الجمعة ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
مصطفى الجزار:
بقلم غزلان هاشمي

زئير الدجى واللغة المسيجة بالخطر

وأنا أحاور نص الشاعر المصري الأستاذ مصطفى الجزار الموسوم بـ«زئير الدجى» قابلني ذلك الإحساس بالخطر حينما تلامس الذات نصا مسيجا بالأفخاخ.....وذلك الاختلاق المشتت لهوية الثبات .....وذلك الاحتفاء بقارئ نوعي من أجل معرفة أسرار البوح واعتباراته المختلفة. فما يقوله النص؟

العنوان: «زئير الدجى» يتألف العنوان من ملفوظين: زئير+الدجى، فالزئير يحمل دلالة القوة والغضب والوحشية والتسلط والخوف والارتعاش وعدم الاطمئنان....وأما الدجى فيحمل دلالة السواد والوحشة وعدم الارتياح والقلق والخوف والغموض والأسرار والخطر،كما السكون والهدوء والراحة والحلم والسكينة....،وهذه المعاني تنتفي بالبدائل الأولى نظرا لالتحاقها بلفظة «زئير»، وكأن بالعنوان يعلن عن زمن شعري تسكنه الهواجس أو يلفه القلق، إذ يظهر ساكنا غير أنه يمنح غضبه لقارئ يتوقع الصمت،فيزيد من رهبة النص ويسيجه بالخطر حتى يقترب ـ أي القارئ ـ من لحظته في حذر وترقب وخيفة وتوجس، ليظهر وكأنه يدخل مغامرة التأويل لفك أسرار هذا النص والتباساته المختلفة. ومن هنا فالعنوان يظهر في صيغة خبر يعرفه ملحقه ليغيب الخبر تاركا القارئ في حيرة وقلق واضطراب ورغبة في الدخول إلى النص باحثا عن هذا الخبر المجهول.

زئير الدجى دمر أركان الحلم
وتوارت المصابيح المرتعشة
خوفا
من غضب ليل لا ينام
بضع رماد مازال ينفث الدخان
في وجه أمل تصدع
قصة تروى بلسان
بترت بلاغته فصار يهذي
وأرصفة تدمع
على جانبي الطرق المحترقة
تغوص في كف السراب شجرة
تمناها وارفة
ويقذف الرعد دموع السماء
سياطا
تلهب ظهر الحريق.

يبدأ الشاعر نصه الشعري بنفس عبارة العنوان،حيث الإعلان عن مغامرة قرائية محفوفة بالخطر منذ البداية، وحيث التوجس والخيفة من عدم ملامسة المعنى الحقيقي في ظلمة النص والتباسه وتلغيزه، ومن ثمة يبدو النص ساكنا في بدايته لكنه يتحرك ناحية المغيب"دمر" وكأنه يحاول موضعة تلك المشاعر السلبية في إطار من المضمحل المتلاشي أو طرده ناحية الفائت،إذ يبدو الغموض مهددا حلم القارئ بمعنى ثابت ومخربا لأفق انتظاره، وحتى تلك العناصر المستعارة أو الدخيلة التي تخلقها الإنارة المصطنعة"المصابيح" ـ رمز الإشارات اللانصية التي تسهم في إعادة الإنتاج والتأويل ـ تفشل في تبديد مخاوف المتلقي وتفكيك ظلمة النص الذي يرفض التخلي عن صورته الملتبسة،مما يجعل الذات تموضع هذه اللحظة أيضا داخل دائرة المغيب"توارت"،لكنها سرعان ما تستفيق على حقيقة الحضور الآني (ينفث ـ تروي ـ تدمع ـ يهذي ـ تغوص ـ يقذف ـ تلهب..."،وإن بدت استفاقة مشتتة بين هذا الحضور وبين رغبة التغييب التي تتخلل لحظته من حين لآخر"تصدع ـ بترت ـ صار ـ تمناها"،لتعكس تشتت الذات وحيرتها بين الزمنين.

إذن يظل القارئ في صورة عدم التمكن محترقا، ليعاود تجديد التأويل كطائر الفينيق ابتداء من هذا الرماد الذي تنام فيه بعض بقايا احتراق"دخان" ،معلنة عن أمل في الاشتعال وإن بدا مسيجا بخيبة أمل في التحقق بسبب هذه الاختلاقات اللغوية والشعرية الشاذة التي هربت من المعيارية الثابتة وخرجت على سلطة البلاغة القديمة، لتظهر في صيغة هذيان أقرب إلى الجنون محتفية بتلك التشكيلات المحايثة أو المهمشة"أرصفة ـ جانبي" مقصية هذه الطرق التي التزمت بصيغة مؤسسية، ومن هنا تتشكل في سراب التخييل أو بين وهم التوقع شجرة تعكس رغبة الذات القارئة في استقبال ثمار تأويلاتها وإن كانت وعدا بالتحقق يلازمه الوهم"السراب"،بل ويتبعه الألم"سياطا" لكل ردود الفعل التي تصف هذه التأويلات الحارقة بأنها آثمة أو خارجة عن جادة الصواب.

أطوف بين الروى المتناثرة
في ذاكرة الضوء
فتنبت خلف العيون أياد
تنبش كهوف اليأس
وتعلن القلق نتوءات
تعج برحلة
أفل زمانها
مازال قلبي غصنا
أخضرا
في سلة أعشاب
يابسة
ويدي تعبث بقزح
تساقطت ألوانه
وعند منابع المدى
تتواتر أصوات تستدعي
خطايا البشر

وتستلم الذات بوحها في زمن المستقبل "أطوف" ،حيث تعلن تشتت الذاكرة اللغوية "الروي" وتبعثرها في صيغة المصطنع"الضوء"،إذ العيون رمز الرؤية والتبصر والحقيقة المعلنة ينبت خلفها ـ أي بالمنطقة المحايثة ـ وليس أمامها"أياد" التي هي رمز العطاء المتعدد لأنها جاءت في صيغة الجمع،إذن فالنص يهيئ للحظته القادمة ويعلن عن مستقبل القصيدة العربية لذا تكثر الحركة في اتجاه الحاضر"تنبت ـ تنبش ـ يعلن ـ تعج ـ تعبث ـ تتواتر ـ تستدعي"،حيث هذه الإمكانات المتعددة"أياد" تنبش وتحفر داخل النص في محاولات يائسة للعثور على النهائية ،مما يجعلها في حالة قلق دائم خاصة وهي تصطدم في رحلتها بذاكرة مخربة.وتقيم الذات تقابلا زمنيا بين لحظتين مختلفتين إلى حد التضارب،إذ هي تعلن اخضرار لحظتها بالتأويل المتعدد في حضرة نص يابس يلفه الصمت والعبوس،وتعلن عبثها بهذه الهويات اللغوية المتعددة التي تساقطت عند منابع اللاثبات أو غير المحدد،مستدعية في ثناياها تأويلات آثمة أو خارجة عن حدود التموضع إلى حد الاتهام بالتخطيء.

وقع أقدام
تتسلق لحظات تستغيث
وأراني بجواره وهو يهتف:
أنا الناجي من براثن الوحشة
أطعم السطور بالحاء......والباء
أقيم أبجدية التطهر
في محراب قلوب
تتوضأ بحضوري
أحطم أوثان الآثام
وأبسط حقولا يعانقها النقاء
وصوامع خاشعة
تستنشق اعتكاف العطر
وسماء تمطرني
على صدور تزدحم بالظنون
يعتصرني
وحين انتشاء
أتساقط من بين أنامله
نقطة
نقطة
كي أملأ كأسا
يمتلئ بك

وتبقى الذات مسلمة بوحها إلى زمن المستقبل ،حيث تكثر الحركة الفعلية في اتجاهه "تتسلق ـ تستغيث ـ أراني ـ يهتف ـ أطعم ـ أقيم ـ تتوضأ ـ أحطم ـ أبسط ـ يعانقها ـ تستنشق ـ تمطرني ـ تزدحم ـ يعتصرني ـ أتساقط ـ أملأ ـ يمتلئ "،إذ يحسم النص وضعه باحتفائه بالاعتبارات الآنية أو بالتشكل اللغوي المستمر لا المستقر،ومن هنا تظل لحظته سائرة وهويته في طور الإنجاز تأويلا وتعددا.ويسمو النص لا باعتباراته الواضحة وإنما بما تخفى ووضع تحت مجهر التفكيك والتأويل"وقع أقدام"،حيث تجلس الذات بمحاذاته ليستمع إلى هذه الخطوات التي تعلن نجاتها من وحشة الجمود ،وبأنها إمداد حقيقي للغة النص ،حيث تشبعها بذلك الحنين المتواصل الذي يشكل الألفة بين النص وقارئه أساسها الطهر ،محطمة صفة الوثنية وعبادة آلهة المعنى الأحادي الثابت من أجل إنتاج مثمر ودائم"حقول" بعد رعايته بمطر التأويل"السماء" التي تتساقط على الظنون أو شكوك القراءة فتعصره في انتشاء وتجعل منه نصا ثانيا أو قراءة مغايرة تتساقط تدريجيا ليمتلئ بها كأس الذات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى