الاثنين ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٤
بقلم نجمة خليل حبيب

رعشة الغياب في ديوان "أطلس الغبار" للشاعر محمد حلمي ريشة

للوهلة الاولى تبدو قصائد "أطلس الغبار" رحلة في الذات الشاعرة تحاور هما وقلقا شخصيين, تسائل على طريقة "كيرغارد" عبثية الوجود ولاجدواه، أو لعلّها أقرب الى منتمي "كولن ولسن" المأزوم الغاضب الذي أحبطه ضياع القيم فوقف حائراً يحاور ما يمكن أن يملأ الحياة بالمعنى. منذ القصيدة الاولى تطل علينا الذات الكاتبة متوترة محمومة مسكونة بهاجس الوصول الى شيء : حقيقة, معرفة, حرية, مبتغى مادي ربما، إلا انها معوَّقة عن هدفها بما يشبه مناخات شيخ همنغواي والبحر، او مأزق كامو مع إلهه سيزيف، فسعيها مضن وشبه عبثي يشترك الداخلي والخارجي في إرباكه : كمائن من صنع الذات يمثلها التوتر الذي تعيشه الشخصية في خوفها من عطالة زاحفة هي اقتحام الشيخوخة، والشعور بالعجز وعدم القدرة على مواجهة طريق على هذه الدرجة من الصعوبة، وأخرى من صنع القدر المتمثل بالأمان الممعدن والرياح [ال]لواقح للخلف. رغم صعوبة المواجهة تنحو لغة النص منحىً تصادمياًً يصِّر من خلالها الشاعر على الصراع حتى ولو كان لامتكافئا وتراجيدياّ ، يصر على مواجهة تلال متشاهقة من العقم والجهل والعنف بحلبة ضعيفة من الخصب، فهو لا زال يأمل في أن يوهب قوة كامنة ك"قوة حليب الزهرة وغناء من تراب الحصى وصدأ مباركاً". وهولا زال يؤمن أن باستطاعته، بما ملكت يمينه من العطاء الاخضر وما ملكت يساره من طهر الملح، أن ينتصر على الارباكات التي يحدثها القدر المتربص المتمثل بالقادمين داخل حصان طرواده، يرفد أيمانه هذا ما ينتظره على الضفة الاخرى من عون وحافز على الصراع: إمرأة مملؤة بالخصب والحب والاصرار على الصراع, إمرأة "تربي أزهار الكستناء باهدابها وتخبيء شمع الياقوت لحصار لا يندمل"

وإذ نعلم أن الشاعر فلسطيني، نعلم أن وراء هذه الانا الذاتية أخرى جمعية ذات خاصية فلسطينية، وما درب الذات اللزجة الشائكة إلا درب الجماعة المتماهية بالفرد، إذ ما الذي يمنع أن تكون كل تلك "الخسارات المبرمجة" خسارات القضية ؟!. . بل إن لفظة "مبرمجة" بحد ذاتها، تحيل الى كل الاخفاقات التي لحقت بالقضية منذ انطلاقتها الاولى الى اتفاقات اوسلو مرورا بعمان وبيروت والبقاع وطرابلس وتونس، وما الذي يمنع أن تكون تلك المنتظرة "تُ قَ سِّ مُ عجين الوقت الى خبز ساعات" من أن تكون الحبيبة المسبية فلسطين المنتظرة عودة فارسها أميرها ليخلصها من أشداق الغول؟. ومن هي تلك التي تبتعد مائدتها عن تقوس فمه؟ إن لم تكن فلسطين القريبة البعيدة؟ ولماذا هذا القرب من فداحة الندم؟!... أليس صعود الشاعر الذي لا رونق له كمثل صعود القضية الذي حققه صمود وإصرار أبنائها والذي لا يزال صعودا لا رونق له لانه لم يصل الى غايته بعد ؟!. . . إنتظار، خسارات, ندم، صعود دون رونق، صور ترعش بالغياب الذي اراده الشاعر أطلساً للغبار. ولعل أكثر ما يحيل على هذا التماهي، نهاية القصيدة التي تتخلى فجأة عن غيابها وتستفيق معلنة أن هذه الخسارات ليست "كلها لي"

سَيَكُونُ وَقتٌ في ضَرَاعَةِ الدَّمِ
كَي أُسبِلَ يَاقَةَ اللَّيلِ عَلَى
جَيْبِهِ صَبَاحاً ..
سَيَكُونُ وَحْشٌ دَاخِلَ مِنفَضَةِ تَعَبي ..
أَيَّتُها العَتمَةُ بِحَرَاشِفِ قُطَّاعِ الطُّرُقِ
ولُصُوصِ الأَوسِمَة :
لَيسَ كُلُّكِ ... لِي !

وإن كانت قصيدة الكمائن نموذجا إلا انها ليست الاستثناء فمثلها قصيدة "الفقد" و "الشائك" و "السُّعَاة" وغيرها. ففي قصيدة الفقد مثلا يتماهى الذاتي بالجمعي في طواعية رائقة لا يعكر صفوها افتعال أو إقحام على الصورة الشعرية عندما تمتزج المناسبة الشخصية، لقاء حبيبة ربما (تقويم البنفسج ) لحظة شخصية حاسمة (ذاكرة اللهب)، بأخرى تعني الجماعة: أحداث الحادي عشر من ايلول.

أَتَحَسَّسُ 18/9 في تَقوِيمِ البَنَفسَج
لَيسَ بَعِيدَاً 24/12 عَن ذَاكِرَة اللَّهَب
وَلَيسَ أَبعَد مِنهُ 9/11
الخُرَافَةُ أَنَّنَا نَتَأَخَّرُ في استِبَاحَةِ الصُّدفَة !

هكذا هي دائما النفس الشاعرة، تتحسس ألم الكل ألمها وفرحها الشخصيّ لا يستقيم إلا بمشاركة الكل.

لا يعني هذا أن الديوان خلو من الوطنيّ الصرف، بل هو هناك ولكنه لا يعتمد قيم المشافهة، فلا نزعة توصيلية مباشرة, ولا خطابية, ولا تسرب للايدولوجي والسياسي.

صَبَاحاً
تَذهَبُ
العَصَافيرُ
إلَى مَدَارِسِهَا
والتَّلامِيذُ
إلَى
جَنَّةِ
الخُلْد !

هذه الكلمات القليلة التي تؤلف قصيدة بعنوان "الانتفاضة" هي نموذج لما قاله الشاعر في الشعر الوطني المباشر والتي لا تحتاج الى تفصيل لتبيان قيمتها إلابداعية حيث يشترك المتخيل والمرئي في تقديم نص مفتوح مكثف بالدلالات يحاور ولا يرواح

أما في قصيدة التاسع والتي تتميز عن باقي المجموعة بلهجتها العالية منذ البداية، ( معظم قصائد الديوان تبدأ لاهجة بالغياب ثم لا تلبث أن تعلو عند اكتمال الصورة) ينجح الشاعر في نقل النبض الجمعي بكل ما فيه من ذهول ومرارة وخيبة إزاء سقوط بغداد. إنه نص منكسر بكل ما في الانكسار من ألم الخيبة، كما انه يمتاز برموزه التي تحيل، دون إعمال جهد, الى الموضوع: النهرين....النخيل والبشر....كنزه الاثير سيسرق...نولي الادبار ....البعد التاسع (إشارة الى التاسع من نيسان يوم سقوط بغداد).

كما أنّ هذا لا يعني خلو الديوان من الذاتي البحت، بل أن هنالك مواقف ورؤى تحدد فلسفة الشاعر في الحياة وأخرى تحكي معاناته. ولعل أبرزها دلالة على هذا المنحى قصيدة "المُذْبِحَة" التي تحكي عملية الخلق الابداعي، طقوس سفر تكوين القصيدة، إذا صحّ التعبير، بكل ما في هذه الطقوس من معاناة حمل ووحام ومخاض وانفصال سُريّ وفطام. وتتجلى موهبة الكاتب في قدرته على نقل معاناته بلغة شعرية مكثفة متجددة بكل ما في هذه المعاناة من تفاصيل منذ الاشتهاء الاول حتى مرحلة النضج والانفصال. فإذا ما في الشاعر كمثل ما في الحلول الصوفي يستشعر من ألم الوجد ما يستشعره المريد ساعة الحلول. فالقصيدة مهرة فوق تنامي سهل الصدر وما يحضنه من قلب تواق لعيونها، وهي أميرة الوقت والانثى التي تختصر الشهوات وهو العاشق المنتظر هتاف القلب القادم فيها، يدخل فيها وتدخل فيه، ارتبط واحدهما بالاخر ارتباط الجنين بحبله السريُّ. وإذ يحصل الحمل تنتاب الشاعر أعراض الوحام بكل ما فيه من دوار ونزق وقلق واشتهاء للشاذ ونفور من الطبيعي, وبعد اشتهاء وحمل ووحم ومخاض عسير يأتي الانفصال، اللحظة الحاسمة التي يُظْهِرُ فيها الشاعر وليده للنور متوجسا عما سيؤول اليه امر استقباله، ينتابه ما ينتاب الامهات الحوامل من قلق وتوتر حول حالة الجنين قبل اختراع "الالترا صاوند": أهو معجزة ، لا قد يكون وردة ، قد يكون طائراً ، قد يصير صوتاً، فالامر متروك لحاضنة تسهر عليه وترعاه او تنبذه وتتنكر له وهنا الوجع الاصعب.

وفي قصيدة الفلة يقف الشاعر، إن لم يخنّي حدسي، وقفة تأمل وتأبين حيال غياب الشاعرة فدوى طوقان.
في هذه القصيدة بالذات تسير العبارة سلسة على سجيتها لا تحتاج الى كبير جهد لاستشفاف ما تريد قوله: نعلم بيسر أن المحدّث عنه امرأة شاعرة جاءت الى الدنيا رغم انف ناسها وقاومت رفضهم وتنكرهم باصرار حتى تمكنت من فكاك قيودها وانطلقت حنجرة مغردة تحقق ذاتها الانسانية والشاعرة
_ بِنَوافِذ عَالِيَةٍ عَلَى أَصَابِعِ العُيون
وارتِكَابُ العَائِلَةِ إِثمَ المَفَاتِيحِ المُصَاغَةِ
لِلضَّيَاعِ
وَغَيرُها كَثِيرٌ ، بَل وأَكثَرُ :
صَنَعُوا شَاعِرَةً دُونَ صَيفِ رِيشٍ وَطَيَرَانِ هَوَاءٍ

تبدو قصائد "أطلس الغبار" استمرارا للتجربة الشعرية الحداثية التي بدأت في سبعينات القرن العشرين على أيدي شعراء كبار لم يمنعهم التزامهم القومي والوطني من كتابة قصائد عالية في مستواها الابداعي والفني امثال حاوي والسياب وعبدالصبور ومحمود درويش. وهي تتغذى من تجارب من سبقها من الشعراء المحدثين متأثرة بالدرجة الاولى بالقصيدة "الدرويشية" من حيث سعيها وراء الجديد في الصورة الشعرية والمدهش بالتراكيب اللغوية. إلا ان هذا السعي يغرق النص، في كثير من الاحيان، في جملة من التراكيب المكثفة التي يتطلب تفكيكها قارئا مميزا مستعدا ان يبذل الوقت والجهد ليقبض على صور المعنى التي تنفلت من حقل رؤيته، وبذا تمسي القصيدة نخبوية لا تنقاد للعامة التي تنشد من الشعر ما تنشده في الوجبة السريعة.

لَستُ مَدِيناً لِتبرِ الأَعصَابِ يُعبِّئُني بِانتِبَاهِه ..
أَوَ كُلَّمَا أَعشَبَ الجِلدُ لَونَ عَبَّادِ الشَّملِ
بَاغَتَني أُفقُهُ
مُلَوِّحَاً بِالغُبَار !

قديما قال الناقد العربي بتولد المعاني وحديثا قال بالانزياح، وسواء كان الامر انزياحاً او توليد معانٍ فإنه يبقى العمود الفقري الذي تقوم عليه جمالية القصيدة. ولغة "أطلس الغبار" إنزياحية بامتياز تكاد لا تخلو فقرة او فكرة من هذا الوشم الجميل:

أُبصِرُ صَهِيلي مَسَافَةً لا تَلتَئِم -
وأَهُشُّ هَيبَتي عَن دَويِّ تَفَاصيلِهم القَذِرَة :
أَمسُهُم حَانَتُهُم
يَومُهُم خَمرُهُم
وغَدي يَتَرنَّحُ بالرَّائِحَة !
 مَا الَّذي يَفعَلُني ، الآنَ ، بِقَلمٍ مَهبُوبٍ
وحِبرٍ أَحْدَب ؟

الصهيل الذي يرى، الهيبة التي تهش، دويّ التفاصيل القذرة، الحبر الاحدب. . . فيض من المعاني المولدة الانزياحية بلغة العصر، تستدعي ملحمة الصراع الازلي بين الانسان وقدره: كلكامش، عوليس، يوروب، عنترة وغيرهم. . . بل هي بكلام بسيط ملحمة الحجر في مواجهة الدبابة. وفي لوحة مماثلة بعنوان "الانتظار" يختصر الشاعر بعبارات قليلة، حالة ثقافية دام عمرها قرنا بكامله أو ربما قرونا، قلنا فيه كل انواع القصائد من العمودي الى التفعلي الى النثري ولكننا ما زلنا ننتظر مسك ختام القصائد، قصيدة النصر. (93)

وسواء قال الشاعر قضيته أو ذاته أو الاثنين معاً، إلا أنه لم يقل بقيم الشفاهة وما انتمى نصه الى الماضي بل إلى المستقبل وكان نصاً يحاور ولا يرواح، مفتوح غير منغلق. . . لقد تمردت نصوصه على القصيدة العمودية شكلاً
ومضمونا وانتمت صراحة الى ادب الحداثة، ولكنها في انتمائها هذا، لم تنجرف الى المبهم
السفسطائي او الذاتي المغرق في فرادته، بل ظل الهم العام, إنسانيا ووطنيا، هاجسها. وهي من جهة
أخرى لم تتخذ من الحداثة ذريعة للعبث باللغة والاسفاف بها الى المبتذل والعادي واليومي بل ظلّت
متمسكة بتلك اللغة الراقية البليغة التي يعتبرها التراثيون بيت قصيدهم ورغم ذلك لم تلجأ الى تعابيرهم وصورهم التي انهكها الاستعمال

نجمه حبيب
سدني استراليا
‏08‏/09‏/2004


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى