الثلاثاء ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم مكرم رشيد الطالباني

خطأ مطبعي

كانت الأمور هذا الصباح طبيعية كالأيام السابقة حتى الساعة التي وصل فيها العاملون في المؤسسات الحكومية والحزبية إلى محال أعمالهم، ولاحظوا العنوان الرئيس الذي نشر في إطار مستطيل على الجهة العليا اليسرى من صحيفة (المستقبل القريب)، حيث تفجر العنوان بدءاً في غرف الموظفين غرفة إثر أخرى ومن ثم في مكاتب المدراء، ومن ثم في أكشاك بيع الصحف على الأرصفة ومن ثم في أيدي بائعي الصحف المتجولين أمام المطاعم والنقليات، وبعد وقت متأخر تحت السرادق الصيفية لمنازل الأغنياء، وقد عاد كل قاريء أكثر من عشر مرات إلى العنوان وراجعه معيداً قراءته مجدداً حرفاً حرفاً. أعتقد مدير إحدى المؤسسان أنه لا يزال نائماً وهو يحلم. فرك عينيه لوهلة ومن ثم أعاد قراءة العنوان بصوت عالٍ.
وقد عمد مدير مؤسسة أخرى إلى الوقوف إجلالاً لعظمة وقدسية الخبر وكأنه أمام نص مقدس وهو يقرأ العنوان جهراً وعلى إيقاع موسيقي. فيما كان هناك موظف يعصر رأسه بين كفي يديه مردداً مع نفسه:
ـ يا رباه! أيكون الخبر صحيحاً! أممكن ذلك!!
عمد مدير آخر بعد أن خرج من تأثير هول صدمة الخبر للنظر في التقويم الموجود على مكتبه للإطمئنان بأن اليوم ليس الأول من نيسان!!
لم يبق أحد في المدينة من لم يحمل نسخة من صحيفة (المستقبل القريب) الصادرة هذا الصباح. كان هناك من حصل على قطعة من الصحيفة ليس إلاّ ومن كثرة ما قام بتقبيلها حتى غدت وكأنها غطست في الماء. وكان هناك من أنتزع المستطيل الذي نشر فيه الخبر لاصقاً إياه على جبينه. وحتى الأميين كانوا يبحثون هذا الصباح عن الصحف! وكانت الصحف في هذا الصباح أقدس وأطيب من الخبز، بل أن بعضاً من الإنتهازيين قاموا بإستنساخ آلاف النسخ من الصفحة الأولى للصحيفة وهم يبيعونها في السوق السوداء باسعار خيالية. وقد قامت الجماهير هاتفة برفع المواطن الذي أمر كافة مخابز المدينة بتوزيع الخبز الحار مجاناً على المواطنين صغاراً وكباراً هذا اليوم من دون توقف على حسابه الخاص، على الأكتاف وساروا به إلى نهاية الشارع وإعادوه.
وعمد الناس من شدة السعادة والفرح إلى تنظيم مهرجانات السعادة وحلقات الرقص والدبكة وسط الشوارع والساحات وتقاطع الطرق وحتى أسطح المؤسسات والدوائر الرسمية، وقد عمدت الجماهير تقديراً وإعتزازاً إلى تسليم راية البلاد للمرأة البطلة المسنة التي كانت تقود حلقة الرقص والتي قدمت ثلاثة من أبنائها قرباناً في مرحلة الثورة والدفاع عن حياض الوطن.
كانت أرتال السيارات في المدينة قد أنارت أضويتها وقام سواقها بتزيين نوافذها وزجاجها بعناوين صحيفة (المستقبل القريب)، وكانت أبواقها جميعاً تردد لحن النشيد الوطني، وكان قسم من المواطنين يبكون والقسم الآخر يضحكون، ومن ثم كان القسم الأول يضحكون والقسم الآخر يبكون.. أحتضن مواطنٌ مواطناً آخر قائلاً: أممكن أخي أن يكون الخبر صحيحاً؟ أممكن أن يكون كذلك؟
عمد الآخر يمسح دموعه وهو يقول:
ـ كيف لا يكون صحيحاً أخي! لقد شاهدت هذا الصباح (كوفي عنان) بأم عيني داخل سيارة تابعة للأمم المتحدة متجهة من عنكاوة نحو البرلمان ..
وفي الوقت عينه إجتمع عدد من العاملين متجهمين حزينين في غرفة رئيس التحرير بمقر صحيفة (المستقبل القريب) وكان رئيس التحرير قد أنحنى فوق منضدته جراء عظمة الكارثة، كي يتمكن من ضربها بقبضته بإحكام والصراخ في وجه العاملين:
ـ ليست هذه هي المرة الأولى! إن الإنسان ليضطر أن يفكر بأن هناك من يقف وراء عملكم هذا! لقد وصلت أخطاؤكم المطبعية إلى حد يضطرنا إلى غلق باب صحيفتنا ويعود كل منا إلى بيته! إنكم لا تصلحون لهذه المهنة! هلموا لتعملوا نوادلاً لدى أصحاب مطاعم الكباب! أو صانعاً لدى ميكانيكي السيارات! أو بائعي الخضراوات! لقد هدمتم منزلي ليهدم الله منازلكم؟!
أردف أحد الحضور قائلاً بصوت خفيض:
ـ وماذا حصل الآن يا سيادة رئيس التحرير! وهل كفرنا بالله؟!
ضرب رئيس التحرير المنضدة ثلاث مرات بجبينه بكل ما أوتي من قوة قائلاً:
ـ لقد كفرتم كفراً لا مثيل له، من النوع الثخين! وهل إن توجيه الشتائم للسماء هو كفر! إن ما أرتكبتموه ...
لقد أنبرى أحدهم قائلاً وهو يكمل الجملة له:
ـ وصل إلى (كفري) وقد إجتاز (كلار) أيضاً!
تلقف رئيس التحرير إحدى الأوراق من أمامه ومسح بها قطرات العرق على جبينه ورأسه ورقبته وأستمر في حديثه:
ـ لقد قاموا بإيقاظي من النوم منذ الصباح الباكر ولا زلت أتلقى التهديد والوعيد. إنكم إجتزتم ليس الخط الأحمر بل أمحيتم كافة الخطوط الحمراء مرة واحدة! لقد قلبَ خطأكم المطبعي هذا أعالي كافة مدن البلاد أسافلها! إن إحصاء المصابين بالسكتة القلبية في إرتفاع! لا إلتزام بالدوام الرسمي في أي مؤسسة .. لقد حيرتم بخطأكم المطبعي هذا حتى السياسيين! وجعلتم السياسة دجاجة منتوفة الريش وأطلقتموها في تلك الأرجاء! لقد أفشلتم ما بذلناه من جهود في تلك السنين! لقد خربتم بيتي! لقد كانت لصحيفتي مصداقيتها، وثقلها! ونسبة كبيرة في أعداد القراء!!
أردف أحد الحضور قائلاً:
ـ لقد أجتاز عدد النسخ المطبوعة من صحيفتنا هذا اليوم في داخل البلاد لوحده أكثر من أربعة ملايين نسخة!
ـ وماذا عن الغد؟ حيث عليك أن تقدم الإعتذار وتصحيح خطأك المطبعي؟ فماذا تقول حينذاك؟ إلى أي حد ستبقى مصداقيتك كصحيفة؟ وثانياً إنكم بعملكم هذا شوهتم الوضع السياسي السائد!
ـ كيف شوهناه؟ إننا لسنا صحيفة لسان حال أحد الأحزاب! إننا صحيفة أهلية وإن نهج صحيفتنا يتطلب منا أن ...
جلس رئيس التحرير على كرسيه. دار حول نفسه دورة واحدة متوجهاً نحو الحضور:
ـ لقد وصلتنا من مكتب كوفي عنان حتى الآن ثلاثة طلبات بالفاكس يطلبون منا توضيح الأمر! لقد أرسل البيت الأبيض أحد العاملين في (مكتب مساعد مسؤول شؤون الشرق الأوسط الخاص بملف الصحافة والأخطاء المطبعية) إلى هنا ولم يصل لحد الآن إلى كوردستان .. إن جيراننا ..(هؤلاء المساكين)!! حين طالعوا صحيفتنا منذ منتصف الليلة الماضية على شبكة الإنترنيت لم يقر لهم قرار! لم يغمض لهم جفن! حيث تفيد وكالات الأنباء أنهم لم يتناولوا حتى الآن فطور هذا الصباح! لقد حاولوا مراراً الإتصال هاتفياً بكوفي عنان! وأتصلوا بمجلس الأمن! وأزعجوا البيت الأبيض! يطالبون بعقد مؤتمر عاجل للأمم المتحدة! كما طالبوا بإجتماع إستثنائي عاجل للدول العربية والدول الإسلامية كلاً على حدة!كما لجأوا إلى المنظمة العالمية لحقوق الإنسان وقدموا شكوى ضدنا على أساس أن النبأ الذي نشرته صحيفة (المستقبل القريب) لهو دليل صارخ لإنتهاك حقوقهم من قبلنا! وقدموا مذكرة عاجلة للدول المتمتعة بحق الفيتو! حتى أن أحدهم ومن فرط إستعجاله وحيرته إتصل بمنزل (صوفيا لورين) عوضاً عن أن يتصل بمنزل (كوفي عنان) وتلقى شتائم وإهانات لا تحصى حيث أصيب بضيق تنفس كمداً وسقط من كرسيه وأنكسر ثلاثة من أضلاعه نقل على إثره إلى غرفة العناية المركزة ولا يزال راقداً هناك! وقد عقدوا إجتماعات فردية وثنائية وثلاثية ورباعية على الأصعدة كافة ولازال هناك إجتماع رباعي يواصل أعماله.
يفيد مراسل إحدى القنوات الفضائية أن أحد الأطراف المشاركة في الإجتماع العاجل والإستثنائي قام بإرتداء ربطة العنق دون إرتداء قميص وأرتدى الجاكيت فوق فانيلة صيفية من شدة الإستعجال في دخول القاعة!أما الآخر فكان يحمل في يده الإبريق النحاسي للتواليت حين دلوفه قاعة الإجتماع!
أما الآخر فقد إرتدى ربطة العنق فوق منامته ووصل إلى قاعة الإجتماع وهو يرتدي المنامة وروب النوم!
والآن ماذا أقول رداً على كل هذه الضجة! لقد حاول كوفي عنان منذ الليلة البارحة عشرات المرات للإتصال بصحيفتنا، غير أنه وبسبب هذه السحابة التي تقبع فوق مقر صحيفتنا لم يستطع الإتصال بنا، وقد أرسل أحد مبعوثيه الذي خرج بدوره مستعجلاً من منزله مما حدا به إلى نسيان هويته الشخصية وقد أعتقل في إحدى الدول المجاورة بتهمة إجتياز الحدود! أرأيتم كيف أقمتم الدنيا بإرتكابكم هذا الخطأ المطبعي! لقد تم تخصيص كافة النشرات الإخبارية الرئيسة للقنوات الفضائية منذ الصباح لهذا النبأ وتم إهمال كافة الأحداث في العالم ومن ضمنها القضية الفلسطينية.
ـ حسناً السيد رئيس التحرير من منا هو المسؤول عن هذا الخطأ المطبعي؟
وقف عامل قسم الإنصات وأردف قائلاً:
ـ أعتقد إنني المسؤول بالدرجة الأولى! لأنني حين أنصتُّ إلى الخبر وقمت بتدوينه كان خبراً مفرحاً جداً وكنت قمت بتدوينه برغبة وإمعان حيث سرت قشعريرة فرح في كياني ونزلت الدموع من ناظري وقد قمت بكتابة إسم (كوردستان) عوضاً عن إسم تلك البلاد!
وقف مسؤول إختيار الأنباء العاجلة الهامة للصفحة الأولى ليردف قائلاً:
ـ بدوري حين قرأت خبر قسم الإنصات سرت قشعريرة في جسدي وشعرت بتدمع عيني! وأدركت أن الإسم بين القوسين بلد آخر وليس كوردستان، لكنني لا أعرف حتى الآن لماذا لم أعمد إلى تصحيح الخطأ!
بدوره قام عامل الحاسوب وأردف قائلاً:
ـ زملائي الأعزاء ماذا أخفي عنكم! حين وصلت إلى إسم (كوردستان) بين القوسين أرتجفت أناملي، وسرت قشعريرة لذيذة في جسدي لم أشعر بهذه الحالة من قبل أبداً! ومع إنني أدركت أن الكلمة خطأ لكنني طبعتها كما هي!
ومن ثم قام مسؤول الصحفة الأولى وأردف قائلاً:
ـ لقد كتبت على الخبر أن يوضع في مستطيل وينشر في الزاوية اليسرى العليا من الصحيفة! ثقوا لقد أعدت قراءته لمرات عديدة، وفي كل مرة كانت تواجهني قشعريرة وبسمة على الشفاه ودموع العين! لكنني حتى هذا الصباح حين طالعتُ الصحيفة لم أدرك أن الخبر ليس حقيقياً بل خطأ بعينه!
قال رئيس التحرير: في الحقيقة زملائي، إن هذا الخطأ هو حلمنا جميعاً! فقد أعدت بدوري قراءة الصفحة الأولى بتمحيص ودقة قبل دفعها إلى المطبعة، ومع علمي إن ما مكتوب بين القوسين لا يجوز أن يكون كوردستان، فقد وقعت عليها وتم الأمر. إذن فإن جميعنا مشتركون في الخطأ المطبعي الذي نرغب أن يتحقق في المستقبل القريب.
***
وفي اليوم التالي حين كان الناس مستمرون في أفراحهم ورقصاتهم دون كلل وملل، كانت الصفحة الأولى من صحيفة (المستقبل القريب) مخصصة بالكامل لتصحيح الخطأ المطبعي لليوم الفائت. غير أنه وعوضاً عن تصحيح الخطأ وعوضاً عن أن يُكتب (بمشاركة كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة تحتفل اليوم (تيمور الشرقية) بعيد الإستقلال) غير أن أحداً لا يدرك كيف وقع خطأ مطبعي لدى نشر الخبر مرة أخرى على غرار الأمس، ولكن ببنط أعرض حيث كُتب:
(بمشاركة كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة يحتفل (كوردستان) اليوم بعيد الإستقلال).

نشرت القصة في مجلة كاروان ـ القافلة العدد 165 عام 2002.
عن المجموعة القصصية (خطأ مطبعي) : مقداد شاسواري، الطبعة الأولى، هولير، 2009.

قصة: مقداد شاسواري ترجمة: مكرم رشيد الطالباني

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى