الأحد ١٣ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

دعاء للحياة

الحياة رحلة قصيرة، يسافر بنا قطار الزمن من محطة المهد، وينتقل بنا إلى محطة الطفولة البريئة الجميلة، نتأمل فيها العالم والكـون، فنراه حديقة غناء.. كل شيء فيها جميل ساحر.. حتى الأحلام، فإنها رائعة ومصدر للسعادة.. لكـن قطار الزمـان لا يلبث أن يحـرك عجلات سيره إلى الأمـام ليحط بنا في محطة الشباب، فتكبر الأحلام، وتتسع معها الهمم والطموحات، ويزداد الجسم نشاطا وحرية وحيوية وتتفتح براعم الحياة وتورق، ويمضي القطار إلى محطة الرجـولة والشعور بالذات، فيتحول النشاط إلى عمل وإبداع، وتصير الحيوية إلى طـاقة مـن الإنتاج والعطاء، وتثمر الحياة لتعطي أكلها وثمارها.. وتتحرك عجلات القطار إلى الأمام؛ ليحـط بنا في مرحلة الكهولة، فتبدأ علائم التعب واضمحلال الهمة والعزيمة بالظهور على جبهة الإنسان وحركاته وقدراته.. وتتثاقل عجلات القطار في الهبوط على محطة الشيخوخة وتنتهي الحـركة إلى جمود، ثم إلى مـوات.. ويضمـر الجسد وتضمحل الروح.. وتتساقط أوراق شجرة الحياة.. ثم تبدأ الجذور بالموات، ويصير الجـذع والأغصان إلى يبس، ثم إلى اهتراء وفناء..

الحياة رحـلة، لكنها مليئة بالرحـلات.. حبلى بالأحداث والمواقف والطرائف.. سكرى بالأسرار والأحلام والطموحات.. غرقى بالذنوب والأخطاء.. نشوى بالسعادة والفرح والبهجة والسرور.. هاوية في قيعان الشقاء والتعاسة والأحزان..

الحياة ضياء وظلام.. سعادة وشقاء..غنى وفقر.. تفاؤل ويأس.. نجاح وفشل.. قوة وضعف.. حاكم ومحكوم.. ظالم ومظلوم.. وقد تكون بين بين.. فالحياة مسرح للتناقضات، لكن هذه الأوصاف ليست للحياة؛ لأن الحياة جميلة بأناسها، قبيحة بهم.. الحياة رائعة بروعة من يحبونها ويسعون إلى تجميلها، والحياة منفرة وتعيسة بنظـرة البشر إليها.. لقد أنصف الإمام الشافعي الحياة وخلصها من جور البشر، حين قال :

نعيب زماننــا والعيب فينا
وما لزماننـــا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب
ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضا عيانا

وهذا شاعرنا إيليا أبو ماضي يدعو أناسه للتفاؤل والجمال؛ لتكون الحياة جميلة، فنحن من يجملها.. ونحن من يقبح وجهها، ويلبسها ثوب الحزن والتشاؤم، فيقول :

أيهـــذا الشـاكي ومـا بــــــــك داء
كيف تغـدو إذا غــــــــدوت عليلا ؟
إن شـر الجنـــاة في الأرض نفس
تتـــوقى ، قبل الرحيــــل ، الرحيلا
وترى الشوك في الـورود وتعمى
أن تــــــرى فوقهــــا النــدى إكليـلا
هو عبء علــى الحيـــاة ثقيـــــل
من يظــــن الحيـــــاة عبئـا ثقيــــلا!
والــــــذي نفسه بغــــــير جمـال
لا يــــرى في الوجـــود شيئا جميلا
ليس أشقى ممن يرى العيش مرا
ويظـــــن اللذات فيـــــه فضــــولا
قــــل لقــــــوم يستنزفون المآقي
هـــل شفيتم مــــن البـــــكاء غليلا ؟
مــــا أتينـا إلى الحيـــــاة لنشقى
فأريحوا ، أهـــل العقول، العقــولا
أيهــــذا الشــــاكي ومـــا بك داء
كن جميلا ، تــــر الوجـــــود جميلا

وقال أبو الطيب المتنبي :

ومـــــن يك ذا فم مـــــر مريض
يجــــد مــــرا به المـــــاء الزلالا

فتعالوا أيها الناس لنبتسم للحياة.. حتى تبتسم لنا وتضحك.. تعالوا لنتفاءل بالحياة.. كي تتفاءل بنا وتسرح وتمرح.. تعالوا لنهمس إلى أذن الحياة كلمة خير ومحبة، حتى تجود علينا بحبها وخيراتها..

تعالوا لنغرس حقول الحياة بالخضرة والنضارة والجمال، ونحرق أشواك اليأس والعجز والخمول.. تعالوا لنوقد مصباح النور في ظلام الحياة.. حتى نزيل الظـلام من أعماق نفوسنا، فنسير في دروب الحق والاستقامة والرشاد..

تعالوا لنغني وننشد كالبلابل والطيور.. حتى نعيش في أمن وسلام.. تعالوا لنروي الحياة بماء المكرمات.. كي نثمل بالإنسانية العظيمة.. تعالوا لنعانق الحياة ونستنشق أنفاسها.. حتى تعانقنا وتعطر أنفاسنا برياحين النشوة الساحرة..

تعالوا لنفتح نوافذ الحياة على مصراعيها.. حتى نرى ضياء الحرية وننعم بأشعتها الدافئة.. ونستنشق نسيم الصباح ونسكر بهمساته عند المساء.. تعالوا لننشر محبتنا في ربيع الحياة.. وفي رباها وبطاحها وهضابها ووديانها.. في كل زاوية ملت من السكون.. لنغرسها بالحركة والنشاط..

تعالوا لنشم تربة الحياة.. لنتذكر أننا عائدون إليها كما ولدنا منها.. تعالوا لننهل من ينابيع الحياة.. حتى لا تظمأ نفوسنا وقت حـرها، وتقشعر حين قـرها.. تعالوا لنصغي إلى الحياة.. حتى يتكلم ضميرنا وينطق وجداننا بالحقيقة.. تعالوا لنكد ونجد.. حتى تجود علينا الحياة بثرواتها الكامنة في أعماق الوجود..


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى