الخميس ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٣
بقلم حسن عبادي

ذكرى تصريح بلفور... ومرّ عام آخر!

تصريح بلفور (Balfour Declaration) المعروف بوعد بلفور هي الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد ليونيل روتشيلد يُشير فيها لتأييد حكومة بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وجاء فيها:

وزارة الخارجية

في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917

عزيزي اللورد روتشيلد

يسرّني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرّته:

إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنيّة والدينيّة التي تتمتّع بها الطوائف غير اليهوديّة المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتّع به اليهود في أي بلد آخر".

وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح

المخلص

آرثر جيمس بلفور

جاء تصريح بلفور نتيجة التقاء مصالح بريطانيا الاستعماريّة مع المخطّطات الصهيونيّة لتأسيس "وطن قومي"، على أرض فلسطين العربيّة، وبذلت الحكومة البريطانيّة "غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية"، ونتج عن التقاء مصالح بريطانيا مع المنظّمة الصهيونيّة العالميّة اتفاق يقضي بأن تعمل الأخيرة لقاء وعد بلفور في مؤتمر الصلح في "فرساي" على مساعدة بريطانيا بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين، وهذا ما حصل بالفعل. تكرّسَ هذا التصريح لاحقًا بالعنف والاستيلاء على الأراضي بالقوّة، بهدف طرد سكّانها الأصليّين وتشريدهم من بيوتهم، وشكّل الاستيطان عنصراً رئيسيّاً من عناصر إقامة دولة اليهود في فلسطين. شكّل هذا التصريح الرافعة للتطهير العرقيّ (Ethnic Cleansing) الذي كان نتاجه قضيّة اللاجئين الفلسطينيين منذ النكبة، وكما كتب المؤرّخ الإسرائيليّ إيلان بابه في كتابه "التطهير العرقيّ في فلسطين": "إنّها القصّة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكّانها الأصليّين، وهي جريمة ضدّ الإنسانيّة أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إنّ استردادها من النسيان واجب علينا".

تصريح بلفور هو بلوغ درجة عالية من تمازج وتوافق المصالح بين الحركة الصهيونيّة والاستعمار البريطانيّ، علاقة مبنيّة على الابتزاز السياسيّ، النفاق الدبلوماسيّ والاحتيالات باللجوء إلى استعمال المال السياسيّ الذي يعزّز في نهاية المطاف المصالح المشتركة للحركة الصهيونيّة وللحكومة البريطانيّة.

أعلن هرتسل عن تأسيس المنظّمة الصهيونيّة في مؤتمر بازل عام 1897 الذي عرض فيه مشروع إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين بضمانة قانونيّة دوليّة وربطها بمصالح بريطانيا وفرنسا في المشرق، هجرة اليهود إلى فلسطين وتأسيس مجتمع يهودي متعلّم، حرفي ومهني وبدأت بإقامة المؤسّسات التعليميّة مثل التخنيون في حيفا والجامعة العبريّة في القدس وإعطائها الشرعيّة الدوليّة عبر التصريح، وكان له الأثر الكبير على صناعة التصريح، وكذلك حاييم وايزمان (كان رجل علم واختراعات واستثمر شخصيّته العلميّة الرصينة لنشر أجواء من الراحة لمستمعيه ومرافقيه وتميّز بالربط بين المصالح البريطانيّة والصهيونيّة)، وهربرت صموئيل (كان أوّل مندوب سام بريطاني على فلسطين ومن التعصّبين للصهيونيّة)، تشارلز سكوت (صحافي ومحرّر جريدة ال"جارديان" اللندنيّة وصاحب شخصيّة مؤّثرة على صُنّاع القرار)، توماس لورنس (تعلّم في أوكسفورد وسافر في رحلة تعليميّة لدراسة آثار سوريا وفلسطين وتم ضمّه للمخابرات العسكريّة الإنجليزيّة ونجح في خداع العرب ووجّههم إلى إسقاط الدولة العثمانيّة وساهم في تعزيز المشروع الصهيوني)، لويد جورج (رئيس حكومة بريطانيا آنذاك، لعب دورًا مركزيًّا في صناعة تصريح بلفور، ووصفه بلفور في حينه بعرّاب التصريح)، وعائلة روتشيلد (عائلة يهوديّة ثريّة استغلّت مالها وثروتها لتجارة الحروب والثروات خدمة لمصالحها وجني الثروات وقيل في حينه: "المال عندما يخلق دولة من العدم")، المواجهة بين الصهيونيّين وغير الصهيونيّين، دفع الجالية اليهوديّة الأمريكيّة إلى الميدان، التحرّك الصهيونيّ في برلين واسطنبول، مارك سايكس واتفاقيّة سايكس بيكو وانسجامها مع المشروع الصهيونيّ وغيرها.

وهكذا باتت الحكومة البريطانيّة نصيرة للصهيونيّين، احتلّت فلسطين وتطوّرت علاقة سايكس معهم ووجّههم لبناء خطّة مدروسة بدعم من صديقه جيمس مالكولم لإقرار التصريح الذي شكّل الركيزة لهجرة اليهود إلى فلسطين والسيطرة على مواردها والقبض باقتصادها.

من الجدير بالذكر أنّ التصريح لوقي بالترحاب من فرنسا، ألمانيا، الولايات المتّحدة الأمريكيّة، إيطاليا، الكنيسة الكاثوليكيّة والفاتيكان والدولة العثمانيّة، وبالمقابل موقف العرب الذي أدّى إلى استلاب فلسطين واقتلاع أهلها وتشرّدهم.

سعت بريطانيا بكلّ جبروتها لتمريره وتنفيذه؛ عبرَ الاعتراف بالوكالة اليهوديّة كهيئة تمثيليّة رسميّة لليهود، تسهيل الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين وسيطرة اليهود على الأراضي الأميريّة، تسهيل منح الجنسيّة الفلسطينيّة لليهود، السيطرة على موارد فلسطين، الاعتراف باللغة العبريّة كلغة رسميّة ثانية والاعتراف بالأعياد اليهوديّة كأعياد رسميّة، وبالمقابل بدأت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بالتشكّل لمحاربة التصريح والمشروع الاستيطاني الاستعماريّ ولكنّها كانت وحيدة ومحاولاتها باءت بالفشل.

يشكّل التصريح وثيقة تأسيسيّة لاستعمار استيطاني في فلسطين، وهو غير شرعي ويتنافى مع القانون الدوليّ ويبقى السؤال عالقاً: "هل بالإمكان مقاضاة بريطانيا؟".

شهدت السنوات الأخيرة دعوة عارمة للحكومة البريطانيّة إلى تقديم اعتذار للشعب الفلسطينيّ عن تصريح بلفور، وهذا لا يكفي. يجب الضغط بشتّى الوسائل لإجبارها على التكفير عن خطيّتها التاريخيّة بالإقرار بحقّ العودة والاعتراف بالشعب الفلسطينيّ وحقّه في إقامة دولته المستقلّة على ترابه الوطني فلسطين، منها الدعوات الجديّة ومنها الإعلاميّة، مجرّد استعراضات لحصد اللايكات و"شوفوني يا ناس".

جاء في صحيفة "المدينة" الحيفاوية تحت عنوان "آمنة ما زالت تنتظر": "يواصل رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري جولاته ورحلته المكوكيّة وتحضيراته لمقاضاة بلفور، سيئ السمعة، على فعلته النكراء ووعده المشئوم (رسالته بتاريخ 2 نوفمبر 1917 التي يشير فيها لتأييد حكومة بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين)، فزار كلّ من حيفا، يافا، الناصرة، أم الفحم، الطيبّة وعرّج على صفوريّة والعراقيب وغيرها، يرافقه هنا وهناك "مطبّلين ومزمّرين" وطاقم إعلامي رفيع المستوى دأب على توثيق الحدث وتعميمه، ويبدو أنّه يجمع الأدلّة والإثباتات لضمان نجاح القضيّة لتجريم بلفور".

وكأنّي ببلفور يتقلّب في قبره من العقاب الذي ينتظره.

آن الأوان لبحث قانوني وفحص إمكانيّة مقاضاة بريطانيا وحكوماتها المتتالية التي سبّبت نكبة شعب بكامله.

لا تقادُم على هذه المسألة ما دامت النكبة مستمرّة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى