الأحد ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠
بقلم سوسن الشريف

رائحة المطر

سماح أول من دخل الغرفة، نظرت إلى كوب الشاي في يدي، يتراقص فوقه الدخان، يزيد من الشعور بدفء المكان. سألتها إن كانت ترغب في بعضٍ منه، أو أي مشروب ساخن، فدرجة الحرارة من أمس منخفضة للغاية، والبرد شديد. أجابتني بسؤال "بتحبي الشتا والمطر؟"، اومأت بالإيجاب، مندهشة من رغبتها غير الإعتيادية في الحديث، فهي أغلب الوقت صامتة، نادرًا ما تشارك في الحوارات الجماعية مع قريناتها، سألتها نفس السؤال، وما أن همت بالإجابة، دخلت باقي الفتيات، وبدأنا جلسة العلاج النفسي الجماعي.

سماح في الرابعة عشر، ذات جسد ضخم، وطول فارع، مما يضيف سنوات إلى عمرها.
ظلت صامتة كالعادة إلا أن نظراتها كانت تتنقل ما بين كوب الشاي الساخن، وفتاة أخرى ذات طبع هادئ، تشاركها صفة الصمت، وعند توجيه الحديث إليها، تجيب بكلمات قليلة وابتسامة تحاكي ضآلة جسدها. فاطمة في الثانية عشر، بخلاف سماح، صغر حجمها، يختصر من عمرها ثلاث سنوات على الأقل، من أكثر الفتيات التزامًا وإصرارًا على حضور الجلسات، رغم ضعف مشاركتها. اليوم ثمة حديث صامت بين سماح وفاطمة، الجو يشوبه كثير من التوتر.

لاحظت آثار لكدمات حول عين وبوجه سماح، وتسير ببعض العرج، كأن قدمها مصابة، سألتها عن هذه العلامات، وذلك الرباط الملفوف حول ذراعها، قالت أنها سقطت أمس من الحافلة. انتهت الجلسة، وانصرفت الفتيات إلا فاطمة، حيث طلبت منها المكوث، وسألتها عن سماح، فأجابت نفس الإجابة، محتفظة بهدوئها ورصانتها.

سمعنا صوت المطر وقد زادت حدته، فوجدتها تبتسم بسعادة، سألتها "بتحبي المطر؟"، ردت بالإيجاب، وبأنه أسعد لحظاتها، ورائحة المطر في حد ذاتها، تمحو من ذاكرتها كل الهموم، وتبشرها برزق قريب. سألتها "رغم البرد والحياة في الشارع بلا مأوى، وخصوصًا في الليل؟"، ردت بيأس وغصة في حلقها بأن المطر يمحي أيام التعب والحياة في الشارع، وأن المؤسسة تساعدها وباقي الفتيات بإيوائهن طوال اليوم، وقد تعودن على تحمل الليل وإيجاد حلول ولو مؤقتة لتجنب المشاكل، فلا توجد لديهن كثير من الخيارات.

نادت المشرفة الاجتماعية على فاطمة للبدء في البرنامج التأهيلي اليومي، استأذنت للخروج بتهذيب، راقبت هذا الجسد الضعيف يبتعد شيئًا فشيئًا، تذوب في ضوء النهار كفراشة رقيقة، لو لم يقسو عليها الأهل، وتهرب منهم إلى الشارع، كان لابد أن تكون في المدرسة الآن. رأيت سماح تسير بصعوبة، ويبدو عليها آثار إجهاد ومرض، طلبت منها الدخول إلى المكتب للتحدث قليلًا، بدت رافضة، وكانت تتلفت حولها مذعورة بشدة، أخيرًا بعد كثير من الحجج للتملص من الحوار جلسنا سويًا.

بعد مقاومة ومراوغة طلبت سماح أن نغلق الباب لتخبرني بحقيقة إصاباتها وذعرها، أخذت عليّ تعهدات ووعود بعدم تكرار ما ستقوله لأحد وبخاصة العاملين بالمؤسسة وزميلاتها. بصوت مرتجف تزامن معه زخات من المطر تتخللها حبات من الثلج تدق على النافذة، أخبرتني أن هذه آثار ضرب من ليلة أمس، تناولت رشفة من الشاي بالحليب الساخن أمامها، وبدأت تتحدث وهي تبكي، وتردد "أنا أكره المطر، أكره المطر ورائحته وكل ما يجلبه..".

كل ليلة ممطرة تعني الحاجة للدفء، وما أكثر دفئًا من جسد غض، لفتاة ممتلئة، ولو بشرتها بيضاء تكتمل الكارثة. الحياة في الشارع وبخاصة ليلًا يعني جسد مباح أمام العابرين، البريء منهم وذوي الإجرام، فالأول يرغب في التجربة بثمن بخس، وأحيانًا بلا ثمن، والثاني يقدمه هدية أو "تخليص حق"، أو مجاملة، عالم لا يخفى على أحد، يحكمه أصحاب النفوذ والقوة من عصابات الشارع. أمس كانت ليلة باردة، وكانت سماح متعبة أشد التعب، إلى أن زاد الطلب على الدفء، والغوص لدقائق في كومة طرية من اللحم، بينما راح النوم يثقل أجفان ذبلت مبكرًا فإذا بيد حادة الأصابع تلكزنها بشدة، "قومي عندك شغل"، لم تفلح توسلاتها، ودموعها للرفض، فقررت التمرد، وإذا بالضرب ينهال على جسدها الغض بعصا غليظة من كل جانب. حاولت الهرب، هرعت نحو سيارة شرطة تقف بجوار موقف الميكروباص، استنجدت بهم، فإذا بأمين الشرطة يسلمها لتلك اليد بصحبة العصا، وقبل استكمال مهمة التأديب، أعلنت سماح الاستسلام. في نهاية الليل، قذفت نفس اليد بعشرة جنيهات في وجهها قائلة: "مش باكل عرق حد، كل واحد دفع عشرة جنيه، انتي النص وأنا النص".

مصدر الحماية الأوحد في هذا المشهد، يقود الصفقة بنجاح، لما يفوز به من أجساد صغيرة، يتذوق حلاوة براءتها، ومن يرفض هدايا طازجة، ويصير حاميها وحارسها، ينتظر بفارغ الصبر مكافآته غير المتوقعة، حسب ما تجود به البيوت على الشارع.
ثمة رائحة أخرى للمطر، يملأها الخوف والأجساد الغارقة في وحل من خمر وسجائر رخيصة، مثل الأجساد التي تستلب منها الدفء.

شردت ببصري إلى ما وراء زجاج النافذة، رأيت تجمع لفتيات صغيرات، خرجن حديثًا إلى الشارع، يلتففن حول فاطمة، تتحدث إليهن بحب وود، وتوزع الحلوى.

وبيدها الأخرى عصا غليظة ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى