الثلاثاء ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٢٣
بقلم جـودت عيـد

خِيانَةُ النَّصِّ وَالوَلاءُ لَهُ!

خِيانَةُ النَّصِّ وَالوَلاءُ لَهُ! ترجمةُ أدب الأطفال والبُعد الثّقافيّ

شاءت الظّروف، خلال مشروعي الكتابيّ الأزليّ، أن أدخل عالم التّرجمة، لم أعلم حينها بأنّني على أبواب عالم مثير ومحفّز للتّحدّي الدّائم. قبل عقد ونيّف، أثناء عملي في إحدى المؤسّسات في مركز البلاد، وجدت أنّ العديد من المنشورات العربيّة المترجمة للمؤسّسة لسيت سليمة لغة ومضمونًا، وتستهتر بالقارئ ولا تحترم ثقافته، حسب رأيي، لرداءة التّعبير وعدم المهنيّة في التّرجمة من العبريّة الى العربيّة، ووجدت نفسي أمام مشروع ضخم، لم يكن بالحسبان ضمن عملي أساسًا، لأقوم بترجمة وتحرير المواد من جديد اعتمادا على تجربتي في الكتابة الأدبيّة والمهنيّة العلميّة، واستنادا الى تأهيلي المهنيّ في علم النّفس والعلوم الاجتماعيّة والتّربية. لم أدرك حينها أنّني سأواجه تحدّيات كبيرة على مستوى تقنيّات التّرجمة والتّحرير وملاءمة النّص لقارئ لم يُكتب له أصلًا وليس بالضّرورة يحاكي ثقافته، فقمت بترجمة جديدة باعتماد النصّ الأصليّ، وإتاحة النّص الجديد قدر الإمكان للقارئ، الأمر الذي اضطرّني، تغيير كلمات واقحام مصطلحات، وتغيير أسماء شخصيّات، حتّى خيانة النّصّ من أجل الولاء للمعنى والمضمون في النّصّ الأصليّ لخدمة الفكرة الأساس، فلا يمكن تفسير بعض الصّياغات من لغات أخرى الى لغتنا، ولا يمكن أن تبقى بعض الكلمات والجمل كما هي، انما تحتّم ملاءمتها مع السّياق اللغويّ، والثّقافيّ التّربويّ، كي يصل المعنى الأكثر دقّة لما قصده الكاتب أصلًا. عند ترجمة أدب الأطفال، تحديدًا، إضافة على تلك الحواريّة الفكريّة المتخبّطة المستديمة، تقع على المترجِم مسؤوليّة الالتزام بمقاييس أدب الأطفال، وتقريب الحالة الأدبيّة في النّص الى الطّفل في مجتمعنا، مع الحفاظ على مقوّمات ثقافة المجتمع الآخر التي يطرحها النّص الأصليّ، من منطلق أهميّة التّثاقف والانكشاف على الثّقافات. ليس سرّا أنّ النّص المترجَم يحمل مفاهيم وملامح بيئة أُخرى، لكن مضمون الفكر المطروح هو إنسانيّ عام ويمكنه أن يعود بفائدة على مسيرة التّنشئة الاجتماعيّة للطّفل خاصّة. مثلا، كتاب "ربّما غدًا" تأليف شارلوت أغيل "Maybe Tomorrow"، الذي قمت بترجمته ضمن مشروع مكتبة الفانوس، يطرح بشكل جذّاب ولافت موضوع ضائقة الطّفل النّفسيّة في التّعامل مع الفقدان والوحدة والعبء الذي يحمله الطّفل، أو، مثلا، كتاب "البحر رأى" تأليف طوم برسفال "The Sea Saw"، أيضا ضمن مكتبة الفانوس، والذي يعرض حكاية لافتة للدائريّة الكونيّة وطرق التّعامل مع الفقدان ومع القناعات التي تعرضها الحياة، في كلا الكتابين كان النّص مركّبًا جدّا مضمونًا، ولغة، وعمقًا نفسيًّا وتطلّب توظيف مهارات على مستوى الّلغة وأدب الأطفال وعلم النّفس والتّربية، لنقل الفكرة واتاحتها للطّفل في مجتمعنا على الوجه الأفضل. أمّا الرّسومات المتقنة والجذّابة جدّا في تلك الكتب، فتبرز معالم ثقافة تختلف عن بيئتنا وثقافتنا المحليّة، مما يعرّض تلك الكتب للنّقد. مع ذلك، فإن المضمون والنّص المترجم، بعد التّحرير المكثّف والملاءمة الثّقافيّة، يتماهى مع بعد إنساني عامّ في التّعامل مع قضايا نفسيّة ليست سهلة التي قد يتعرّض لها كلّ طفل في كلّ مكان وبيئة وثقافة. لذلك، حسب رأيي، الكتاب يوفّر ذلك الانكشاف على الثقافات، وفي ذات الوقت يقرأ الطّفل نصًّا يفهمه ولا يشعر بالاغتراب من خلاله، وعليه، حسب رأيي، فإن تقنيّات التّرجمة النّاجعة تعتمد أيضا على تجربة وثقافة المترجِم، وقدرته على أن يكتب بنفسه للأطفال، والتزامه بمقوّمات أدب الأطفال الفنّية واللغويّة، وادراكه لمدارات النّفس عند الطّفل القارئ، بالإضافة الى مهاراته في الملاءمة الثّقافيّة والمجتمعيّة وفهمه لمحاور زمكانيّة النّص، وأبعادها وتداعياتها الحضاريّة.

عملت في التّرجمة مع كثيرين، منهم أدباء، وشركات خاصّة، ودور نشر، ومؤسّسات ثقافيّة وتربويّة، وأكاديميّة، واجتماعيّة، وطبيّة، هذه التّجربة العريضة والمتنوّعة، صقلت وبلورت لديّ الآليّات والمهارات المطلوبة للتّعامل مع النّص على مستوى أدبيّ، ونفسيّ، ومجتمعيّ. ترجمة أدب الأطفال بالذّات، وفّرت لي تجربة متميّزة ليس فقط كمترجِم انّما ككاتب، وتميُّز التّجربة يعود الى الأثر الكبير الذي يتركه العمل الأدبيّ في وجداني وتداعياته على قلمي وعلى أساليب الكتابة التي اعتمدها اليوم، ليمنحني مساحة للارتقاء بالتّوجّه والتّعامل مع مضامين وموضوعات أدب الأطفال الذي نكتبه في البلاد. خصوصيّة الحالة وتجربتي مع مكتبة الفانوس بالذّات، رغم بعض الاستفهامات المعلّقة، أسهمت في تطوير أساليب وتقنيّات التّرجمة والتّحرير لديّ، وكذلك تطوير الجرأة في التّعامل مع العمق النّفسيّ والموضوعات المركّبة. في كلّ تجربة كان جانبًا مثيرًا لحالة أدبيّة، وحضاريّة ثقافيّة، وشخصيّة انعكست من خلال رسومات لافتة وإنتاج متقن ومضمون جذّاب، الى جانب عمق فكريّ الذي يحدّد الموضوعات وطريقة طرحها بشكل مبسّط للطّفل، كي يعطيه مهارات تعامل مع مواقف صعبة وحرجة قد يصادفها في حياته. تلك الآليّات والتّقنيات تزوّد القارئ، الطّفل خاصّة، بنصّ مشوّق وفق معايير أدب الأطفال التي تعتمد مضمونًا يتماهى مع عالمه، ويبتعد عن التّعقيد وعن العظة، ويستند على مقاييس الطّرح السّلس لمحاكاة مشاكلَ يتعرّض لها الطّفل، فتوفّر له طرائقَ للتّعامل مع المحيط وتحثّه لتوسيع مداركه، وفكره وخياله وفق مرحلة نموّه، وتمنحه الدّعم المعنويّ والتّمكين الّلازم من منطلق احترام شخصه وذكائه ونفسيّته.

في ترجمة وتحرير كتب الأطفال، يحاور المترجِم النّص الأصليّ يحلّله ويفسره، ويعمل على أن يتماهى النّص الذي أعدّه مع الكلمة الأصليّة، ويكتشف مواطن الجدل بين ثقافته وثقافة المضمون التي يطرحها النّص، فيعيش الكاتب المترجِم تجربة كتابيّة جديدة حتّى درجات الانخطاف، أحيانا، وحالة نفسيّة ثنائيّة القطب ما بين الكآبة الكبيرة والفرح الكبير، لترهقه حتّى ينسجم معها في محاولة فهم دوافع النصّ الأصليّ، وبالتّالي اختيار الكلمات والصّياغات بشكل مدروس وحذِر وذكيّ. هذا الأمر يشكّل مساحة للتّحدي في سيرورة غير سهلة من التّخبط، فوق عدد من مسوّدات التّحرير، حتّى الوصول الى القناعة الكاملة أنّ النّص المترجَم يحكي ما يحكيه النّص الأصليّ، ويحترم القارئ ونفسيّته وثقافته. بالرّغم من الانتقاد الذي نسمعه أحيانا تجاه الكتب المترجمة وتداعياتها، والذي يبتعد بعضه عن الموضوعيّة البنّاءة، حسب رأيي، ما يهمّ في نهاية المطاف هو الفائدة، من تلك الكتب، التي تعود على الطّفل والأهل عبر الانكشاف على أدب نوعيّ، وثقافة جديدة، ومتعة، الى جانب اكتساب مهارات لغويّة وكلمات جديدة وآليّات مواجهة موضوعات حسّاسة. تجربة لافتة أُخرى، خضتها في ترجمة كتب كوبي يمادا من الإنجليزية، لدار النشر تسلتنر، مثلا، "ماذا يمكن أن تفعل بفكرة؟" وغيرها، جميعها تشدّد على تمكين الطّفل، ودعمه إذا تعرّض لفشل أو لإحباط، بأسلوب يبتعد فيه الكاتب عن المبنى والشّكل النّمطي للنّص ولطريقة الرّسم وللطّرح، فيخرج عن قوالب السّرد القصصيّ والسّيرورة الرّتيبة لموضوعات مستهلكة مثل قصص البخيل والكريم والشّجاع والمهذّب والسّارق والمواظب في دروسه، وقصص تعتمد العظة والعقاب والتّخويف التّربويّ والدينيّ، وما الى ذلك من موضوعات تجترّ القيَم، ومن أسلوب لا يوفّر مساحة فكريّة ممتعة حرّة للطّفل ولا يحترم ذكاءه وخياله، وبالتّالي لا يذوّت مضامينها، فلا تجذبه الكتب ولا المطالعة بسبب تجربته غير الإيجابيّة.

من جهة، أستطيع أن أتفهّم تحفظ بعض الكتّاب من بعض الكتب المترجمة، لكن، من جهة أُخرى، أرى بأنّه علينا التّعلّم ممّا وصله أدب الأطفال في الغرب، على صعيد المضمون بطرح الموضوعات بجرأة وعرض آليّات فكريّة ونفسيّة بعمق، واستعمال رسومات لافتة. يمكننا اكتساب التّجربة عبر الانكشاف على هذا الأدب، دون مواقف الرّفض، فتلك المعرفة والخبرة، في نهاية الأمر، تصبّ في مصلحة أطفالنا ومجتمعنا بالذّات بما يخصّ الأدب العلاجيّ الذي يطرح طرائق للتّعامل مع قضايا صعبة، وإتاحة الآليات من خلال قالب يناسب القارئ. مسؤوليّتنا كوكلاء تنشئة ومربّين ومثقّفين وأدباء أن نكون نبراسًا للتّغيير المجتمعيّ الثّقافي، وأن نتعامل بصبر مع ثقافة الاحباط التي يمارسها مجتمعنا، وحالة النّفاق المزمنة التي تعتمد مفاهيم شخصيّة وفئويّة غير مهنيّة وغير موضوعيّة في التّعاطي مع الثّقافة والأدب، وتعمل على قهر وإقصاء الرّوح المبدعة. لذلك، فإنّ قناعة المثقّف المبدع هي رسالته واصراره وايمانه بمشروعه الأدبيّ وارتقائه من خلال جهده الشّخصيّ وعمله الدّؤوب، دون الّلجوء الى ديباجات مصطنعة على منصّات التّصفيق "الشلليّ" والمحسوبيّة. حضور الكاتب والشاعر هو حضور أدبه في ذهنيّة المجتمع، والأدب الجيّد للأطفال بكلّ مفاهيمه الفنيّة، إن كان نصًّا أصليًّا أم مترجمًا، يبقى في وجدان القارئ، الطّفل خاصّة، ويكون له الأثر الكبير على ثقافته وتحرّره الفكريّ، ويسهم في نهضة الفكر والمجتمع عامّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى