء و لم تكن أمك بغيا..صرت أحسد الأسلاك الكهربائية التي تمر
قرب نافذتك لأنها تعرف ما أجهله أنا..

إنني محتار في أمرك..وجودك.. بددي حيرتي و لو بوقفة قصيرة قرب النافذة..لأراك و أمضي
لقد تأخرت هذه الليلة أكثر من المعتاد..
حتى متى هذا الاختفاء..؟؟ المصباح الموقض داخل الغرفة يؤكد وجودك..و حركات الستار خلف
الزجاج تجعلني أصدق..ادن علي أن أبقى هنا..أراقب النافذة..فمادام النور هناك..فأنت هناك..

هاأنا أعود مرغما كعادتي صبيحة هذا اليوم..أمر غريب....جمهور احتل مكاني...سبقوني كأنهم
يزاحمونني في انتظاري لك..سيارات الإسعاف...رجال المطافئ..عيون تبكي ..أشلاء ضحايا..
العمارة تحطمت..تهدمت بكاملها..يقول أحد الواقفين:
— لقد مات السكان جميعا ماعدا غرفة واحدة تركها أصحابها و رحلوا إلى بيت آخر قبل وقوع
هذا الحادث باثني عشر شهرا...و يشير بسبابته إلى نافذتي.

(1) بالعامية المغربية هو الذي ينفخ الناي التقليدي

(2) ينظرن و يراقبن بدقة

(3) بالعامية المغربية و تعني كل شيء منه اثنان

(4) الملابس القديمة

(5) أغنية شعبية يعرفها جيدا جيل الثمانينات


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى