السبت ٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

رأب الفجوة

 كلّما فتحْتُ حواراً، أجد بيني وبينكَ فجوةً لا يُمكن تجاوزها.

قالت ذلك ببعض التنهّد والتأفف.

وأجاب ساخراً:

 أفّ، لا يمكن تجاوزها !.. هل هي هوّة سحيقة لهذه الدرجة؟

أطرقَتْ أرضاً، وآثرَتْ ألا تتابع الشّرح بما يخصّ التناقض في المستوى الثقافي بينها وبينه كي لا تجرحه، إذ طالما ارتضت به زوجاً فهذا يعني قبولَها به على علّاته، ولن يتسنّى لها فيما تبقّى لها من عمر أن تحاول رأب تلك الفجوة.

لن ترتقي بمستوى تفكيره ليساويها، ولا بمفردات حواره ليضاهيها، وشهاداتها الجامعية المعلّقة على جدرانه ليست إلا لوحاتٍ للزينة، كآياتٍ قرآنية مصلوبة على حيطان كافرٍ أو ملحد، مهما حاولَتْ، أصبحَتْ ترى مقاربتها له كنوعٍ من الانحدار!

وكلُّ ردود أفعاله تسفيهٌ وتسخيفٌ وتسفيف وتسطيحٌ لما تقول، ممّا يزيد في عمق الفجوة واتّساعها بينهما
 الفجوة موجودة ولا شك بين كل زوجين جديدين، ورأب الفجوة يعني محاولة ترميمها وتقريب حوافها، ولو بتضييقها مثلاً، وليس القفز فوقها.

ضحك حتى كاد يقلب على قفاه، وقال:

 تضييقها ؟..ذلك عادةً يتمّ بعد سنين من الزواج بسبب عديد الولادات.

لم ترَ سبباً لقهقهته الساخرة، لكنها شاركَتْه ضحكاته بابتسامة مُصطَنعة، وقالت:

 إنهما رجل وامرأة، مختلفان شكلاً ومضموناً، عمراً وجنساً وتربية وبيئة وثقافة، وتلك فجوات عديدة، ولابدّ من تذليلها بالتفاهم والتأقلم والتنازلات المشتركة لصالح هدفهما المشترك.

وضع يده على يدها، وجذبها إليه وقال:

 نعم، فجواتٌ عديدة، ولابدّ من رأبها

وتملّصت منه كمن يحاول الفكاك من قيدٍ يكبّلها، وانسحبت إلى مطبخها حيث تجد هناك في موقدها وقهوتها وفناجينها سبباً لتغيير دفّة الحديث كلّما حوصرت.

تركَتْ عندَه إحدى أذنيها تستمع لدندناته، يسلّي نفسه بها أثناء غيابها عنه، ورأت بعينها التي تركَتْها عندَه أيضاً كيف أشعل لفافته بلا مبالاة ينفثها، وبقي معها عقلها الباطن الذي لم يستطع النفاذ إليه، وبدأت تحاور نفسها كمن أصيب بالفصام الروحيّ، وها هي الآن تعلن لنفسها بأنّ حواراتها معه عقيمة ولا طائل منها، فلتترك الأمر للزمن يرأب فجواته.

وأضافت السكر والبن للماء الذي بدأ بالغليان، ثم مزيداً من السكر لتحضير القهوة كما يحبّ (هو) وليس كما تحب (هي)، فالزواج يفرض عليها التنازل حتى عن مذاق قهوتها التي اعتادت عليها بلا سكر، لتتبنّى سياسة قهوته المفعمة بالسكر، بغية الانصهار في بوتقته ورأب الفجوة بينهما.

وضعت على منضدة صغيرة قهوتهما المشتركة وصحناً صغيراً من الفطائر المحلاة التي لم تحبّها يوماً، ولن تحبّها، ومع ذلك تشتريها لبيتهما المشترك.

جذبَها إليه بقوّة ليجلسها بحضنه، لن تستطيع الفكاك هذه المرّة، والجسدان صارا ككتلةٍ واحدة، التحما وتلاصقا ولم يترك بينهما فراغاً، فأين الفجوات التي كانت تتحدّث عنها؟

التقط واحدةً من الفطائر الصغيرة، وناولَها، رغم أنه يعرف بأنها لا تحبّها، فتمنّعت، لكنّه دفعها في فمها بعنادٍ حتى ثبّتتها بين أسنانها، فلا شهية لها لابتلاعها ولا قدرة لها على رفضها، ثم أطبق شفتيه على فمها ليغلقه، وأحسّت بلسانه يدفع تلك الفطيرة إلى شدقها، ولم يبق لها إلا أن تقرضها بأسنانها، وتسحب أنفاساً من أنفها، وتحاول البلع كي لا تختنق.

تراجع عنها ليترعها برشفة من قهوتهما الساخنة، وتركها تمضغ بصمت المستكين الخاضع حتى لسيطرة الطعام المشترك.

لم تشأ أن تنظر في وجهه بل تركت عيونَها مُغمَضة، كستارةٍ مُسدَلة على مسرحية قد تبدأ بأية لحظة.
عندما فتحت عيونها وقد انتهت من ابتلاع فطيرتها على مضض، رأت أنها ابتلعت أيضاً مع فطيرته بعضاً من لعابه وكثيراً من أنفاسه، ورأت وجهَه مخيّماً على وجهها ولا وجه سواه، إنه (هو ) سماؤها وضبابها وغيومها وبرقها ورعدها، ومطرها الذي انهمرَ رذاذاً يروي تربتها، ولا مطر من غيره.

وكانت دقائق ثقيلة يتمّ فيها رأب الفجوة كما يفهمها (هو )، وتتسع فيها تلك الفجوة كما تفهمها (هي).

وقال عندما كان يشعل سيجارة أخرى ليحرقها:

 وهكذا انتهينا من رأب الفجوة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى