الثلاثاء ٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
سرديات المراوغة والمحاورة
بقلم السعيد الورقي

دراسة في غرفة ضيقة بلا جدران

على ظهر غلاف المجموعة القصصية التي صدرت مؤخرا للكاتب والقاص "السيد نجم" بعنوان "غرفة ضيقة بلا جدران" 2006م. نقرأ إن "فن القصص من الفنون المراوغة الجميلة" و"أن كتابة القصة عند السيد نجم مغامرة متجددة، مراوغة وجميلة". والمقولتان صادقتان إذا نظرنا إليهما من وجهة نظر الفن عامة، وفى ضوء رصيد الأدب القصصي الهائل والمتوافر بين أيدينا ثم أيضا إذا نظرنا إليهما –إلى المقولتين- في ضوء قراءة ما قدمه الكاتب من نصوص قصصية في مجموعته هذه الأخيرة "غرفة ضيقة بلا جدران".

فالنقاد والفنانون في مختلف العصور والفلسفات يجمعون على أن الفن تمرد دائم وثورة مستمرة على كل ما ثابت، وانه لا قيمة لكل ما يأتي متمثلا لما كان وإنما القيمة الحقيقية فيما يضيفه المغاير، والمغايرة قائمة على الرفض والتمرد والثورية، فالحياة نفسها لا تتحرك بمنطق التماثل وإنما بمنطق المغايرة.

وقد استطاع الفن القصصي، خاصة في شكله القصير القائم على التركيز والتكثيف أن يؤكد أنه أكثر الفنون قدرة على المغايرة والتمرد حيث مكنته رحابة قوانينه وقوالبه الفنية من هذا بشكل واضح، فالمسافة الزمنية بين قصص تصوير الواقع الانسانى وسرد حكاياته وبين القصة بتقنياتها المراوغة ليست بالطويلة إذا قيست بفن آخر مثل الشعر أوالمسرح، ومع هذا فالمسافة الفنية هنا كبيرة ومتلاحقة، بما يجعل من فن القصة القصيرة بحق فن مراوغ.

بشكل عام يهتم "السيد نجم" في مضامين سرده بالإنسان، مركزا على مواقفه البطولية حتى في لحظات ضعفه وانكساره، فالإنسان الإنسان في إيمان الكاتب خلق لكي يكون بطلا منتصرا حتى على ضعفه، ومن ثم يجب أن يكون نضالا من أجل البطولة. فهي من ثم رؤية متفائلة تدخل الواقعي في المثالي في مضامين تتجاوز حدود الحدث الواقعي بتشوفات دلالية نراها في المراوغة الشاعرية في "غرفة ضيقة بلا جدران". إن في مراوغة الحدث الفنتازى في قصة "البهيمة" وقصة "حكاية" وفى مراوغة القذف بالحدث في أبنية أسطورية وشعبية كما في قصة "سؤال".

ففي قصة "غرفة ضيقة بلا جدران" تقدم الأحداث المباشرة الإنسان مريضا يعانى من مشاكل في معدته ويعانى آلام المرض ويداخل بينها وبين معاناته هوورفقائه أيام الحرب مع إسرائيل. لكن هل هذا هوما يريده الكاتب من حكايته؟ إن ما يريده أبعد من هذا، لأنه يقدم الإنسان في حركة الحياة وفى لحظاته الاجتماعية، ليكشف عن إصراره النازع إلى تحقيق مفهوم بطولة الإنسان المنتصر.

وهوما تؤكده قصص المجموعة حيث اتخذ الكاتب في بعضها من الأحداث الغرائبية إطارا مراوغا لمضمونه أحيانا، واستخدم الميثولوجيا الشعبية إطارا في بعض الأحايين.

وأعتقد أنها حيل مراوغة من الكاتب للاتكاء على صيغ الحكى التراثية في بني سردية جديدة.

قدم "السيد نجم" في مجموعته الأخيرة تلك "غرفة ضيقة بلا جدران"، وفى إطار التجريب والتجديد ثلاثة أشكال للقصة القصيرة، القصة القصيرة الطويلة، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا.

في القصة القصيرة الطويلة اعتمد الكاتب على المفهوم الفني للقصة القصيرة الذي يرى في القصة القصيرة لحظات عابرة أوموقفا منفصلا من مواقف الحياة. إلا أنه قدمه من خلال ثمانية مواقف منفصلة ومتصلة، وأعنى بهذا تجربته في القصة الأولى التي حملت اسم المجموعة، والقصة تتكون من ثماني قصص، لا قصة منها يمكن أن تكون قصة قصيرة منفصلة ومستقلة، وهى في مجموعها قصة قصيرة من حيث كونها مشاهد ترتكز في عمومها على تنويعات من الاستبطان الداخلي الذي أحاله الكاتب إلى مشاهد المونتاج والكولاج وتقنية القص داخل القص ليقدم هذا الشكل الجديد الذي يجمع بين مجموعة من القصص القصيرة داخل بنية سردية متكاملة هي في النهاية قصة قصيرة بالمفهوم الفني للقصة القصيرة الذي قدمه في القسم الثاني من المجموعة تحت عنوان "قصص أخرى" والتي ضمت ثماني قصص مستقلة تماما كل واحدة عن الأخرى، وان جمعها كونها أغنية حب للإنسان البطل من خلال صور حياته وعلاقاته وصراعاته حيث تقوم الحرب كأكبر شاهد على هذا الصراع بدور رئيسي في مفردات الأحداث وذكريات الاستبطان.

أما القسم الثالث، فيضم مجموعة من القصص القصيرة جدا، أي الأقصر طولا والصغر حجما من قصص القسم الأول والثاني. تحمل عنوانا مراوغا هي الأخرى حيث أسماها الكاتب "قصصا قصيرة بلا عنوان"، بينما لكل قصة من القصص الخمسة عشرة التي ضمها هذا القسم عنوان أقرب إلى التجريد إيحاء بالمضامين الفكرية والإشارات الرمزية التي تحملها قصص هذا القسم.

والى جانب ما في نصوص المجموعة من مراوغة تبدت في العلاقة بين العنوان والقصة وفى تشكيل بنية السرد، وفى العلاقة بين المستويات الدلالية للنص، نجد الكاتب في إطار مغامرة التجريب الباحث عما هوجديد ومغاير وخارج عن المألوف يعتمد في سرده لأشكاله القصصية على ما يمكن أن أسميه سرد المحاورة.

يقوم سرد المحاورة في قصص السيد نجم على نسج البناء القصصي من خلال محاورة البطل العليم مع سامعيه وقرائه بالحكى والمناقشة والجدل أحيانا محاولا بهذا لأن يقترب بشدة محببة إلى وجدان المستمع، ليس فقط طلبا للإصغاء السلبي وإنما أيضا طلبا للمناقشة والأخذ والرد كما في الحوارات اليومية.

بطبيعة الحال تستلزم هذه المحاورات وجود مشكلة أوقضية أوحتى موضوع يتحاور فيه الحاكي مع القارئ المستمع وهوما نلمحه في المقطع التالي من القصة الخامسة "معذرة يا سيد الألم" في قصة "غرفة ضيقة بلا جدران"، وهومشهد على سبيل التمثيل، حيث تشكل تقنية سرد المحاورات خاصية سردية أساسية في بنية النص عند الكاتب.

مثلما أمضى بوذا سبعة أيام عاريا مع جلسته القرفصاء
تحت شجرة التوت، وصبر حتى تلاشت الأعاصير و
الأمطار وصفا الجو، فعرف سر الألم واللذة. انقضت
الأيام السبعة الأولى في المستشفى. بدت له وكأن زمن
الرحلة معهما استنفرت تلافيف رأسه بكل ما قرأ وسمع
وعاش.
لم يختف الألم. نعم. لكنه أقل وطأة. بدأ الألم شديدا. شعر
وكأن بطنه جوفاء، ثم أصبح أقل وطأة فبدا ألما باردا لشعوره
برغبته في الدفء، ثم هان قليلا مع والوخز بالمسكنات و
المحاليل فأصبح ألما تشنجيا، وصولا بمغص، ومازال على
حال الألم الثقيل.. يأمل لويهون..الخ" ص32و33

قدم الكاتب سرد المحاورة في أعماله من خلال مجموعة من الخصائص السردية، أهمها الشخصية المهيمنة العالمة، تعدد الضمائر وتداخلها، والاعتماد على لغة التواصل ذات إحساس انسانى شديد الرهافة.

فالشخصية ذات الحضور الرئيسي في الخطاب السردي عند "السيد نجم" تقترب في تكوينها وحضورها من أن تكون وعيا عاما رائيا يلاحظ ويسجل راصدا الواقع الانسانى العام خارجيا وداخليا. يحرك العلاقات الاجتماعية والإنسانية في أفعالها وردود أفعالها وفى منطقها الخارجي والداخلي. انه يلتقط خيوط الحكى ويعيد نسجها في نظامه الخاص على نحويكشف عن الخاص في خصوصيته والعام في عموميته أوشموله:

حينذاك كان كل شيء ضيقا خانقا. وإلا ما كانت تلك النظرة
أوالإيماءة التي لا تكون إلا من حصان علقت في حلقه شوكة
من تبن الأرز، فيدير رأسه يمينا ويسارا.
شعر بضيق حيز المدرجات على سعتها، أقل من حاجة عدد
المشاهدين، فانتشرت الأجساد فوق الدرج وحول الحلبة. في
العتمة بدت الحلبة بقعة نور، من حولها لم تستجب الأجساد
المتزاحمة لتحذيرات حراس المروض الأشهر...الخ

إن اللغة التي يستخدمها هذا الوعي العام المهيمن، وكما هوملاحظ لغة تواصلية، تخلق جوا من الألفة تجعل القارئ في تواصل دافئ بينه وبين محاوره من ناحية، وبينه وبين الواقع المعاش من ناحية أخرى، وبين القارئ وبين نفسه من ناحية ثالثة:

لن تخطئه لورأيته للمرة الثانية. يكفى أن تراه للمرة الأولى.. يسير
الهرولة بخطواته القصيرة العرجاء، على قصر قامته ونحافته، منتفخ
الصدر، متسع العينين، دهشا، وإلا لماذا تلك الانفراجة بين شفتيه.
لولم تتح لك فرصة رؤيته في الشارع بسبب الازدحام، حتما لن تنساه
لوقابلته عند أحد جيران الحي، يردد البسملة والدعاء لك بالصحة و
العافية وطول العمر.. الخ

المشهد من قصة (الحالم حلما لا يعرف تفسيره)

مع أن الكاتب يلجأ كثيرا إلى الاعتماد على المراوغة بتعدد الضمائر وتداخلها، إلا لأنه تمكن من إقامة بناءه السردي من خلال سيطرة كاملة للوعي السارد الذي يهيمن على هذه التعددية وينظمها كالتالي:


الحرب البستنى صفات لم أكن أعلم معناها.. تردد المذيعة ذات
الصوت الرائق (وهذه الأغنية مهداة إلى أبطالنا الشجعان على
الجبهة). ولأنني ضمن أفراد جبهة فهي تخاطبني حتما.. أنها
الشجاعة إذن. يأمرنا الضابط الشاب العفي بأن نهيل الرمال
نسد بها عين الشمس، أعنى تلك الحفر المنتشرة في صحراء
الوحدة...الخ

هذا المشهد من قصة (في الحرب والعتمة نسمع ونرى.)

وهكذا استطاع السيد نجم من خلال نصوصه السردية التي سيطر علها التجريب بالاتكاء على المراوغة والمحاورة أن يؤكد أن كتابة القصة مغامرة متجددة.. مراوغة وجميلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى