الأحد ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم مريم الهادي

ذكريات

مدت بصرها إلى الأفق البعيد المشرئب بالصفرة فتعود إلى تلك النظرة التي رماها إلى نافذتها ساعة الرحيل، هي لم تغب عنها أبدا. تمتد أمواج البحر الوادعة لتداعب قدميها، تجلس تمد يدها فيها ثم ترفعها لتنزل قطرات الماء سريعة ثم تتباطأ ذاهبة بها إلى سنوات بعيدة عذبة.. أمها عند الجيران تعد لهم الطعام وتقوم على رعاية أمهم المريضة على عادة أهل ذلك الزمان، فالجيران مثل الأهل يساعد بعضهم بعضا ويقف بجانبه وقت شدته، تصر على الذهاب معها لتلعب مع أبنائهم فاطمة التي تكبرها بثلاث سنوات، وجاسم يكبرها بسنة ونصف، وحمد يصغرها بسنة، كانت تستمتع باللعب معهم إلا أن أمها لا تلبث أن تطلب إليها العودة إلى البيت تحتج وتبكي ولكن أمها تصر على ذلك لئلا تزعج الجارة المريضة، فتذهب كارهة مرغمة ثم لا يكاد يمر وقت قصير إلا وهي عائدة متحججة بأمر ما لتستمر في اللعب، أمها تفطن إلى مخططها، ولكن تشفق عليها من الوحدة في البيت فلا أحد به والدها في عمله وأخوها سالم مسافر..

ماتت الجارة.. تتذكر تلك اللحظات العصيبة وكيف مرت بأربعتهم، تفرقوا بعدها بأسبوع وسط الدموع حيث ذهبوا إلى بيت جدهم، هو لم يكن بعيدا ولكن مقارنة ببيتهم هذا هو بعيد جدا ..!! كانوا يأتون إليها ليلعبوا
معها ولكن دون فاطمة !! كانت تقضي أوقات ممتعة معهما، لاسيما جاسم الذي كان يحضر يوميا للعب معها مهما كانت الظروف. أمها لم تكن ترضى أن تذهب إليهم .. تتجمع غلالة من الدموع لتريها صورة مائعة للوجود، الأمواج تتلاطم وترتطم بالصخور ثم تعود منكسرة إلى زبدها وحضنها العميق بعد خسارتها..!! كانوا هنا منذ سنوات يبنون بيوتا من الرمال على هذا الشاطئ، كانت آخر مرة تخرج فيها للعب معهما، فقد كبرت كما قالت أمها وينبغي أن تبقى في البيت وتتعلم شئونه، لم يعجبها ذلك اعترضت إلا أن أمها أصرت ولم تلن أمام إلحاحها كما هي العادة، ذهبت إلى والدها إلى جدها وجدتها فأجمع الجميع على أنها كبرت وهي لا ترى ذلك ..!!

بعد يومين أتى جاسم يطرق الباب ويسأل عنها إلا أنهم صدموه بقرارهم كما صدموها وأحبطوها من قبل. هو يعرف أين نافذة غرفتها قرعها مرة واثنتان لتفتحها في الثالثة فلم تكن في الغرفة في المرتين السابقتين، كم سعدت بذلك وكذلك هو أخذا يلعبان من النافذة ويتحدثان، كان يأتي في الأوقات التي لا يكون فيها الأب موجودا، هي من طلب منه ذلك حتى لا يتعرضا للعقاب. استمرا على ذلك أشهرا قبل أن يراه الوالد ويقيم الدنيا ولا يقعدها ويشكوه إلى والده، ويكبر الأمر عند الكبار، وهما لا يستوعبان الحملة التي تشن عليهما، وتبحر بهما الحيرة في لجتها. ومن ساعتها لم تعد تراه، ومرت سنتان على تلك الحادثة حتى سمعت ذات ليلة طرقا خفيفا على النافذة، الوقت كان متأخرا وكانت تهم بالنوم خافت في البداية ولكن استجمعت رباطة جأشها وفتحتها لتجد نفسها أمامه، يا إلهي كم تغير، تغيرت ملامحه نبت الشعر في وجهه، لقد اشتاقت إليه كثيرا، شعرت أن كل ذرة في كيانها تريد أن تتحرر وتذهب مع نسمات الليل العليلة، أواه كم يبدو وسيما رجلا، هو عظيم في عينيها. مازالت تشعر بتلك المشاعر تجتاح جسدها وكأنها تحدث في لحظتها، تعاتبا وتشاكيا قرابة الساعة ثم غادر، ظل هذا دأبهما كل ليلة، إلا أنهما في أحد الليالي أخذهما الحديث وتسرب الوقت منهما دون أن يشعرا، حتى رآهما الوالد الذاهب إلى المسجد لصلاة الفجر، وما إن رأى الطيف قرب النافذة حتى انطلق نحوه، فأسلم رجليه للريح، عاد الأب إليها وانتزع السر بقسوة لا توصف من قلبها الغض الذي لم يعرف قبلا إلا الرقص على نغمات وجود جاسم في حياتها، تتلمس رقبتها تحس أن شقا عميقا قد حُفِر فيها، ترسل الدموع ببذخ، وهي المدللة المحبوبة شكّت الليلة في ذلك لا سيما بعد أن سمعت من أمها الأخرى موشحا من التقريع والتوبيخ.. حملت حزنها وأمها لم ترحمها فقد جعلتها تقوم بكل شئوون البيت وتقول إن ما قامت به هو نتيجة الفراغ والدلال، لم تعد ترى تلك الابتسامة الحانية العذبة.. آه كم اشتقت لرؤيتها، كنتُ في بحر من الحنان والآن في صحراء مقفرة، وتعود للبكاء. سالم يعود ويسأل عن سبب ذبولها فتخبره الأم الخبر، فلم يقصر وقام بالواجب ..!!

الوالد لم يعدِ ما حدث تلك الليلة بهدوء، بل ذهب إلى والد جاسم عند شروق الشمس وشكى له ولده، وتجادلا وتساببا وكادت أن تقوم بينهما مشاجرة عظيمة لولا تدخل الجيران، من بعدها سمعت أنهم ينوون السفر والاستقرار عند أقارب والدتهم، أما جاسم فقد أصر والده على إلحاقه بالجيش ليتأدب ويتربى..!!

كاد عقلها يشت، ففعلت ما في وسعها لتراه، تارة تطلب من أمها الذهاب معها إلى السوق، وتارة إلى الجيران، حتى أنها تمارضت..!! لم تجد أذنا مصغية ولا قلبا حانيا..

كل ما بقي لها من تلك الذكريات بعد هذه السنين الطويلة تلك النظرة الحزينة.. ياه ما أطول لحظات الانتظار، فكيف بالسنين، تُرى كيف هو شكله الآن؟ هل تغير؟ هل مازالت صورتها محفورة في عينيه، واسمها معلقا بين أضلعه؟

تغوص في أفكارها لا تدري لم وكيف مر الوقت.. لتعود إلى الواقع على نداء: ماما .. ماما ، إنه جاسم الصغير تحتضنه وتعود به إلى البيت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى