الثلاثاء ٢٠ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمد دلة

زغب العصيان

قراءة في "الرواية الناقصة" "زغب أسود" لنادر الرنتيسي

عصيانُ التجنسِ موضوعةٌ من موضوعاتِ الحداثةِ اجترحتْ مكاناَ مركزياً في النصوصِ الحديثةِ إبداعاََ ونقداَ، وسواء أكان ذالك استجابة للتشظي المعرفي والعاطفي والاجتماعي الناتج عن اصطدام الذات العربية بمنتجات الحضارة واستبدادها، ام تسربا الى وعيها من الاطلاع على النظريات الغربية حول الإبداع والنقد والالسنية، الا انها تظل موضوعه لا يجب اغفالها عند دراسة النصوص الإبداعية الحديثة. ومن هنا ننطلق نحو نصوص نادر الرنتيسي " زغب أسود" الذي آثر أن يسميها بالرواية الناقصة، وكأنه عبر هذه التسمية المراوغة يحاول الإفلات من عصيان التجنس ليجنس بمشيئته.

تتوزع النصوص بين ثنائية عهد قديم وعهد جديد لم يجدا بؤرة بوحهما واتحادهما إلا عبر عذابات الجلجلة وصلب المسيح، ومن خلال هذا هذه المراوغة التقنية تمارس النصوص عصيانها شكلاً هو أقرب للقصة القصيرة منه للرواية، حيث تتمركز ومضةٌ في علياء النص تتشظى لتخلقَ دوائر من ضوءِ حتى تفجر المركز ليتناثر لغةً هي اقرب للقول الشعري منها لتقنية السرد التتابعي عبر انزياحات للمعنى تشكل صورا مركبة او اخراجا للكلمات عن سياقها وذاكرتها بما يصدم القارئ ويطلق تلقية نحو لغة تتولد من ذاتها ومن عذابات بطل القصة الذي يتجاذبه العشق والحرمان، ويضعه في مواجهة درامية مع الموروث، فهل يفجر الموروث أم ينقاد له، ايتمادى في عشقه الصوفي للمرأة، رغم هرطقتها في الافلات منه، أم يئد دمها في قبلة عابرة، ايحتضن الرموز أم يطلق عادياته خروجا عليها.

ولكن مع كل هذه المودة حد الالتصاق مع القصة القصيرة إلا أنها تطغى لتتجاوز هذا الشكل عبر حبل شوكي يشد النصوص جميعها، فهي تدور حول "عبد" واحتكاكته بالأنثى التي تراوده ويتشنج حرمانا وصلبا عند بابها، وعن أنثى يراودها ويلتقطها السيارة نحو الافق البعيد، وتتجلى طبقات النصوص لتكشف زيف التابوهات الجاهزه في ملكوت الإرث التاريخي والديني والأسطوري وكأنه يقف في بؤرة ما ويهجو العالم، معلنا كما يعلن توما" من لا يكره أمه وأبيه لن يدخل ملكوت الله.."

هذا التجاوز، والتنامي " الروائي " في شخصية عبد يراوح النصوص ما بين القصة والرواية "الناقصة".

أما على صعيد البناء الأسلوبي، فنرى أن العناوين تنوعت ما بين :

تورية
شهوات الأذرع المقصوصة

نقش الوسادة الباردة

الحمرة على خد العانس

رعاش النرجس

حب في المدينة

زغب أسود.

صحيح أنها لو عولجت قليلا لأورقت كقصيدة جميلة، ولكن عبر هذه التقنية يقر الكاتب أنه الوحيد صاحب الحق في النبوءة والكلام إذ يحصر العناوين بجمل أسمية خبرية صارمة لا تملك حيالها إلا ان تجوس الطاعة فتدخل ملكوت الله، أو أن تجنح نحو زيغ الشيطان فترفض لتصعد الهاوية نحو قبة الخطيئة، وهكذا كان مصير المرأه في الرواية الناقصة فهي إذ غُيِّبت عن العناوين فاعلا مؤثرا استحضرت وفي أبهى حالاتها مغوية أو متبرجة موسماَ للإثم والخطيئة أو صنما ماثلا لا يريد إلا أن يرى الرجل منكسرا، هي والبريد، ولا يخفى ما لهذه المجاورة الدلالية من انسجام مع النظم المعرفية والاسقاطية للمجتمع البطريركي الذي يرى ان المرأه مستودع للخصوبة وان تنادى ثمرها فلتمطرَ شيخ القبيلة برعاش النرجس.

ولا يتجلى هذا فقط عبر اغفال المرأه من الاسم عبر كل النصوص فقط، وابعادها عن دائرة الفعل الايجابي، كأن تحب او تمارس دورا معرفيا او انسانيا او بطوليا، ولكن معظم النصوص المنسوبة للمرأه تبدأ بالفعل الماضي مقابل النصوص الحوارية المذكرة التي تبدأ غالبا بالفعل الماضي ايحاول الكاتب ان يعلن دينونته؟ ام يحاول ان يكشط الحاجه للمرأه عن تفاصيل يومه؟

ولكن حضور المرأه طاغٍ في كل النصوص، وكأنه يعمق حضورها في ذاكرته بمحاولة نفيها، فهي تدعوه ويجيب كاذبا "أخاف الله" مقراً بقدرتها ان تنسجم مع طبيعتها في الخصب والإبداع وبعث الأشياء، ومقدرتها على التجريب والمعرفة وقدرتها أن تضحي بكل شيء حتى علاقتها بسيادة الأسطورة تسطحها لتنتشي بشقائق النعمان في بعث جديد ما بين الطاعة والنسيان، ما بين اقتراب الدلالة وشرودها.

يمزق الكاتب نصوصه المارقة بلغة مارقة استجابة للحظية الوعي وضرورة صلبه.

و في خصم هذه العلاقة الشائكة ما بين اللعنة والسكينة، ما بين حليب الطاعه وخمرة العصيان، ما بين دنو الدلالة وشرودها، ما بين ثابت يسرق بقضبانه صيرورة الواقع،ما بين وعى يجب ان يصلب. ويجد الكاتب أن الخطأ النحوي الذي غمر الحزب السياسي بالسخرية أصلح الزمن الجديد وأن كل محاولات السدنة أن يخزِّنوا خمرتهم الجديدة بجرار قديمة لم يقابلها السياق الا بالهرطقة والتجديف، وواراها بدم نجس ينزمن حادث سير، فلا شيء يعمق الصورة المبتورة إلا شقائق النعمان والنبيذ بأوانيه المتحولة.

تتحطم الأشياء في رغبات ((عبد)) المسجونة في قمقم الحرمان مسبكة بتابوهات و تنظيرات آخر، فالمرأة التي تنتظر انكساره يحتاجها حتى يوجد، فما عليه الا أن يكسر كل شيء، أتدعي انها الأصل؟ سأحضرها إلي وإن عصت، أعبدٌ أنا لرغبتي بها؟ لتكن أمَةَ لنرجسيتي وشهوتي ورغباتي، وفي سيرة انكساره يكسر رمزية حنظلة، نحو رمزية جديدة يصنع لها اسطورة تستجيب لآلامه ولأثار المسامير في يده، يوحدها بالمسيح ويحطمهما معا باتجاه بعث وخلاص جديدين.

ما زال عبد يحطم نفسه بالحرمان و يجلد نفسه لتعامله مع انثاه كعسكري، و لكنه يباغتها بهديته في حالة ضعف لينتصر عليها، يداهمها بنيرونيته حتى تتبرج حكمتها وردة و مواسم فيروز، وحين تغيب يبكي ويندب في مأساة استحضار ضلالها ليدلق باءته في الموعد الخطأ.

وحين تعصي ويطيع احتياجها إليه يتوضأ في غيابها بزواج الهاتف ليمزق ما تحضنه المجتمعات المثقوبة بتنظيرات العفاف على شبقها وكتبها وحرمانها، وحين ينهزم أمام غيابها الملح يجتر ذكريات المدرسة، ليسقط عجز غيابها على أنظمة تعليمية اهترأت وآلت للسقوط.

لا شك أن الرواية الناقصة تجوس عوالماَ غابت عن سياق نتاجنا المعرفي، فرغم أن جل نصوص النهضة والحداثة العربية عرّجت على موضوعة الجنس كمحمود شقير وعبد الرحمن منيف ونزار قباني ويوسف ادريس واحسان عبد القدوس وغيرهم الا أن الجنس كان سريرا للحكاية ولم يكن الحكاية نفسها التي تتنامى من خلالها الأشياء، فنرى أن معظم هذا النتاج كان منصبا على رصد شكلانية الظاهرة ضمن دوائر الوعي الشخصي أو المعرفي أو الطبقي او الكهنوتي، أما الذي لم تنتظم دورة علاقته بالمرأة ما زال محطما في كل تلامس مع ندب الحياة، ومع هذا الانكسار المتفجر من أتون الظاهرة يضحي على مذبحها بكل التابوهات نحو أسطرة أيروسية لكل علامات الحرمان، ويدرس من خلال هذه الأسطرة ما يطفو على ضفاف الجنس من ظواهر اجتماعية زائفة جنحت للتقنع فانكشفت عبر ترامز إسقاطي يشي بالنهارات التي يسرقها نكران الأشياء من تحليق الوعي ويمام الوقت.

ولم تكتف الرواية الناقصة بهذا الرقص الوحشي على النار في أعراس القبائل، وإنما رقصت بالجمرعلى غابات اللغة، فشكلت لغة تنزاح بعيدا عن الذواكر المحنطة للكلمات نحو بكارات المجاز مترفة بالنزف جارحة لكساد التواصل الرتيب التي تحكم الكثيرين نزولا عند موازين نقدية لا تبحث عن الإبداع الا بين عناكب الأغيار. فنادر اجترح لنفسه لغة موحية مستلهما الإرث اللغوي الكلاسيكي ولكن محطما لعلاقات التجاور بين الكلمات نحو مزاوجات جديدة، خارجا عن عباءة المشابهة نحو وحدة النار والماء.

ويظهر جليا من خلال النصوص الاحتفال بالأمكنة والأدوات والتفاصيل الصغيرة، فنادر من جيل صعد الكون وقد سقطت كل الأشياء، وتبخر ضباب القيم الجمعية ليحل محلها ثقافة من التشيء واللامعنى، ولم يتبقى للقاص أو الشاعر إلا ان يمسك بقشة أخرى تعصمه من الغرق ولا شيء الا الأمكنة والتفاصيل الصغيرة.

ولا شك أن نادر الرنتيسي الذي ينتبذ مكانا شرقيا ويقيم نصوصه دون ضجيج لواحد من أهم كتاب السرد الشباب في الأردن حيث لا تعصيه اللغة ويخزن في ضلوعه طاقة من الحزن والبوح لا بد أن تكتمل مراعيها بنجوم آخر.

قراءة في "الرواية الناقصة" "زغب أسود" لنادر الرنتيسي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى