الاثنين ٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم شفيق حبيب

ذكرياتٌ وشَــــوْقٌ وحـَـنيـــن

* عندما التقيتُ قبلَ أسابيعَ قليلةٍ زميلَ الدراسةِ والشباب الصديق منقذ الزعبي ، شددتُ على يديهِ عقبَ نشرهِ مقالتـَهُ عن حلاقي الناصره القدامى الذين أعرف

بعضا منهم في (جريدة العين) التي يرأس تحريرها وطالبتـُهُ بالمزيد مع التاكيد على جمْع ِ ما سيكتبُهُ مستقبلا ً عن ذكرياتِهِ حولَ المجتمع ِ النـّصراويِّ في كتاب ٍ توثيقي ...

* وفي الأسبوع ِ الماضي أتحفـَنا الأستاذ منقذ بمقالة ٍ توثيقية ٍ أخرى عن الراحل ِ

الكريم الفنان جورج سليمان والشخصيةِ المصريةِ المحيـِّرة التى قضى صاحبُها المرحوم الأسطى واصل أو سي أنور، في مستشفى الأمراض العقلية بعكــا دون أن يعرفَ عن ماضيه أحدٌ شيئـــا ً ...

* لقد أثرتَ ذكرياتي وشوقي وحنيني يا منقـــــذ !!

*عام 1957 التحقتُ بالمدرسةِ الثانويةِ البلديةِ بالناصرة حيث كانت بناية ُ المدرسةِ

مُقامة ًعلى الســـاحةِ المحاذيةِ لمقام ِ شهابِ الدّين .

* بعدَ أسابيعَ من بدءِ السنةِ الدراسيةِ دخل منقذ صائحا في غرفة الصّف :

يا شباب !! عالمُظاهره يا شباب !! وخرجنــــــا ... وطاردتنا الشرطة ...

* لم نكنْ مسيَّسين بعدُ نحن الوافدينَ من القرى إلى الناصرةِ للدراسة ِالثانوية..

ولم نسمعْ كثيرا بتفاصيل ِ مذبحةِ كفر قاسم التي اقتـُرفت قبل سنةٍ من ذلك التاريخ أي في 29.10.1956 وكان منقذ الشرارة َ آنذاك .....

* وجاءت هذه المظاهرة بمناسبة الذكرى الأولى للمجزرة حيث حُكم المسؤول

العسكري شدمي بغرامة قرش واحد وأصبح قرش شدمى مضربا للمثل...

* ولا زلت أذكر مدرِّسـا وطنيّـا اسمه الياس معمَّر كان المشجعَ والدافعَ للتظاهر

وكان قد هاجرَ إلى بريطانيا بسبب الضغوطاتِ المُمارسةِ آنذاك..

* سكنتُ الناصرة َ (طالبا ً) منذ عام 1957 وحتى 1961 ثم سكنت مدينتي حيفا

وشفاعمرو حتى أيلول عام 1964....

* عام 1964 بدأتُ عملي الحالي في شركة ٍ خاصّة ٍ وما زلتُ حتى اليوم.... وسكنتُ الناصره حتى عام 1973 حيث عدتُ إلى دير حنا ومعي زوجة فاضلة وأبنتان وابنان بعد أن شيّدتُ بيتا ً متواضعا ً وفي ديرحنا أتممتُ عدد أولادي حتى سبعة .. ابن وابنتان وما زلتُ أسافر يوميا إلى عملي ...

* عزيزة ٌ على قلبي هذه المدينة حيثُ واكبتُ تطورَها وتدهورَها في كثير من

الميادين والمجالات ... ودّعت ُ فيها مئات الأصحاب من المساجد والكنائس إلى مثاويهم الأخيره كما شاركتُ المئات أفراحهم ... الناصرة تجمعُ كلَّ متناقضات العالم العربي سياسيا ً واجتماعيا ً وأخلاقيا ً ومعظم سكانها من القرويين الذين هُجِّروا أثناء نكبة 1948 أو من النازحين من قراهم العامرة طلبا للعمل .....

* واستمرارا ً لما أوردَهُ الصديق منقذ في مقالتهِ الآنفةِ الذكر أودُّ أن أدليَ

بدَلـْوي للذكرى والتاريخ .. :

* بعدَ ساعاتِ الدوام في المدرسة كثيرا ما كنتُ أمرّ من سوق ِ الناصرة العتيق

عائدا إلى غرفتي المُسْتأجرة ِ في بيت المرحومة : أم صبحي السخنيني لأجدَ الأسطى واصل يجلس في مكانه الثابت قرب دكان الأقمشة التابع للسيد إدوار

بشاره فأقف مع عدة زملاءَ لأستمعَ منه إلى تجويد بعض الآيات القرآنية بصوت ٍ رخيم وبعدها يُتحفنا بعشرات الأبيات من شعر أحمد شوقي وقد كان يلمِّح أحيانا أن صداقة ً أو ربما معرفة ًربطتـْهُ بأمير الشعراء ثم يطلب قلما ً ليخط َّ بعض الآيات أو الأبيات الشعريةِ على قطعةِ كرتون أو ورقة ...

* قيل عن الأسطى واصل الكثير فبالإضافة إلى ما ذكره منقــذ من أنه ربما كان عالما ً أزهريا بسبب معرفته الدينية ، أو خيانة زوجته نقلته إلى عالم الجنون فقد كانت في عينيه شعلة ٌمن الذكاءِ والمعرفةِ حتى أن بعضهم سمع منه أنه كان طيارا سقط على أرض سيناء .. وأصابه ما أصابه لأن أحدا لم يحاول إنقاذه أو السؤال عنه في الصحراء الجرداء ....

* وقد سمعتُ آنذاك أن أحدَ أدباءِ الناصرة الكبار اصطحب الأسطى واصل إلى

سينما (إمبـَيـَر) بعد أن نظـّفهُ وألبسهُ ثيابا ً غيرَ ثيابـِه ، وخلالَ عرض ِ الفيلم

قام أحد ممثلي الفيلم بتقبيل إحدى الممثلات ، فهبّ الأسطى واصل واقفا ًصارخا ً بصوتِهِ القويّ ولهجتِهِ المصريّة : " هالله..هالله..هالله ..علـّمَ الإنسانَ ما لم يعلم .. " وخرج الأسطى قافلا ً إلى مغارتهِ قربَ الكسّارات وعادَ إلى ثيابهِ الرثة ِ.. وحياتِهِ

التشرُّديّـــــة ....

* ذات يوم حين كنتُ أجلسُ في المكتب بالناصرة في السبعينيات من القرن الماضي، انضمّ إليّ شابٌ للعمل ، قدّم نفسه : عصام جورج سليمان ..

* رحّبتُ به وسألتهُ عن حال والدهِ وذكرتُ أمامَه أنني حين تقدمتُ للعمل في مندوبيةِ خدمةِ الدولة بعد الثانوية - وليتني لم أفعلها - طلبوا مني شهادة َ إنهاءِ الثانوية .. وطلبَتْ إدارة ُ المدرسةِ أن أتوجّهَ إلى : جورج سليمان في مكتب تسجيل السكان في المسكوبية ومعي كرتونة الشهادة على بياض ، حيث قام المرحوم بصنع قلم خط من قطعةٍ خشبية وأظنها قطعة من مسطرة خشبية كسرها ، وكانت عنده دواة حبر أزرق حيث كتب لي الشهادة المطلوبة وما زلت أحتفظ بها حتى اليوم...باستثناءِ الشهادةِ الرسميةِ بالحبر ِ الأسود .

* الزميل الجديد عصام جورج سليمان فيه الكثير من سِماتِ أبيه شكلا ً وموهبة ً ولباقة ً وذكاء ًحيث كان يرسمُني أثناءَ العمل - وأنا غافلٌ عنه – بقلم ٍ رصاصيٍّ وعندما كنتُ أعرضُ الصورة َعلى بعض الأصدقاءِ كانوا يعرفون َصاحبَها ويُعجبون

* بعد فترة وجيزة سافرعصام للدراسة في الولايات المتحدة وعمل في أحدى المؤسسات البنكية هناك وكان يزورني كلما زار أهلـَهُ بالناصرة ولكن منذ عدة سنوات انقطع عن زيارتي فربما يكون العائقُ خيرا ً....

* أتساءل : أين تراث جورج سليمان الذي اطلعتُ عليه أثناء زياراتي له برفقة

ابنه عصـــام ؟؟؟؟؟؟

* في 26.8.1978 أنجز َ الرّاحل الفنان جورج سليمان لوحة ً خطيّة ًً جميلة ً بمقاسات 65 سم × 35 سم تضمّ ثلاثة َ مقاطعَ من القصيدة الشهيرة

" الطـّلاســــم " للشاعر المهجريّ الكبير إيليّا أبي ماضي .. وقد جاءَ كلُّ مقطع ٍ بخط ٍّ مغاير ٍ للمقطع ِ السابق : كوفيّ .. ففارسيّ .. فديوانيّ ... وما زالت هذه اللوحة ُ على أحد جدران بيتي كلوحةٍ فنيةٍ راقيــــــــــة أعتز ُّ بها ...

* كما أنني ما زلتُ أراها مُعلقة ً في بعض البيوت ... وقد أرسلَ ليَ الفنان ُ الراحلُ ذات يوم ٍ لوحة ً أصليّة ً صغيرة َ الحجم لا توجدُ عندَ سواي.. ومن الجدير بالذكر أن نقشَ كلمتيْ " مسجدُ السـّـــلام " بالناصرة على مدخل الجامع للفنان الراحل جورج سليمان بعد أن استقر رأي ُالمسؤولين باعتماد خط المرحوم كما أفادني نجلـُهُ عصـــــــــام ...

* للناصرة مكانـُها الدافىءُ في صدري .. فأنا لم أنقطعْ عنها منذ ُنصف ِ قرن .. درستُ فيها وعملت ُ وما زلتُ أعملُ فيها حتى أن الكثيرين من الأصدقاءِ وموظفي المؤسسات يظنونني نصراويـّا وليس ديراويـّا .. فكلاهُـــما عينــــــــاي ..

* وأخيرا ً .. إن ما تكتبهُ أيها العزيز منقذ سيكونُ وثيقة ً تاريخية ً ذاتَ قيمةٍ ستعرفـُها الأجيالُ اللاحقــــــــة ُ بعدَ عُمْـر ٍ طويــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل .........


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى