الاثنين ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم عزالدين كطة

خديجة طنانة وكوريغرافيا الألوان

اشتغال على قضية الهجرة السرية وأجساد خادمات مثخنة بجراح العبودية

إن تجربة الفنانة المغربية خديجة طنانة تجربة غنية مليئة بالإبداع الذي ينشد الحرية، ويبتعد عن أية قيود من شأنها أن تقطع قوادمه أو تحد تحليقه في سماء الفن، فقد تميزت لوحاتها بجرأة عالية لا تقل أهمية عن جرأة فناني عصر النهضة الأوروبية، خاصة في ما يتعلق بكسر جدار الصمت عن موضوعة الجسد، فالجسد كما تصوره تيمة جمالية ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، واكبر من أن يحاصر في دائرة إيروتيكية ضيقة تنقص من مخزونه الجمالي وحمولته الدلالية، وهي بذلك استطاعت أن ترسخ قدمها علي أرضية الفن التشكيلي وتصنع لتجربتها بصمة خاصة تقودها نحو العالمية .
فقد تمكنت من اكتساب تجربتها العميقة في مجال التشكيل، بعد تفرغها له نهائيا، ابتداء من أوائل تسعينيات القرن الماضي، إذ كانت تشعر بان اهتمامها بالميدان السياسي يبعدها أكثر فأكثر عن ضفاف الفن، فغطت سويداء الإبداع في كيانها علي باقي الاهتمامات لتقطع علاقتها كليا بالعمل السياسي، بعد أن كانت تمارسه لفترة طويلة غب عودتها من باريس والتحاقها كأستاذة للعلوم السياسية بكلية الحقوق بمدينة فاس.

ومن ثم انطلقت في إثراء مسيرتها عبر إقامة العديد من المعارض الفردية والجماعية طافت بها في مجموعة من المدن المغربية والدولية كفرنسا واسبانيا وبلجيكا ومصر وفلسطين.... من خلال أعمال تميزت بالتنوع والجدة عبر أسلوب تشكيلي لا يخرج عن إطار جوهر الخصوصية التي تسم أعمال الفنانة وتمنحها طابعها الخاص.

وللإشارة فان خديجة طنانة مبدعة بكل المقاييس مكنتها ثقافتها الكبيرة وسعة اطلاعها من تجريب باقي الفنون الأخري فكتبت الشعر والمسرح والسينما، وعشقت الموسيقي والرقص ودائما كانت تضع الإبداع علي رأس قائمة اهتماماتها حتي عندما كانت تضطلع بمسؤولية نائب رئيس المجلس البلدي لمدينة فاس خلال سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كانت تشرف علي اللجنة الاجتماعية والثقافية بالمجلس لمدة تسع سنوات (من 1983 إلي 1992) كما قامت بتنظيم ملتقيات في مجالات متعددة كالشعر والموسيقي والمسرح والسينما ولا سيما المتعلقة بالإبداع النسائي، حيث أسست بصحبة الكاتبة رشيدة بنمسعود جمعية الإبداع النسائي، التي استطاعت أن تتبوأ مكانة مهمة في العالم العربي بفضل أنشطتها الوازنة والمهتمة بالمرأة وإبداعاتها.
كانت المرأة ولا زالت محور أعمالها التشكيلية، إذ منحتها صوتا خاصا بها يصدح من بين تموجات الألوان ليعلن حضوره القوي والفعال في المجتمع، بعد أن عانت المرأة من مختلف أنواع التهميش والإقصاء لسنوات طويلة. لذلك فقد اتسمت لوحاتها بنوع من التمرد والجرأة في التعبير التشكيلي، فاستوطنت الأجساد الأنثوية أعمالها لنراها مرة متناثرة مشتتة في حمأة لونية تطلق صرخات الألم، ومرة هادئة ترقص في صمت وتمتد وتسترخي، أو تنتثر كأوراق الشجر في كوريغرافيا عميقة الدلالات .

فالجسد في أعمالها تيمة مهمة لأنه كما قال الفنان التشيكي ريدولف كريمليكا ان محاولة دحره عن اللوحات كمحاولة إبعاد موضوعة الحب عن الرواية . فمنذ بدايتها فسحت المجال أمام هذه الموضوعة لتنال المساحة الأكبر من اشتغالها ولا سيما أن الجسد الأنثوي طالما تم ربطه بالفكر المجتمعي التقليدي الذي يسجنه داخل دائرة من المحرمات ويبعده عن الدراسة أو أي تناول كتيمة فنية، لذلك نلاحظ أن الفنانة خديجة طنانة قد شغلت بهذه الموضوعة منذ أن وضعت ريشتها علي أول لوحة سنة 1972، فرغم أن ريشتها لم تستقر بين أناملها إلا بعد تفرغها النهائي للفنون التشكيلية في بداية التسعينيات من القرن الماضي، كانت موهبتها قد بزغت منذ طفولتها مجسدة في رسومات انفعالية علي أوراق عادية، وهو ما يبدو من خلال لوحة صغيرة تحتفظ بها الفنانة في مرسمها إذ تعتبرها أول لوحة أدخلتها جنة الألوان وفردوس الإبداع التشكيلي.

اللوحة عبارة عن جسدين لامرأة ورجل يقفان متدابرين، يربط بينهما شعر طويل ينبثق من رأس المرأة ليمتد في اندماج تام بشعر رأس الرجل، ولعلها صورة حية تمثل نظرة الفنانة إلي الارتباط الوثيق الذي يجمع بين المرأة والرجل، وهي رمزية توجه نظرنا مباشرة إلي زاوية علاقة الرجل والمرأة الفكرية، بحيث تجعلهما في مستوي واحد، وفي توحد كلي، تلك العلاقة التي يعززها الجسد ويكملها لتصبح مصدر حياة تسودها المساواة، والمحبة والتكامل بين الطرفين .

ومن هنا نجد أن خديجة طنانة قد سبقت زمانها بوقت طويل بالنظر إلي تاريخ انجاز اللوحة (1972)، فمن المعلوم أن هاجس المساواة بين الجنسين وإنصاف المرأة والمطالبة بحقها وإنقاذها من البطش المجتمعي الذي كرسته السلطة الذكورية، لم تشرق شمسه إلا في وقت قريب جدا، مما يدل علي النضج والوعي المبكرين اللذين تنعمت بهما الفنانة خلال فترة لا زالت فيها السلطة الذكورية من المسلمات التي لا يمكن الحديث عنها أو حتي الإشارة الي انتقادها.

لم تكن هذه اللوحة إلا مفتاحا لمحاولة فهم باقي أعمال الفنانة خديجة طنانة في شموليتها، فعندما ننتقل إلي تناول اللوحات التي أنجزتها في تسعينيات القرن الماضي وهي بداية فترة أوج عطائها، نكتشف أن الحمولة الرمزية التي تغتني بها تسوقنا إلي نفس الفكرة المجسدة في اللوحة الأولي مع كثير من العمق وفيض من الجرأة.

ففي سلسلة من اللوحات اشتغلت فيها الفنانة علي موضوعة الجسد الأنثوي الذي كان ينظر إليه كمنفعة ومصدر للذة فقط، في علاقة شبيهة بتلك التي تجمع السيد بأمته، حين كانت الأَمَةُ أو الخادمة خلال فترة ما تتعرض لأبشع استغلال جسدي يجردها من إنسانيتها، دون ان يكون لها الحق في الاعتراض أو الإشاحة بالوجه عن النظرات اللاهثة لسيدها الذي يمعن في استغلالها، ثم يرميها بعد أن يبدأ جسدها بالاهتراء والذبول .

بروز وجه الخادمة في أعمال خديجة طنانة

وظفت خديجة طنانة شخصية الخادمة في مجموعة من أعمالها واستعملت جسدها المثخن بجراح العبودية، والذي طالما تم استغلاله من طرف السادة كأرض تزرع فيها المكبوتات كدلالة علي ما كانت تعاني منه الأمة أو الخادمة خلال فترة قاتمة كانت الفنانة شاهدة عليها.

فقد أثارني وجه امرأة سوداء يحتل مجموعة من أعمال الفنانة خلال زيارتي لمرسمها، مما دفع بي إلي سؤالها هل هذا الوجه الذي لا يكاد يخلو من لوحة هو وجه من الوجوه الحقيقية التي تركت آثارها في مسيرتها الفنية؟ لتجيبني الفنانة بأنه جرح انتقل إليها من معاناة امرأة كانت ترزح تحت العبودية عاشت مأساتها عن كثب فوشمت صورتها في ذاكرتها برماد المعاناة منذ الطفولة.

فهي امرأة عاشت لخدمة عائلة ارستقراطية خلال سنوات الخمسينيات، حيث كانت ظاهرة تجارة الرقيق لا تزال تبسط بظلالها في المغرب، قبل أن يقضي عليها نهائيا في أواخر الستينيات .

وتكتسي شخصية الخادمة أهمية كبيرة في أعمال خديجة طنانة بحيث كانت مصدر تأثير عظيم علي ذاكرتها، هذا التأثير الذي برز بقوة في مجموعة لوحات ميزت مرحلة ما، لوحات في أحجام مختلفة تظهر فيها امرأة سوداء ضخمة في عري تام، وفي وضعية الحركة والرقص، كأن الفنانة تريد أن تصور لنا حالة المرأة التي ترقص رقصة المذبوح من الألم.

وما نلمسه من خلال ملاحظة المادة المستعملة في لوحات خديجة طنانة، انها تستعمل مادة القهوة بشكل يحقق نوعا من التوازن بينها وبين مضمون العمل، فهذه المادة بلونها الطبيعي مكنتها من إضفاء صفة التكامل والانسجام علي اللوحات التي تمزج بين الحركة والرقص والألم، وهي لا تكتفي باستعمال الاكريليك علي القماش بل تلهبها بلفحة القهوة التي من شأنها أن تجعل عناصر العمل في وهج مستمر يعرج بذائقة المتلقي نحو تصور أعمال الفنانة في جميع أوضاعها المفترضة.

إن أعمال الفنانة خديجة طنانة في تناولها لموضوعة الجسد الأنثوي قد حاولت أن تضعنا قاب قوسين أو أدني من أعمال فنانين مثل كليميث ولوسيان فرويد وجيني سيرفيل علي اختلاف مشاربهم.

إلا أن الفنانة اشتغلت علي ما يمكن تسميته بـ مأساة الجسد الذي يغلفه الصمت وتغطيه ظلال الرؤية الأحادية، أو الجسد الذي تم خنقه بحبال جدلتها التقاليد والعادات ليبدو في لوحاتها صارخا لا تمتد إليه سوي رحمة الصباغة الداكنة الموضوعة بتقنية عالية لتدير وجهة المتلقي نحو التأمل في دلالات العمل وأبعاده القصوي، وان كانت الأجساد التي تسبح داخل كرنفالية الألوان الداكنة من بينها مادة القهوة التي أثرتها الفنانة لتوظيفها في اغلب أعمالها، حتي تلك التي تميل فيها إلي التجريد في وضعية العري المطلق فقد تم وضعها بشكل لا يمكن أن يشتهي أو يستثير أوتار الغريزة الجنسية، لأنها لوحات عمدت فيها الفنانة إلي الاستفادة من تجسيدات الميثولوجيا الإغريقية التي استعملت فيها الدقة العلمية لتغليب الجانب الإبداعي ورفعه أعلي من الاستثارة الايروتيكية كما هو الحال بالنسبة لافروديت وابولو .

أجساد غارقة

اشتغلت خديجة طنانة علي تيمة تكتسي أهمية كبيرة في دول العالم الثالث ألا وهي إشكالية الهجرة السرية، ففي سلسلة من لوحات تحت اسم الحريك قامت الفنانة بعرضها في مجموعة من المعارض المغربية: صندوق الايداع والتدبير بالرباط بالمشاركة مع اتحاد كتاب المغرب ثم بمعهد سرفانطيس بمدينتي طنجة وتطوان، برز الجسد في شكل آخر يعبر عن الحريك والاسم مستمد من الدارجة المغربية ويدل علي الهجرة السرية نحو ضفاف أوروبا، فكل اللوحات كانت تعالج هذه الظاهرة الاجتماعية التي انبثقت في المغرب وفي كل الدول الفقيرة وسط فئة الشباب بسبب الانكسار والفقر وفقدان الأمل أمام مواجهة البطالة مما يدفعهم إلي الارتماء في أحضان البحر طالبين رحمته من جحيم المعاناة المادية، عل البحر يحملهم إلي فردوس أحلامهم التي يرون فيها وعودا خلبية، فإذا بهم ينتهون في بطن ظلماته.

وهنا نجد الفنانة تعبر عن كارثة الأجساد التي يلتهمها البحر بلوحات يظهر فيها كوحش ضخم يغرس مخالبه في أجساد الحراكة أو المهاجرين ليجذبها إلي أغواره المظلمة في صراع عنيف مع الموت، فتمكنت الفنانة باستعمالها للاكريليك الممزوج بلمسات مادة القهوة من التعبير عن المعاناة المترتبة عن الحريك أي الهجرة السرية التي غالبا ما تنتهي أشواطها بين يدي الموت القابع في عمق البحر.

هي موضوعة أخري إذن تؤكد سعي الفنانة نحو تكسير الرتابة في أعمالها مع التركيز علي تناول الجسد باعتباره بؤرة حبلي بالدلالات الفنية أو كبنية تختزن كل الهموم المتعلقة بالإنسان الاجتماعية والثقافية والسياسية وحتي العاطفية منها، فلا يمكن فصل الجسد عن أي تلك الهموم .

يمكن القول أن خديجة طنانة قد عكست بهذه التجربة منحاها التصوري للفن بصفة عامة وللفن التشكيلي بصفة خاصة، علي انه المنبع الأساسي للتعبير عن هموم الإنسان ومكنوناته الداخلية، باعتبار الفنان هو الوحيد القادر علي رصدها وإظهارها إلي المتلقي بصيغة جمالية وإبداع ثري يعلن تحديه لكل ما من شأنه أن يحد من فكر الإنسان علي حد تعبير الفنان كوكاشكا.

وقد سارت في هذا السياق مجموعة من الفنانين الألمان في سعيهم نحو تأسيس ما يسمي الموضوعية الجديدة، التي ترفض الانحرافات الانفعالية للتعبيرية في عهد لاحق، وتركز علي واقع المجتمع الإنساني عامة ومجتمعهم الألماني علي الخصوص في فترة ما بين الحربين الكونيتين، ومنهم جورج غروس واو تودكس وماكس بكمان .

اشتغال على قضية الهجرة السرية وأجساد خادمات مثخنة بجراح العبودية

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى