الثلاثاء ٢٩ آذار (مارس) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

دِبَبُ السّلامِ وأعداءُ البشريّة عندَ ميخائيل نعيمة

مقدّمة:

لقد أبدعَ نعيمةُ في توظيفِ التُّراثِ من حكايةٍ وقصّة وبلاغةٍ وخيالٍ في صياغةِ أفكارِه وفلسفتِه؛ كي يصلَ إلى ذهنِ القارئِ الواعي، وقد أسرَ لبّه وشغفَ قلبَه، وأطلقَ العنانَ لخيالِه من جمودِ التّعابيرِ المبتذلةِ الّتي باتتْ سمةً لمعظمِ أقلامِ زمانِه، لا تكادُ تخرجُ من الحدودِ الضّيّقةِ الّتي تُمْلِيها عليْهم اللّغةُ المعجميّةُ والعباراتُ المألوفةُ الّتي تبعثُ على المللِ والنّفورِ من القراءةِ، لكنّ نعيمةَ يجذبُ القارئَ بأسلوبِه الرّصينِ البليغِ المفعمِ بالحركةِ والحياةِ واللّهفةِ والتّشويقِ، وكأنّه يُطبّقُ المثلَ القائلَ: (مفتاحُ الشّهيّةِ لقمةٌ)، فيجعلُ مفتاحَ النّهمِ إلى القراءةِ كلمةً، وتتناوبُكَ الكلماتُ، فلا تكادُ تُنهي القراءةَ حتّى يتجدّدَ النّهمُ إلى الاجترارِ مرّاتٍ ومرّاتٍ دون كللٍ أو مللٍ، وهذهِ من سماتِ عظماءِ الأدبِ!

حكايةُ الدّبِّ والفلّاح:

إنّ ما يميّزُ نعيمةَ عن غيرِه من أدباءِ عصرِه هو توظيفُ الحكايةِ في كلِّ مقالةٍ يريدُ أن يصبَّ فيها أفكارَه في ذهنِ المتلقّي، فيبدأُ بحكايةٍ مشوّقةٍ، وكأنّه يكتبُ للأطفالِ لا للكبارِ، ليجذبَ قرّاءَه إلى أفكارِه، ولا نجدُ أنفسَنا إلّا وقدْ وقعْنا في حدائقِ فكرِه تجذبُنا إليها جذبَ الأزهارِ برحيقِها لعاملاتِ أجملِ مملكةٍ في الأرضِ أبدعتْها قدرةُ الخالقِ، وهُنا ينطلقُ بك الخيالُ، وتسمُو بكَ الأفكارُ إلى ذُرا العبقريّةِ، وتنفتحُ أمامكَ أبوابُ التّأمُّلِ والتّفكيرِ، وتثورُ بكَ مواخرُ الفكرِ في عُرضِ بحرِ المعَاني والصُّورِ، ويَجولُ بك التّحليلُ إكسيراً يحلّلُ الشّوائبَ، ويُبْقي على الإبريزِ في كلِّ ما يدورُ حولكَ من تفاعلاتِ وتناقضاتِ الحياةِ، فيجعلُكَ طائراً يلتقطُ حبوبَ السّنابلِ قربَ السّواقي.

وها أنا أقدّمُ الدّليلَ ولا أبخلُ بالحجَّةِ على عبقريّةِ هذا الأديبِ والمفكّرِ العظيمِ الّذي يوظّفُ الحكايةَ؛ ليصلَ إلى أعظمِ الأفكارِ في عالمٍ متصارعٍ، إذ يَروي لنا حكايةً من الحكاياتِ الّتي سمعَها في صغرِه، وما زالتْ ذكْراها في أعماقِ ذاتِه، هي حكايةُ فلاحٍ توثّقتْ عُرى المودّةِ بينَه وبينَ دبٍّ في جوارِه. فكان كلاهُما يحرصُ على سلامةِ صاحبِه وراحتِه حرصَه على سلامتِه الخاصّةِ وراحتِه: "ذاتَ يومٍ من أيّام الصّيف أقبل الدّبُّ على الفلّاحِ عندَ الظَّهيرةِ، فوجدَه مستَسلماً لنومٍ هنيءٍ في ظلِّ شجرةٍ كبيرةٍ، فربضَ بجانبِه لا يُبْدي حِراكاً مخافةَ أن يُفسِدَ عليهِ صفاءَ قيلولتِه. وإذا بذبابةٍ تحطُّ على أنفِ الفلّاحِ فيروحُ يتملْملُ في نومِه محاولاً طردَها فلا تنطردُ، بل تَمْضي تنتقلُ بمنتَهى الوقاحةِ من أنفِ الرّجلِ إلى أذنِه، ومن أذنِه إلى ذقِنه فشاربيهِ وشفتيهِ. فما كان من الدّبِّ الغيورِ على راحةِ صاحبِه إلّا أن تناولَ صخرةً كبيرةً بيديهِ وقذفَ بها الذُّبابةَ المزعجةَ. فما نالَها بسوءٍ، وسحقَ رأسَ صاحبِه".

كبارُ العالمِ وحرصُهم على البشريّة:

بدأَ نعيمةُ بروايةِ قصّةِ الدّبِّ والفلّاحِ، ليشوِّقَ القارئَ ويجتذبَه، وبعدَها يبدأُ بتوظيفِ الحكايةِ في موضوعٍ فكريٍّ عظيمٍ يضعُ البشريّةَ في مهبِّ الرّيحِ، حينَما نَرى حرصَ قادةِ العالمِ على سلامةِ وصحّةِ وأمنِ البشريّةِ في أقوالِهم وادّعاءاتِهم في القضاءِ على تلكَ الذُّبابةِ الّتي تقضُّ مضاجعَ البشريّةِ ألَا إنّها ذبابةُ الحربِ، فتسلمُ الحربُ وتفنَى البشريّةُ، ولعلَّ هذهِ القصّةَ تقذفُ إلى ذهنِي قصصَ المحامينَ الّذين يُنهكُون موكّليْهم بدفعِ أتعابِهم تارةً بالرّشاوَى، وتارةً بالهدايَا، إضافةً إلى فواتيرِ القضيَّةِ، فينتَهي عمرُ صاحبِ القضيّةِ، فيَتوارثُها الأبناءُ في محاكمَ جديدةٍ وفي ملفّاتِ دببٍ أكثرَ دهاءً وأخبثَ ابتِزازاً.. فيفنَى الحقُّ وتظلُّ القضيّةُ، والأمرُ أشدُّ وأمرُّ في قضَايا المحاكمِ الدّوليّةِ الّتي تُدينُ جرائمَ الحربِ والعنصريّةِ واحتلالِ الدّولِ وتشريدِ شعوبِها، فتموتُ القضيّةُ وتندثرُ ملامحُ الأرضِ والمدنِ والسُّكّانِ، وتظلُّ القراراتُ في مجلسِ الأمنِ حبراً على ورقٍ، وما ذلكَ إلّا لأنّ الكبارَ الّذين يحكمُون العالمَ هم الدُّبُّ الأكبرُ الحريصُ على أمنِ وصحّةِ وسلامةِ الإنسانيّةِ: "تعودُ هذهِ الحكايةُ إلى ذهْني كلّما فكّرْتُ بكبارِ العالمِ في الزّمانِ الحاضرِ وبما يُبدونَه من الغَيرةِ على البشريّةِ وصحَّتِها وسلامتِها. فهُم يريدونَها بشريّةً هانئةً، مطمئنَّةً، تغطُّ في نومِها نومَ الأبرارِ. ولذلكَ لا يبحُّ لهم صوتٌ، ولا يكِلُّ لهم ساعدٌ في الدفاعِ عنها ضدّ ذبابةٍ وقحةٍ لا تنفكُّ تُفسدُ عليها هناءتَها وطمأنينتَها. أمّا تلك الذُّبابةُ فالحربُ. وأخشَى أن ينتهيَ أولئك الكبارُ في دفاعِهم عن البشريّةِ إلى مثلِ ما انتهى إليهِ ذلكَ الدّبُّ في دفاعِه عن صاحبِه فتسلمُ الحربُ، وتنسحِقُ البشريّةُ".

ويأتي نعيمةُ لتوضيحِ حقيقةِ كبارِ العالمِ بصيغةِ سؤالٍ فيهِ من التّعجُّبِ والاستغرابِ والاستنكارِ ما فيهِ؛ ليرسمَ لنا حقائقَ هؤلاءِ بريشةٍ من أشعّةِ الشّمسِ لا تعرفُ الزّيفَ ولا الجبنَ، فيصِفُهم بصفاتٍ بعيدةِ التّوقُّعِ والمنالِ، والتّرجّي فيها ضربٌ من الخيالِ باستخدامِ الاستِفهامِ الإنكاريِّ بالهمزةِ والحرفِ النّاسخِ (لعلّ) بصيغةِ أسئلةٍ تحملُ في طيّاتِها الإجاباتِ غيرِ الممكنةِ الوجودِ، قائلاً: "ومَن هُم كبارُ العالمِ؟ ألعلَّهم صفوةُ البشريّةِ من حيثُ المعرفةُ الصّحيحةُ، والإرادةُ الصّالحةُ، والخلُقُ الكريمُ؟ ألعلّهم المؤمنُون بأنّ الإنسانَ فرْخُ إلهٍ، وبأنّه مدعوٌّ ليبسطَ سلطانَه على الأرضِ ومن ثمّ ليقفزَ منْها إلى السّماءِ، فهو لذلكَ أثمنُ ما في الأرضِ والسَّماءِ؟ ألعلَّهم كبارٌ بمحبَّتِهم وصدقِهم وسلامةِ نيَّتِهم، وبتساهلِهم وتسامُحِهم، وبالمَدى الّذي تنطلقُ فيه بصائرُهم وأبصارُهم؟ ألعلّهم كبارٌ بترفُّعِهم عن الصّغائرِ؟"

فتنهالُ الإجاباتُ ناصعةً من خلالِ مقارنتِهم بعناصرِ الطّبيعةِ الّتي تُبرزُ الفرقَ الحقيقيَّ بينَ الكبيرِ والصّغيرِ بعد فعلِ التّأسُّفِ على حقيقةِ كِبرِهم: "أسفاهُ! إنّهم كبارٌ كبرَ الدّبِّ بينَ الذُّبابِ، وآكلِ النّملِ بين النّملِ، والغرابِ بين العنادِلِ. ويا ليتَهم كانُوا كباراً كبرَ البنَفسجةِ بين العوسجِ، والنَّحلةِ بين الزَّنابيرِ، والشَّمعةِ المشتعلةِ في الظُّلماتِ الدّامساتِ".

فهؤلاءِ الكبارُ ليسُوا كباراً بمَا تحملُه ذواتُهم من أخلاقٍ وقيمٍ ومثلٍ، وإنّما هُم كبارٌ بمَا يملكُونَ من أسلحةِ الخرابِ والدّمارِ، وهُم كبارٌ بما يستَحوذُونَ من خزائنِ الأرضِ وثرواتِها، وهم كبارٌ بمَا يحملُونَ من حيلةٍ ودهاءٍ في التّلاعبِ بأفكارِ الغوغاءِ وعواطفِ الدَّهماءِ من البشرِ: "وإنّهم أقوياءُ بما يستنِدونَ إليه من جيوشٍ في ثكناتِهم، وأساطيلَ في بحارِهم، وقذائفَ جهنّميّةٍ في مستودعاتِهم، وقاذفاتٍ للموتِ في مطاراتِهم. ويا ليتَهم كانوا أقوياءَ بأشواقِهم إلى الانعتاقِ من كلِّ هذهِ الأشياءِ. وإنّهم لأغنياءُ بما يملكُون من فضّةٍ وذهبٍ، ومن حيلةٍ ودهاءٍ، ومن قدرةٍ على التّلاعبِ بأفكارِ الغوغاءِ وعواطفِ الدَّهماءِ. ويا ليتَهم كانُوا أغنياءَ لا بِما يملكُون من هذهِ الأمورِ بل بِما لا يملكُون".

وأنا أقولُ: إنّهم كبارٌ كِبرَ القططِ بينَ قطعانِ الفئرانِ الّتي لا تملكُ من أمرِها إلّا الهربَ والاختباءَ، ولا يَسلمُ من شرّهم غيرُ الفئرانِ الّتي تملكُ القدرةَ على الهربِ والاختفاءِ، ولكلّ قطيعٍ من الفئرانِ زعيمٌ موهومٌ ترعاهُ القططُ وتراقبُه مراقبةَ الرّاعي لمرياعِه، فإنْ تمرّدَ ذلك الفأرُ على سيادتِهم، وحاولَ القيامَ بدورِ أحدِهم أو تقليدِه، نزلَ عليهِ غضبُ السّماءِ والأرضِ، فتُجيّشُ الجيوشُ، وتُحشدُ الأساطيلُ البحريّةُ والجوّيّةُ، لتقديمِه أُضحيةً في صبيحةِ عيدِ الفصحِ المجيدِ أو في عيدِ الأضْحى المباركَ، حتّى يكونَ عبرةً لكلِّ فأرٍ تسوِّلُ له نفسُه تذوُّقَ طعمِ السّيادةِ، وعصرُنا هو عصرُ القططِ الكبارِ الّذين يقودُون العالمَ تحتَ مسمَّى الدُّولِ العُظمى وقادةِ الدُّولِ الصّناعيَّةِ الكُبرى. فالويلُ ثمَّ الويلُ لكلِّ فأرٍ يدَّعي أنّه صارَ قطّاً من القططِ الكبارِ، أو أضْحى صديقاً لها!!

وتحضرُني هُنا قصّةٌ رائعةٌ رواهَا المفكّرُ العربيُّ الكبيرُ عليّ الورديّ في كتابِه (مهزلةُ العقلِ البشريّ)، جاءَ فيها: "يُحْكى أنّ جماعةً من الفئرانِ، اجتَمعُوا ذاتَ يومٍ، ليُفكّرُوا في طريقةٍ تُنْجيهِم من خطرِ القطّ، وبعد جدلٍ عنيفٍ، قامَ ذلك الفأرُ المحترمُ، فاقترحَ عليهِم أن يضعُوا جرساً رنّاناً في عنقِ القطّ، حتّى إذا داهمَهم؛ سمعُوا به قبلَ فواتِ الأوانِ، وفرُّوا من وجهِه. إنّه اقتراحٌ رائعٌ لا ريبَ في ذلكَ، ولكنَّ المشكلةَ الكُبْری؛ كامنةٌ في كيفيّةِ تعليقِ الجرسِ على عنقِ القطّ، فمَن هو ذلكَ العنتريُّ الّذي يستطيعُ أن يُمسكَ بعنقِ القطّ ويشدَّ عليه خيطَ الجرسِ، ثمَّ يرجعَ إلى قومِه سالماً غانماً؟.. نسيَ صاحبُنا الفأرُ، أنّ اقتراحَه لا يُمكنُ تطبيقُه عمليّاً، فالقطُّ سوف يأكلُ كلَّ مَن يريدُ أن يشدَّ على عنقِه جرساً بين معاشيرِ الفئرانِ). فليس أمامَ فئرانِ العالمِ من خلاصٍ بامتلاكِ الحيلةِ والذَّكاءِ، وإنّما بامتلاكِ الشَّجاعةِ لتعليقِ جرسِ الإنذارِ على أعناقِ القططِ الكبارِ!

وقد نبغَ نعيمةُ في توظيفِ قصّةِ الدُّبِّ والفلّاحِ في توصيفِ حالةِ البشريَّةِ الّتي تُشبِهُ حالَ الفلّاحِ الّذي يغطُّ في نومٍ عميقٍ، لكنَّ الحربَ الّتي شبَّهَها نعيمةُ بالذُّبابةِ تزعجُ البشريّةَ في نشوةِ أحلامِها، فيأتِي الدِّببُ وهم كبارُ قادةِ العالمِ لإنقاذِ البشريَّةِ من ذبابةِ الحربِ فتقتلُ البشريّةَ وتسلَمُ الذُّبابةُ، وما حِرصُهم على سلامةِ البشريَّةِ سِوى خرافةٍ كُبْرى يترنَّمُون بها ويتبجَّحُون: "إذا أردْتَ السّلمَ فاستِعدَّ للحربِ".

وقدْ أفضْتُ في مقالةٍ سابقةٍ في توضيحِ معانِي هذهِ الخرافةِ كمَا رآها فكرُ نعيمةَ، ولقدْ روّجَ لها كبارُ العالمِ بأقوالِهم وأفعالِهم وأموالِهم منذُ أنْ استَوطنَ الإنسانُ الأرضَ. فكان من رواجِها أن انساقَ صغارُ الأرضِ في ركابِ كِبارها. وراحَ الكلُّ - كباراً وصغاراً - يكتبُون تاريخَ البشريّةِ بالدَّمعِ والدّمِ. فيستَنكِرُ نعيمةُ ذلكَ بقولِه: "وهل أفظعُ لبشريّةٍ ما فتئَتْ تُنشِدُ السّلمَ من أنْ يكونَ تاريخُها تاريخَ نارٍ ودماءٍ، وشقاءٍ وفناءٍ، وغدرٍ وثأرٍ، و کرهٍ وضغينةٍ، وخصامٍ وانتقامٍ يُنزلُها الإنسانُ بالإنسانِ؟ ثمّ هل أفظعُ مِن أن يمجِّدَ کاتبُو ذلكَ التّاريخِ أولئكَ النّفرُ من الناسِ الّذين كانُوا أشدَّهم فتكاً بالنّاسِ، فيجعلُوا منْهم أبطالاً وأنصافَ آلهةٍ حريِّينَ بالتَّعْظيم؟".

أيُّهما أوْلى بالحربِ؟

يَرى نعيمةُ أنَّ البشريَّةَ قد وقعَتْ في شرِّ أعمالِها وهيَ تسعَى بالحربِ لفرضِ السِّلمِ، فحاربَ بعضُها بعضاً، وقاتلَ الإنسانُ أخاهُ الإنسانَ، وكانَ الأحْرى بها أنْ تتّحِدَ لمحاربةِ أعدائِها في الطَّبيعةِ من أوبئةٍ وأمراضٍ وجوعٍ وفقرٍ وكوارثَ ومِحنٍ؛ كي تنْعمَ في أمنٍ وسلامٍ ومعرفةٍ وحرّيّةٍ، فيقولُ: "أليسَ من الخِزيِ والعارِ أن تقطعَ البشريّةُ ما قطعَتْه من آلافِ السِّنينَ، وأن يكونَ الجانبُ الأكبرُ من تاريخِها تاريخَ حروبٍ شنَّها الإنسانُ على الإنسانِ بدلاً من أنْ يكونَ تاريخَ حربٍ واحدةٍ شنَّها النّاسُ معاً على كلِّ مَا من شأنِه أنْ يحُولَ بينَهم وبينَ ما يَتُوقُون إليهِ من سلمٍ وهناءٍ ومعرفةٍ وحرّيَّةٍ؟".

فتنهالُ على لسانِه تساؤلاتُ الشَّجبِ والاستِنكارِ لما يقترفُه الإنسانُ ضدَّ أخيهِ الإنسانِ، وكان من الواجبِ أن يتّحدَ النّاسُ في حربِهم ضدَّ عدوِّهم الحقيقيِّ الّذي يُهدِّدُ مصيرَ الإنسانيَّةِ بالفناءِ، وأن يتعاونُوا جميعاً في ساحةٍ واحدةٍ لمواجهةِ ذلكَ العدوِّ بدلَ أن يَهدُروا قواهُم ويَهلكُوا جميعاً في حربِهم الظَّالمةِ على بعضِهم البعضِ، فتَنهزمُ البشريّةُ وتندحرُ في صراعِها المريرِ مع ذاتِها، ويسلمُ عدوُّها الحقيقيُّ الّذي يتهدَّدُها بالفناءِ من قِوى الطّبيعةِ الشّرّيرةِ: "أمَا كفَى الإنسانَ حرباً أنّهُ في كلِّ لحظةٍ من وجودِه يناضلُ ضدَّ الجوعِ والحرّ والقرِّ والمرضِ والجهلِ والموتِ؟ أمَا كفاهُ أنّه جهادٌ دائمٌ مع نفسِه حتّى يُفرَضَ عليه الجهادُ ضدَّ إنسانٍ مثلِه مُنهمِكٍ في حربِه معَ الجوعِ والحرِّ والقرِّ والمرضِ والجهلِ والموتِ، وفي حربِه مع نفسِه؟ أليسَ الأحْرى بمحاربَيْنِ يقاتلانِ عدوّاً واحداً في ساحةٍ واحدةٍ أن يُوحِّدا قواهُما في محاربةِ العدوِّ المشتركِ بدلاً من أنْ يَهدراهَا هدْراً في حربِهما الواحدِ ضدَّ الآخرِ، فيسلَمُ العدوُّ ويَهْلَكا؟".

منطقُ الكبارِ:

وأمامَ هذا المشهدِ المأساويِّ الّذي تعيشُه البشريَّةُ في حربِها مع ذاتِها، إذْ يسْحقُ بعضُها بعضاً، تارةً بالحروبِ والدَّمارِ، وتارةً بالاحتلالِ والاستعمارِ، وتارةً بالاستِعلاءِ والاستِحمارِ، وتارةً باستِئثارِ القِططِ الكبارِ بلحُومِ ما دبَّ على الأرضِ من الصِّغارِ، وكان حريَّاً بها أن تتَعاضدَ بكلِّ قطعانِها لمواجهةِ عدوِّها المشتركِ من ذئابِ الفقرِ والفاقةِ، ووحوشِ الأمراضِ والأوبئةِ، وأسودِ الغابِ من الكوارثِ والنّوازلِ.. لكنّ منطقَ الكبارِ الّذي يُجافي كلَّ منطقٍ ومصلحَتَهم الّتي تتنَافَى مع كلِّ مصلحةٍ يُمليانِ عليهِم منطقاً آخرَ ومصلحةً مختلفةً: "ففِي منطقِهم أنّهُ إذا التقَى جائعانِ يُفتّشانِ عن رغيفٍ، فالمصلحةُ تقْضي على أحدِهما أن يفتكَ بالآخرِ ليكْفَلَ لنفسِه الرَّغيفَ الّذي ما يزالُ في عالمِ الغيبِ بدلاً مِن أن يتَعاونَ الاثنانِ في التّفتيشِ حتّى إذا ظفِرَا بالرّغيفِ اقتسماهُ فكانَ حياةً لكليهِما. وإذا ترافقَ اثنانِ في طريقٍ وانبرَى لهما نمرٌ فمِن مصلحةِ الواحدِ أن يبطشَ برفيقِه بدلاً مِن أن يتكاتفَ وإيّاهُ على البطشِ بالنَّمرِ. وإذا سارَ اثنانِ في ظلمةٍ دامسةٍ فمنَ الخيرِ لأحدِهما أن يَفْقأَ عينَيّ رفيقِه لتنكشِحَ الظُّلمةُ من حواليهِ ويُبصِرَ طريقَه بدلاً من أن يتوكّأ أحدُهما على الآخرِ ريثَما تنكشِحُ الظُّلمةُ من حواليْهما. وإذا تلاقَى مركبانِ في عُرضِ البحرِ وكانَ كلاهُما في خطرِ الغرقِ فالدّفاعُ عن النّفسِ يقْضي بأن يُغرقَ أحدُهما الآخرَ بدلاً مِن أن يتَضامَنا في حربِهِما معَ البحرِ".

وعلى الرّغمِ من أنَّ البشريّةَ ما زالتْ تُعاني من الجُوعِ والعطشِ والعُريِ والظَّلامِ، وما فتِئَتْ في كفاحٍ مستمرٍّ ضدَّ الطّبيعةِ وعناصرِها، وضدَّ الجراثيمِ والأوبئةِ، وضدَّ كلِّ ما يهدِّدُ بقاءَها بالفناءِ، وضدَّ ما يُثقِلُها من الحزنِ والألمِ، وأخيراً ضدَّ ما يُنذِرُها بالرَّدى: "فبأيِّ منطقٍ يقاتلُ بعضُنا بعضاً بدلاً منْ أن نكونَ جيشاً واحداً، وإرادةً واحدةً، وسلاحاً واحداً في حربِنا مع الجُوعِ والعطشِ والعُريِ، ومعَ الظُّلمةِ وما يَختبِئُ في تلافيفِها من أمراضٍ وأوبئةٍ، ومنْ حزنٍ وألمٍ فمَوتٍ؟".

ويتساءلُ نعيمةُ عنِ السّببِ الحقيقيِّ في حبِّ النّاسِ للسّلمِ ونفورِهم منَ الحربِ تساؤلاً لا يُدانيهِ شكٌّ ولا تُجافيهِ حقيقةٌ، ولا يَنضحُ بمثلِه إلّا فكرٌ يفيضُ بالعبقريّةِ، ويتدفَّقُ بالحجّةِ النّاطقةِ، قائلاً: "لماذا يُحبُّ الناسُ السِّلمَ ويُبارکُونَه، ويَكرهونَ الحربَ ويلعنُونَها؟ ألأنَّ السِّلمَ يَعني الهناءَ والحربَ تَعني الشّقاءَ؟ أم لأنَّ السّلمَ حياةٌ والحربَ موتٌ؟"

فتأتِي إجابةُ نعيمةَ جامعةً مانعةً في الرَّدِّ على تلكَ التّساؤلاتِ حينَما يَرى النَّاسَ يشْقَونَ في السّلمِ ويَموتُون مثلَما يشْقَونَ في الحربِ ويموتُون، فلا فرقَ بينَ السّلمِ والحربِ من حيثُ الواقعُ: "إنّما يَطلبُ النّاسُ السّلمَ ليُتاحَ لهُم أن يُحاربُوا أعداءَهم الّذين مِن حولِهم، وأعداءَهم الّذين فيهِم. وإنّما يكرهُ النّاسُ الحربَ لأنَّها تَصرفُهم عن محاربةِ أعدائِهم إلى محاربةِ أنصارِهِم. فمَا من إنسانٍ عاشَ على الأرضِ إلّا كانَ نصيراً لكلِّ النّاسِ في حربِهم الأبديّةِ ضدَّ أولئكَ الأعداءِ. فهلْ أشدُّ حمَاقةً وأفظعُ غباوةً من نصيرٍ يقتلُ نصيرَهُ، وحليفٍ يفتكُ بحليفِه؟"!.

ولذلكَ فالسّلمُ في رأيِ نعيمةَ ليسَ غايةً تُرتَجي في ذاتِها ولذاتِها. ولكنّهُ وسيلةٌ إلى غايةٍ. إنْ هو إلّا حالةٌ تمكّنُ الإنسانيّةَ المحاربةَ من تنسيقِ قِواها وتوحیدِ سلاحِها وقيادتِها في حربِها معَ أعدائِها الألدّاءِ، والسّلمُ لا يكونُ سِلماً إلّا إذا صفَا جوُّهُ من غيومِ الحربِ، فانصرفَ النّاسُ إلى نضالِهم مع أنفسِهم ومعَ الطّبيعةِ.

فما أجملَ أنْ نفتحَ صحيفةً، أو أنْ نسمعَ إذاعةً، لا أثرَ فيها للحربِ والخوفِ من الحربِ، بل كلُّ ما فيْها أخبارٌ عن انتصاراتٍ جديدةٍ أحرزَها الإنسانُ في حربِه مع نفسِه ومع الطّبيعةِ، لكنّ سلماً يَجثمُ على صدرِه شبحُ الحربِ فلا تسمَعُ فيه غيرَ حديثِ الاستِعدادِ للحربِ لَسِلْمٌ أشدُّ هوْلاً من الحربِ: "وهو السّلمُ الّذي نحنُ فيهِ اليومَ والّذي جلبَتْه عليْنا الخرافةُ الكُبْرى. ولو أنّ كبارَ العالمِ الّذين يدَّعُون الغيرةَ على الإنسانيّةِ وهنائِها كانُوا أوفرَ ذكاءً من الدُّبِّ في الحكايةِ لما روَّجُوا لتلكَ الخرافةِ الحمْقاء".

خاتمةٌ:

في الختامِ انتهَتْ حكايةُ الدُّبِّ والفلّاحِ والذُّبابةِ، ماتَ الفلّاحُ وانتصرَتِ الذُّبابةُ، ومازالَ دببةُ العالمِ يتبجَّحُون بحبِّ البشريَّةِ وحرصِهم على أمنِها وصحَّتِها وسلامتِها، كادَت البشريّةُ أن تَهلكَ بعدوَّينِ: عدوٍّ من داخلِها، هو الإنسانُ الّذي يحاربُ أخاهُ الإنسانَ، وعدوٍّ خارجيٍّ يتربّصُ بها في كلِّ حينٍ من شرورِ الطَّبيعةِ بأوبئتِها وكوارثِها.. وما زالَتِ الدّببةُ تجتمعُ وتندِّدُ وتشجبُ وتستنكِرُ وتُدينُ، والنَّتيجةُ كمَا يعلمُها الجميعُ مسرحيَّةٌ أبطالُها المنتصرونَ دببةٌ، والبشريّةُ دمىً في مسرحِ العرائسِ، وطابَتْ مشاهدتُكم!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى