السبت ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم أحمد الخميسي

رحيل رمسيس لبيب

ثمة جوهرة نفسية وعقلية أساسية في كل منا، تجتمع حولها كل الصفات الأخرى، جوهرة كأنها النواة في الذرة، تدور حولها الخصال الأخرى. في شخص ما قد تكون تلك النواة هي القدرة على لتعاطف مع آلام الآخرين أو الشجاعة الواضحة في مواجهة الصعاب أو القدرة على التضحية بدون مقابل، أو أشياء أخرى سلبية. لكن تلك الجوهرة هي التي تحدد حسب اعتقادي كل شيء في حياة الإنسان من مولده إلي لحظة رحيله، وهي التي تستدعي إلي طريقه تلك المصادفات وليس غيرها، وتلك العلاقات وليس غيرها، لتضع في ختام الرحلة نقطة النهاية تلك، وليس نقطة أخرى. هذه الجوهرة هي ما يشغلني في كل إنسان ألتقي به فأتطلع إليه شاردا متسائلا: من يكون؟ وما الذي يشع من داخله؟ زجاج ملون أم معدن أصيل؟

وحين أستحضر الآن صورة الصديق الكاتب المناضل رمسيس لبيب الذي فارقنا منذ أيام أحاول أن أحدق في صميم روحه التي قربته إلي النفوس وجعلته عزيزا هكذا على أصدقائه ومحبيه. أكثر ما يذكرني به رمسيس لبيب هو المنشد، الذي يقف في الظل مع أفراد جوقة ضخمة بعيدا عن أضواء المنصة، تملؤه السعادة في الصفوف الخلفية لأن لحنا كبيرا وجميلا يسري في الجو ويسعد الناس، بغض النظر إن كان هو المغني أم مجرد مردد لمقطع صغير وسط الأصوات المتراكبة. كان اللحن – وليس وضعه الشخصي كمنشد - قضية رمسيس لبيب - اللحن والفرحة التي تمناها رمسيس لبيب للناس وهو واقف في الظل. ومع أن الراحل العزيز بدأ الكتابة الأدبية منذ عام 1969 بنشر قصصه القصيرة في مجلة الكاتب ، وجريدة المساء والجمهورية، ولم يتوقف عن العمل الأدبي، إلا أن شغله الشاغل في السنوات الأخيرة كان التأريخ للحركة اليسارية بجمع شهادات المشاركين فيها، وبجهد كبير تمكن مع حلمي شعراوي وآخرين من إصدار نحو ستة كتب ضخمة تضم شهادات حية لمن ساهموا في خلق التيار اليساري، ثم عكف على إصدار كتاب عن دور اليسار المصري في الأدب والفن، وظل يجمع مادته نحو عام كامل إلي أن خرج إلي النور. وقد انخرط رمسيس لبيب في العمل الوطني مبكرا، فتحمل وطأة السنوات المنهكة لمعتقل الواحات، والمطاردة، والحرمان من الأسرة، وحين غادر أسوار السجن لم يبدل صفته من "مناضل يساري" إلي "نشيط حقوق إنسان"، ولم يبدل رأسه، ولا عواطفه، ولا انتماءه إلي قضايا الشعب المصري جملة وتفصيلا. وعاش حياته كلها دون أن يشغل منصبا حكوميا، أو حتى موقعا بارزا في صفوف المعارضة الرسمية ، واقتصر دوره على جمع حكايات السفينة الغارقة، حكايات اليسار وأساطير البطولة التي عبدت مع غيرها الطريق إلي ثورة 1952. وكان مسكنه بالقرب مني في مدينة نصر يتيح لي أن أزوره كلما دعاني، فأجلس معه ومع زوجته الفاضلة في بيته فلا أسمع منه كلمة تنم عن مرارة، أو كراهية لأحد، لا شيء سوى تلك النظرة المهذبة الممتلئة بالاحتفاء بالحياة، وبمشروعات عديدة لاستكمال تأريخ الحركة اليسارية ومخطوطات لروايات وقصص. وكنت أسعد بجلوسي في جو نقي لا تسري فيه بغضاء أو نميمة أو حسد مع شخص نبيل يشع بجوهرة من إنكار الذات. نشر رمسيس لبيب أولي مجموعاته القصصية "الحب فوق مستطيل الضوء الشاحب" عام 1972، وكتب في مقدمتها أنه يرى الكتابة رحلة اقتحام لهموم ومشكلات وأشواق الإنسان في وطن الكاتب وعصره، وأن على الكاتب أن ينحاز إلي القوى التي يكون في انتصارها انتصار للإنسان. وواصل رمسيس لبيب الإبداع الأدبي دون توقف، وقد يجد البعض أن الكثير من قصصه ورواياته تندرج في باب الواقعية التقليدية، إلا أن تعدد مستويات تطور المجتمع المصري وتنوع قضاياه ما زال يسمح في اعتقادي لكل ألوان التعبير الأدبي بالوجود والتأثير.

رحل الصديق الذي نفر من دور المغني وعشق الأغنية، ونفر من دور البطل وعشق البطولة، ونفر من دور النجم الساطع وعشق النور حتى النهاية. تحية لروحه، ولأبناء جيله العظام الذين اصطفوا كالأشرعة المرفرفة عند الوداع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى