الخميس ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم عمر حمَّش

دربُ الجنون

من فوهةٍ معلقةٍ في السماءِ هوى، تقلب مذهولا إلى أن اصطدم بالقاع البعيد، لم يصرخ؛ بل تحسس جانبيه، ثمَّ نهض، فصدَّه بابٌ انقفل، هاجمه، ولمّا انفتح، غرق في ضبابٍ غليظ!

خطا؛ فردَّه بابٌ جديد، وفي نهر الضباب تقاذفته الأبوابُ، فإذا هو في بهوِ يغصُّ بالجثث، فوقف يفغرُ فاه، ويقولَ:
  هنا عزرائيل هجم؛ أطفأ الوجوه، وبالكركم رشَّها، ثمَّ مضى!

وخارت بقاياه، فسقط؛ لكنّ بصره ظلَّ يجول، فالتقط ممرضةٌ بين الأجسادِ تحوم، حتى شارفت قامته الممددة، فأشهرت حدقتين في خيطٍ تدخله في ميسم إبرةٍ هائلة، ولمَّا في صدرِه ضربتها؛ ارتجف، فأجلسته بين راحتيها؛ تخيطُهُ كخرقة بالية!

لكن على غِفلةٍ هبَّت الجثث، تحملُ بقايا سيوف، وممرضته أرخت صدرَه، لتضع في فمِها طرفَ فستانها، وتغادره راكضة، فداسته الأقدام، وصلصلت السيوفُ ثعابين راقصة، وأخذ الرجال يذبحون رقابَ الرجال، وفي الالتحامِ كان الهتافُ يتلوه الهتاف، والشرايين تنفضُ الدماءَ شاخبة، ورأى الخلقَ يجرون زاعقين، ثم يهوون حولَه خرافا خامدةُ!

فقام يجري؛ فتراقصت رجلاهُ، حتى صدمته مرآة، رأى فيها شبيهه شهق، فأشاح بوجهه، ثم بصق، فهاله أنَّ الذي في المرآة يفعلُ ما فعل، فصاح:

 يا ربي!

فعاودته الممرضة تسوقه إلى سوح النزال، فانفلت إلى ركنٍ، وعلى بطنِه مكث، يرقبُ قطعَ الرؤوس وتطاير الرُكب، ولمّا قلبه صاح:

 كفى!

هاله أنه رأى وجوه يهود بين المتقاتلين، تأتي، وتروح، وضابطا منهم يصفرُ ليضبط للموتى بصفارته المعركة!

******

نام ولم يدرِ كم نام، لكنّه في ظهيرةٍ من كانون صحا،

فكان الموتُ يصفرُ في السماء كريحٍ جموح، ثمَّ

يزغردُ والجموع ذاهلة!

وفجأة بيتُه انفجر؛ فطيَّره الركامِ، ولمَّا سقط جاءه صوتُ ابنه، توزعه أطرافَِه الموزعة:

أبي!-

فردّ عليه بصيحةٍ لاهثة، فتلوّت صيحته قبالته قتيلةً باردة!

قال: - من يحيا الآن في تلالِ الغبار،ِ ومن يموت؟

وتنططت على الترابِ رؤوس، فيها بقايا من مآق مسكونة بحيرة غامضة، وتقطعت دنياه كبرقٍ بعيد، ثم انغلقت كالمقصلة، وقربه ارتمت ساق، ورأى صاحبها يقوم، فيه شيءٌ من ذراع، والأخرى بلا وجود، سمعه يقول:

 ماذا أخي جرى؟

سقط الرجلُ، ثم عاد جأر:

 ماذا أخي؟

ثمَّ في التراب رأسه انغرس!

أما هو فوقف في اهتزاز الأرض وانهيارات السماء، يفتحُ كفيه، ويقول:

لا شمس في كانون

والنورُ يخنقه الجنون

قصفٌ يهيجُ

كزلزلةِ الرعود

على أعتاب مخيمنا تصومُ اللّغةُ

وينتحرُ الكلام

والحروف على الشفاه

ناشفةً تموت

في ليلنا ماذا يقال؟

ماذا تخيَّرت اليهود

كم َيذبحُون الآن؟

قُربانَ عهدِهمُ القديم

وشلومو فوقنا

يطيرُ مع الجنون

وطفلنا يرفُّ بلا جناح

ثمّ يُسكته الركام

وبعضٌ من يمام

مصعوقةً تنقرُ الردمَ

وتمارسُ التحديق

لا تغادرُ ولا تنام

في السوادِ نائحةًِ تحوم

ثمَّ تذوي في المكان!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى