الخميس ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم منى العبدلي

رقصــة

وحيد
في الظلمة العميقة
حولي مراقد الليلة الخرساء
بلحظة بردت
بلحظة طارت

ومن الذي يستطيع أن يجزم بأنه ليس لكل منا جانبهُ من الحماقة!
اليأس يجعلنا نتشبث بأي شئ مهما كان صغيرا أو منبوذا، فقط لنعلم أننا نمارس الحياة بأي حال, حتى وإن لم تتح لنا حياتنا خيارات أخرى. في النهاية نحن لسنا أقوياء بشكل كاف لنتمكن من ممارسة خياراتنا كما نرغب وعلى الوجه الذي نريد، أحيانا نتوهم أننا نُعلق أحلامنا عاليا ولو بخيط رفيع وربما لا ندرك أننا علقناها وسط فقاعة هواء مظلمة فارغة. نأمل أن نتنفس بملء إرادتنا, أن تنتفخ رئتانا بهواء لا تعلق به أنفاس رديئة وأن لا نجبر على الهمس حين نرغب في نسمه هواء نقية وأحلام لا تغادرنا مرتعبة في لحظة ضعف .

كان هو ذلك الرجل الذي لم يكن بمقدوره أن يفكر بعقله الصامت, استوطنته الهزائم والشغف الدائم بالرحيل الأبدي, مزيج غريب متكرر: هو القوة والضعف, وهو الكره والحب. مندفع في كل شئ دون أن تطفو مشاعره على سطح حياته. ولم أكن أنا سوى تلك الأنثى التي كان عليها أن تكون معه كما هو ورضيت بأن تكون قربانا يساق إلى مذبحه ليُطهر من ذنوب لم يقترفها برغم عجزها عن فهمه، وضعف قدرته على منح قلبها الصغير قدرا من الحرية ليحب.

هل حقا كنت أحيا بجانبه كل هذا الوقت؟

كنت أُسلم نفسي له بطواعية تامة ليُمارس فيّ هزائمه وانتصاراته, كمدينة عتيقة محاصرة بين الوهم والحقيقة تهب نفسها لجلادها برغم كل ذلك التنافر والتباعد بينهما. يبتعد حين يشعر بقرب اكتشافي لهزيمته, يتهاوى على مقعد قريب. اسمعه يلعن تلك الساعة التي أتت بي إليه, ثم يصرخ: يااااساقطة إملأي لي كأسا!!. كان شرسا أكثر مما أعتاد أن يكون , كأنه يشعر بهزيمة ما. أملأ له كأسا آخر وهو يلوح بيده, ثم ثالث وهو يتمايل على مقعده ثملا كمركب ضخم تعلو به الأمواج حينا وتهوي به حينا فأخاف منه وأشفق عليه وأنا لا اكف عن لعنه في قرارة نفسي بكلمات طائشة وقحة. يمسك بي مرة أخرى وتكاد يدي أن تنسحق تحت وطأة ضغطه. يأمرني أن أرقص له , يسند يده على كتفي ويتمايل راقصا حين لم يكن في وسعي إلا أن أذعن مستجيبة، أتمايل معه وأراقصه والسخط والكره ينتفضان بداخلي كحيوان جريح لا أمل له, أتابع خطواته بحذر خشية أن يسحق قدميّ فأنحدر إلى دركه.

لم أكن أكثر قربا منه من قبل, اتأمله وكأني أتعرف على ذلك الوجه لأول مرة: جفنان متورمان , وعينان استحال بياضهما إلى اللون الأحمر الدامي, وجبين كالح يتفصد منه عرق بارد يفضح سره وعجزه, لم أكن قادرة على فهم شعوري تلك اللحظة بالذات، لم أدرك إحساسي تجاهه ونحن هنا في هذا المكان وسط هذا الاحتفال غير المتكافئ حيث أحلامنا تتمزق تحت أقدامنا ملفوفة بالليل واليأس والإحساس المر بأن اللقاء أشبه ما يكون بصفقة تليق بمومس. أردت تسجيل تلك اللحظة الفريدة في ذاكرتي وأنا ملتصقة به وجها لوجه لكن ذلك الاغتراب الذي فرضه عليّ بدد تلك الرغبة وزاد الشعور الموغل في وحشته.

تنطلق يده فجأة لتلتف حولي كحبل شديد الوثاق وبلهجته الساخرة يقول ,كم طال غيابي عنك يامداااام! وبالكاد يخرج صوتي مختنقاً: لم احسب ذلك الغياب ولم أكن اعرف أنك كنت حيا كل هذا الوقت! تعالت ضحكاته في أرجاء المكان حتى طفرت الدموع من عينيه . كف عن الضحك وسقط على كرسيه ممسكا بي وبالكأس في آن واحد. يرمقني شزرا وهو يهمس : لا تتمنعي يا خبيثة فمهما طال الأمر سأرعد كعادتي ولا مفر لك من أن تلبي النداء . أأن في زفرة طويلة ووسطي يكاد ينقسم من شدة احتضانه لي. صمت كل شيء حولنا ملفوفا بالسكون الصاخب، لا أسمع سوى فحيح أنفاسه, كنت أشبه بطائر يحتضر في قبضة وحش ينزح رغبة. استحال كل شئ إلى نار تتقد تحرقني حيث يضع يده. لم اعد أشعر بشئ ولم أكن قادرة على معرفة كم مر من وقت. كان الفجر قد بدا يشق رداء الليل عندما اخذ يتهاوى على فراشه بعد معركة خاسرة لم يربح فيها وبعد مشاهد مكررة لمسرحية هزلية ، هزيمة أخرى ومشهد موجع يعقبه آخر.

انتفض وهو يسند يده على جدار قريب وانزوى في عتمة لم تصلها خيوط الفجر الأولى بعد, وبدا كعجوز هرم انتزعت منه شهوة الحياة وتركت له عريها وهوانها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى