الأربعاء ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم يونس أحمد عفنان

رباعيات عُمر المحموم

  من أين اشتريت هذا الهاتف الذي لا يميز بين الأرقام؟
  من (الدقة للاتصالات).
  وهذا الكمبيوتر الغبي؟
  من (الذكاء الرقمي).
  وهذا الباب الرديء؟
  من (المهرة العرب).
  وهذه الوسادة غير المريحة؟
  من (فراش النعيم).
  وهذا الكرسي المغشوش؟
  من (معرض الأمانة).
  و هذه السجادة السيئة؟
  من (ملك العجمي للمفروشات).
  وهذا البن الترابي؟
  من (المذاق الأصيل).
  وهذه الموالح العفنة؟
  من (مكسرات الطازجة).
  وهذه البجامة المسببة للأرق؟
  من (قطنيات الأحلام السعيدة).
  وهذه... وتلك...؟
  من (الرشاقة والإتقان والصداقة والنبلاء والأمراء والمحترفون والبلسم الشافي والمطبخ الساحر)، ثم لا شئ مما ذكر من صفات ينطبق على أي منعوت في منزلي!.
  فمن أين لك بهذا الشعب الأّفاق المنافق أيها الوطن المثقوب؟
  من جوارير المخابرات والأمن القومي.
  ومن أين لك بهذا الوطن أيها الشعب الغربال؟
  من الله، الذي لا يحمد على مكروه سواه!.

* * * * * *
و بينما ركبي تتثاءب، وخيالي يتثاءب، ودمي يتثاءب، وحزني يتثاءب، وكلماتي وحبري ودفاتري... أجدني مصرا على عدم النوم، فما من شئ بانتظاري في فراشي غير الوثير الإ الكوابيس، كما أن هناك أشياء علىّ تنفيذها وبالسرعة القصوى، رغم أنني لا أعرف ما هي؟ وكيف يمكن تنفيذها؟ لكنها أشياء لها علاقة بالقتل والحب والموت والانتظار.
ولما كانت أفكاري ترتطم ببعضها البعض وهي تتدافع بحثا عن مخرج ما من دهاليز دماغي، كما نتدافع عادة قبيل الخروج من وظائفنا

فقد رحت أفكر في يأس:

هل أصعد بالوحل إلى الثقافة أم أنزل بالثقافة إلى الوحل؟

وكيف يمكن جعل المواطنين العرب، اللذين هم في سوادهم الأعظم من خريجي مدارس وجامعات الوحل يقرءون، ثم يستفيدون مما قرءوا في حياتهم اليومية المقيتة؟ ثم هل يمكن تعلم الصدق، واحترام الشجر والحجر والإنسان بالقراءة والكتابة؟ بل هل يمكن لمن لا يحس باحترام أي شئ له أن يحترم أي شئ بالمقابل؟

وكيف يمكن أن أناضل من أجل فلسطين؟ ضد اليهود وأمريكا وديك تشيني وبقية القوادين؟

ويتثاءب أمامي النضال والمناضلون وأدوات النضال، حتى ليخيل أليّ أن اليهود يقتلون أطفالنا وهم يتثاءبون.

هل أنتمي إلي حزب؟ أعوذ بالله، فالأحزاب المسموح بها في أية دولة عربية تؤدي إلى مبنى المخابرات في الدولة العربية المجاورة! أما في بلدها الأم فتؤدي إلى غرفة الإنعاش.

وتتثاءب أمامي الأحزاب والحزبيون، وحتى اللافتات فوق المباني الحزبية أراها تتثاءب ليل نهار هي وشعارها ومبادئها.

أذا ماذا أفعل في هذا الليل العربي؟ هل أبدأ بتعلم العزف على الربابة؟ أم أربط حول خصري حزاما ناسفا وافجر نفسي وأنا أحتضن الصحراء وكل اتفاقات ومعاهدات السلام؟

سأكتب الشعر الموزون. ولكن (فاعلاتن) تشيح بوجهها عني، و(مستفعلن) تمد لسانها ساخرة مني، و(متفاعلن) ترفض أن تنام الإ مع أبو الطيب المتنبي، والبحر الطويل هاجر إلى كندا، والمديد مشغول بالدعاء لأمير المؤمنين بالعمر المديد، والمتدارك أدركه الخرف...

أذا، نم تحت سماء بلا نجوم، أيها البدويّ الذي لم يبقى له من بداوته الأّ السراب.

******

وبينما هم يقصفون غزة، والشعوب العربية تناضل للخروج من المصحات العقلية، اقصف أنا مستقبلي وحاضري وتاريخي بالبصاق، وأخرج - صافقا الباب ورائي- من كل شئ:

من الحب والشرف والوفاء والأوطان والأحلام وقانون الجاذبية والشعر والصبر والفرح والأعياد، ومن أسمي وعائلتي ووجهي وجنسيتي وتبغي وأدويتي وهندستي ورجولتي وفحولتي وحنيني وشوقي لأي شئ، ودون أعرف إلى أين، المهم أن أغادر هذه الصداع المزمن ولو إلى جهنم.

على أية حال، (ٍاقضي عليك)، في الحلقة القادمة.. عندما أمسك بيدي لجام الريح، وأركبها كالدابة، أيها القمل الذي يتكاثر في ذاكرتي وفوق أرصفتي وتحت جلدي وشرفتي، وفي ثنايا كآبتي وشجوني.

أيها العابرون بين أوابد الانتصارات كالتائهين، من أنتم؟ :

سائقي سيارات الأجرة يشتمون سائقي الحافلات العمومية، وسائقي الحافلات العمومية يشتمون سائقي سيارات الأجرة، والركاب يترحمون على أيام الدواب.

المعارضة تشم الموالاة والموالاة تشتم المعارضة، والشعب يهذي في حمّاه عن الخبز والقمل والأدوية وأرداف العذارى.

النقاد يشتمون الشعراء والكتاب، والشعراء والكتاب يشتمون النقاد، والقراء يتثاءبون فوق الكلمات المتقاطعة.

بائعي المفرق يشتمون بائعي الجملة، والمشترون يبحثون عن هدنة مع الرصاص.

اليسار يشتم اليمين واليمين يشتم اليسار، والأبطال يتدافعون كالقيء على أفلام الخلاعة وحبوب المهدئات.

المعلمون يشتمون الطلاب والطلاب يشتمون المعلمين، وأجيال كاملة تبحث عن جملة مفيدة.

ثم الذي على يمين فيصل القاسم يصرخ ويرغي ويزبد في وجه الذي على شماله، والذي على شماله يصرخ ويرغي ويزبد في وجه الذي على يمنه، والمشاهد يركض كالعداء لعله يفهم شيئا من كوميديا الحضيض أو حضيض الكوميديا.

وبما أنني أكره السائقين والمعارضة والموالاة والنقاد والشعراء والباعة والمعلمين والطلاب والأعلام المسموع والمرئي والمقروء، فماذا أفعل في هذا الليل العربي؟ هل أبدأ بتعلم التطريز؟ أم أربط حول خصري منديلا وأبدأ بالرقص حول جثة الكوكب؟

لا ، فبعد أن أمتشق جورج بوش سيفه أمام الكاميرات والبكارة العربية الدامية، أريد أعادة صياغة كل شئ من جديد... بحيث أجعل سندريلا تهرب من بيت خالتها لتعمل عاهرة ثم لا يتزوجها أمير بل قّواد، وأجعل الذئب يأكل ليلى وجدتها وكل سكان القرية اللعينة، وأجعل شهريار يقتل... ما أسمها تلك العاهرة؟ المهم يقتلها من أول ليلة، وأجعل الشاطر حسن "المعتوه" بدل الشاطر، و"عمي منصور النجار" اسكافي لا نجار، والسيف منافق كاذب لا " أصدق أنباء من الكتب "، و" التينة الحمقاء " أذكى تينة عرفها التاريخ، وعندما أصل إلى قبر الحجاج الثقفي سأقف بإجلال، وأدعوا له بالجنة وأنا أبحث في التراب عن حذائه لأحتضنه وأستلقي منهكا فوق رمال الصحراء لبعض الوقت قبل أن أتابع سيري نحو المتنبي، لأقنعه بالكتابة عن الذل لا الكبرياء، وعن البترول واللواط لا عن المعارك، بل لعلي أقنعه بالانتحار قبل أن يقول قافيته الأولى أو قبل أن يقول:

" الخيل والليل والبيداء تعرفني و السيف والرمح والبيداء والقلم "

وذلك قبل أن يسخن دماغ كبير رعاة البقر في البيت الأبيض، فيلقيه على مسامعنا ومسامع الشعب الأمريكي في خطابه الأسبوعي أو في أحدى زياراته لواحدة من مزارعه في الشرق الأوسط.

ثم أتابع نحو " باسم ورباب " بحيث أجعل رباب رقاصة وباسم طبال، ثم نحو علاء الدين لأجعل لحمه عشاء للأربعين حرامي.

باختصار سأقلب كل شئ رأسا على عقب لتستفيق هذه الأمة على وجع خازوق تاريخي يخرج من منتصف مخيخها إلى عنان السماء كالصاروخ، وخلايا دماغها وذاكرتها وفولكلورها تتطاير في سماء الشرق كالألعاب النارية.

* * * * * *

وبينما أنا أتسكع في أرجاء المنزل، تعثرت بزوجتي النائمة، فأيقظتها قاطعا أحلامها السعيدة وقلت لها أسمعيني دون مقاطعة:

ربما أطلقك غدا أو بعد غد، وعلى حين غرة وبدون مقدمات، ونحن نتناول إفطارنا أو غدائنا بهدوء، أو ونحن نتابع مسلسل (رأفت الهجان) أو حلقة من حلقات (توم وجيري)، فأنا أمر بأخطر مرحلة من مراحل خرفي، إذ أنني:

أخرج في الصباح وأنا مقتنع بأن التغيير يبدأ من الأسفل، ثم أعود في المساء وأنا متيقن بأن التغيير محال أن يكون الإ من أعلى.

و أخرج وأنا مع منظمة فتح وأعود وأنا مع حركة حماس، ثم أقتنع بأن من الأفضل أن أكون مع محفظة نقودي مهما كانت الظروف.

أخرج وأنا أتخيل كيف سأغتال (أولمرت) وأعود وأنا أفكر بقتل عمي الأكبر (أبو محمود).

أخرج مهندسا وأعود (ماسح أحذية).

اشتراكيا، وأعود رأسماليا.

محبا للربيع والحياة، وأعود ودم البراعم يقطر من أنيابي، وبقايا عروق الحياة بين أسناني.

كما أنني أندهش كثيرا عندما لا يفهمني أحد، ثم لا البث أن أكتشف أنني أخلط رمضان بشعبان - كما يقال -

على الرغم أنني في النهاية أدرك أن هناك علاقة وثيقة بين رمضان وشعبان، وبينهما وبين دوران القمر، فلماذا يبدو الأمر معقدا حين أتحدث عن ثلاثتهم في وقت واحد؟ ثم هناك مشكلة ثانية في حياتي غير الأولى، التي هي أنني أجعل المشاكل العامة خاصة والخاصة عامة، وهي أنني:

أب ولا يفهمني الآباء، فقير ولا يفهمني الفقراء، جبان ولا يفهمني الجبناء، غريب ولا يفهمني الغرباء، مهندس ولا يفهمني المهندسون، ثائر ولا يفهمني الثائرون، تائه ولا يفهمني التائهون، منحرف ولا يفهمني المنحرفون، مفصوم فكريا ونفسيا ولا يفهمني المفصمون.

المهم، أنني كما ترين زئبقي بشكل لا يطاق، أحب الشيء وأكرهه في نفس الوقت، وأنني كلما نظرت أليك أنت وطفليّ وأنتم نيام في عتمة الليل، أكاد أذهب من فوري لمبنى المخابرات المركزية لأقبل حديد البوابات وبنادق الحراس وأيدهم وأرجلهم ولباسهم العسكري، ورتب الضباط ونجومهم ومكاتبهم، وأشكرهم والدموع تفيض من عيوني كالشلالات، ثم عندما تشرق الشمس أحمد الله أنني لم أفعل!.

هل تصدقين أنني أريد عشرات المتناقضات في ذات اللحظة؟

أريد الموت شهيدا، وأريد النوم مع دزينة من العاهرات.

أن أصبح زعيما وأن أنام في عرض الطريق على ورق الجرائد.

أن أسترجع فلسطين وأفقد بقية الشرق.... وقاطعتني زوجتي ناهرة: ( روح اكتب روح، روح فاضي لحالك!.)
و ذهبت لأكتب.

* * * * * *

بماذا أكتب وعلى ماذا؟

بالحبر؟، بالرصاص؟، بالأحذية؟، بالدم؟، بسائل الجلي؟.

على الورق؟، على أكياس القمامة؟، على ثيابي الداخلية؟، على خرق المسح؟، على فوط طفلتي؟، أي من هذه الأشياء يليق أكثر بهذه المرحلة؟

مها يكن فها أنا أكتب، برداءتي اللغوية وأخطائي النحوية وبكل ما أوتيت من قوة سأكتب، فوق غبار المرايا وسعال الليل:

وانحنت الأعشاب لتمر العاصفة، وبعد أن مرت العاصفة ضلت الأعشاب الغبية منحنية!.

وانحنت السنبلة الممتلئة، وظلت الفارغة رافعة رأسها، غير أن التي انحنت قبلت - صدفة - حذاء يهوديا!.

وانحنى الربيع، ثم انحنى الخريف والشتاء والصيف فوق النهود والنقود وأساليب الشهرة بأي شكل وبأي ثمن، وهكذا أصبح الجميع مشغولا في زمن الفراغ، ومسرعا في عصر المهمات التافهة، وبما أنني أعيش بلا مهمة تذكر، -لا كبيرة ولا صغيرة- فأنني أصبحت أعيش متمهلا لا ألوي على شيء؛ يداي في جيبيّ وقدماي في الشوارع، أشخر وأشتم وأتأمل ولا أترك شيئا أو أحدا بحاله، حتى غبار الطلع لم يسلم من فضولي ولساني وتحقيقي؛ من أين وإلى أين؟ ذكر أم أنثى؟ صورة أم نقش؟ بنكهة الفراولة أم العلقم؟ بعد 48 أم 67؟...

ولكنني رغم بلاهتي وبلادتي وكسلي، تمكنت من تحقيق بعض الظواهر غير الطبيعية؛ حيث صادقت الغبار، حتى صار يأخذ رأيي في أموره الشخصية، وباح لي بهمومه، وشرح لي لماذا يحب الطبقة الكادحة، التي تبتلعه وتتركه على أهدابها ونوافذها ورفوفها وذكرياتها، بل وتعتبره من أهل البيت، لأن العتيق الذي تفوح منه رائحة الغبار، هو الأصلي، حتى الصديق يجب أن يكون مغبرا لكي يكون صديق العمر.

ثم كيف أرهقه البرجوازيون، إذ أن أنتاج المنظفات والخدم والمدراء العامين في العالم أكثر من أنتاج القمح ، وبالتالي فأنه ( لا يتغبّر فيهم شيء الأ نفوسهم، وهذه ليست من صلاحياته بل من صلاحيات الحضارة).

كما تمكنت من فهم معادلات الصدفة، فلم يعد يسقط على رأسي فوطة أو عقب سيجارة أو سطل ماء أو بصقه أو واقي ذكري من النوافذ العالية وأنا أخترق شرايين هذا الشعب " المحترم ".

و حفظت عن ظهر قلب بنود العادة الشهرية للسنة العربية:

 بناء مستوطنة غرب النهر، وبناء خمارة ومسجد وزنزانة، شرقه أو شماله أو جنوبه أو فوقه أو تحته.
 اجتياح إسرائيلي لمخيم أو قرية، واجتياح عاهرة لقلوب الجماهير.
 ولادة مستوطنة، وولادة جريدة ومغني وفضائية.
 صناعة دبابة صهيونية متطورة، وصياغة مشروع قرار لسلة المهملات.
 ثم: هاتف نقال خارق، غسالة ذكية، بنك وأقساط مريحة، أقساط مريحة مع بيع أرض أو عقار، جامعة افتراضية وجامعة وهمية وجامعة كارثية، " دبكة " وافتتاح مطعم أو عذراء.

******
و أخيرا، وبينما أنا أستعد " لغيبوبة النوم " داهمني ناقد من الدرجة الأولى، كفاتورة قبيل نهاية الشهر، وقال لي: قبحك الله أنت وهذه اللغة التي تكتب بها!..

  صحيح، من أين لي بهذه اللغة؟
 خطأ وراثي، كبقيتي من الألف إلى الياء، وذلك جراء هيروشيما الخبز ونغازاكي الرعب.

كما أنني لا أكتب بل أبكي، ودموع التائهين لا عقل لديها لتفهم الشروط المسبقة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى