الثلاثاء ٣ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم هبة عليوة

رجل من صمت

ليت قلبي هذا يصفو فتكون لي في كل لحظة صلاة، وفي كل ساعة دهر تأمل، ليتني أستقيل من فكر يغربني وأخون في تحرر جرحا أحب، كم وهما ساحرا يزين الرغبة، لكنني إنسان تعلم كيف يحذرها، وكثيرا ما يزهد فيها، وها أنا اليوم أقف راغبا، آملا منتظرا، أحاول الإقبال تحت ظل الموت...

أكرهه؟

لا، لست أنا الذي يملك فراغا هاجسيا يحتوي انحطاطا نرجسيا يقبل الكره جزءا منه، أنا الموعود بعدل الحياة وإن كنت لا أرى فيها أي شكل من أشكال القدرة أو القدسية، أنا أرى فقط أنني أستحقه كيفما كان وجهه ومصدره.

ومنيت نفسي رغم الشكوك، لا عائلة له، وكانت للقرية قاعدة تنص على أن ممتلكات الفقيد الوحيد تعود لأفقر فرد فيها، ودائما كنت الأفقر، لكنني لم أحصل يوما على شيء، لم أجرؤ حتى على انتظاره، أعلم أن الإنسان مولع بسن القوانين ليتخذها ذريعة تخدم مصالحه، ووسط عالم من نفاق يبدو قانون الغابة أصدق وأكثر منطقية، لا تحايل، لا مساومة، يقابل كل واحد الآخر بالوجه الوحيد الذي يملكه، ولا وجود لمواجهات على مسارح النخبة.

واليوم أقول: لم لا؟، ستصير لي مقطورة صغيرة أعمل فيها بتصليح الأحذية، أحتمي داخلها من المطر متأملا العراء يغتسل، يبكي، ينتشي، و أنا أمامه طائر صغير تقتله التنهيدة ليرتقي به الحلم، آه ما أجمل أن يدرك الغرور كنه القوة العظمى التي تملكه ويهواها، لكن أحدهم يدعي أن الفقيد أراد إعطاءه العربة قبل وفاته، وأنه كتب رسالة تنص بذلك خبأها بين أشيائه، وهاهم الآن يبحثون...

لست أراني غير محظوظ، ربما لست أوفر الناس حظا، لكنني حتما لست غير محظوظ أو بائس، لا يعرف البؤس من لا يخاف، من يجرؤ على الجنون، على الخطأ، من يؤمن أنه رغم عبثية الأفعال وفجور النية سينام ملئ أجفانه، ويستيقظ ليعيد الكرة بنفس النوايا، بذات الثقة، بقناعة عمياء يملكها كل من يؤمن أنه رغم الحياة سيتمكن من تغيير أقداره، بعقيدة الجريح، والجرح يهوى استيطان الكبار والولاء لأرقهم، فكيف أكون غير محظوظ؟، كيف يجد الخوف بداخلي مسكنا.

أنا رهين الاشتياق، أسير أخيلة اعتدت إقناع نفسي عن وعي بوجودها حتى لا أصاب بالجنون، متعب لحد العيش على أمل أن أستيقظ يوما دون أن أحس بالألم لفقدانها.

أجل، لهذا الحد أحببتها، لغاية الألم.

تعارفنا يوم كان كعبها عال، يهيم صاخبا عن تمرد لا عن وقاحة، عن عفوية، لا عن أنوثة مبتذلة، تزوجتها يوم كفت عن الطيران واستقرت، يوم تعبت وتنهدت، فقدتها يوم كانت حافية متسخة يائسة، سألتها عن الله حين أدركت نفسها الأخير، نظرت إلي كأنما لم تنظر وقالت:

 كم الإنسان مخلوق بسيط، ما الذي يعرفه بوعيه المحدود الساذج عن النعيم، ما الذي يحسه بغرائزه المكبوتة عن الجحيم، من يدري، أنا الآن في الحياة أغرق، وقد أرتقي ما بعدها مع ألسنة اللهب.

أقول لها اليوم أنني في الجحيم هنا ولست أراها، أقول لها أنها أصابت حيث ظن الجميع أنها تخطئ، فهنيئا لها النعيم حيثما كانت، هنيئا لها الأجنحة.

لا زلت واقفا تحت المطر، محاطا بنظرات الشفقة من الجميع، فكرت إن كانت المقطورة تستحق كل هذا، لا يزال البحث قائما وسط أكوام الخردة منذ ساعات، تملك وصايا الأموات قيمة أكثر من رغباتهم وهم أحياء، كأن هذا الإخلاص المتأخر طقس لطرد الشعور بالذنب لسنين اللامبالاة، كأن الموت يوقظ فينا فجأة الرغبة لكي نصغي، وأننا جميعا رغم الصخب الذي يحيطنا سنهدأ يوما، ونتساءل إن كان أحد ما يبحث عن هذا الصمت ويتأمل.

جاءني شاب من بعيد:

 مرحبا أيها العم، هل حذائي جاهز؟

 أجل، لكن هلا سمحت وانتظرت قليلا؟

 أكيد... أخبرني، من الميت؟

 هو جميعنا حين تمل الأرض منا، هو اللاأحد حين لا تبقى منه حتى الذكرى.

نظر إليه الفتى بفضول وإعجاب لم يروقا له فسارع كأنما يصحح مفهوما خاطئا عنه وقال:

 لست مثيرا للاهتمام، لست حتى ذكيا، أنا فقط شخص منح الكثير من الوقت ليفكر، ربما عن كرم، ربما عن ابتلاء...

أعلن أحد الرجال عن إيجاد الوصية رافعا الورقة التي لم يجف حبر كلماتها بعد لتتفرق الحشود، نظر إليها بازدراء واستدار للشاب قائلا:

 خذ حذاءك وحافظ عليه، فحتى الحياة اليوم تمشي حافية القدمين، وشكلها أبعد ما يكون عن الجمال والفتنة، ذلك أنها فقدت القدرة، فقدت القدسية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى