الأحد ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم فتحي العابد

زفرات مكبوت عائد من الوطن

حدثني صديقي العائد من توه من الوطن قائلا: إستوقفني في الطريق وأخذ يلف بسيارتي يمنة ويسرة.. ناظرا إلي تارة وإليها تارة أخرى.. سابا أمي وكل من له علاقة بأصلي وفصيلتي.. ومتلفظا ببذيء الكلام الممتلئ به قاموسهم النتن.. وأنه يحلم بأن يركب سيارة مثل التي في حوزتي ناهيك عن تملكها، ونحن الذين في الخارج نعود لهم كل صيف بسيارات فخمة متباهين بهم عليهم.. وهو الذي مضى عليه عشرون عاما في خدمة الدولة التي لم تزده شيئا بل أنقصته مدة من عمره خدمة لها دون مال يذكر..

طلب مني جهارا أن أعطيه "الأورووات"، ضحكت منه وقلت له: تحب الهندي..!! (شجيرة الصبار) لا ليس لدي "أورووات" كما طلبت.. فوصفني بالحمرنة والجحشنة.. وأهانني ولطمني لقلة حيائي وتجرئي على عون أمن.. ثارت ثائرتي وعزمت على تأديبه لكن والدي نهرني وترجّاني، وأن هؤولاء ظلمة يستغلون بدلتهم تلك لإهانة المواطن..

فقلت لأبي: لو كنت ضابطا، ماكان ليستطيع أن يفعل مافعل. بل سينحني لي.. ولكنني لست ضابطا، ولارادع لأفعاله لإنعدام المراقبة، وقلة المسؤولية، ولهذا فعل مافعل.

قال لي والدي: ألم أشرح لك في بداية دراستك أهمية أن يكون المرء ضابطا. فالمزايا التي يحصل عليها كثيرة.. من بينها هذا، وذاك، وغيرها لا يحصى ولا يعد.. يتجاوز المرور في الإزدحام دون توقف.. حتى في المخبزة يأخذ خبزه بسرعة ويمضي… وفي وسائل النقل لا يدفع معلوم الركوب.. وله مؤسسة خاصة من أجل التموين والدخان.. الناس لا يحترمونه فقط، بل يهابونه.. وياويل من يدوس له على طرف..

قلت لوالدي: فكرت بجدية وقتها، وكنت على وشك القبول، لأنها فرصة جيدة كي أتخلص من الدراسة المملة.. لولا أنني رأيت وقتها ضابط ينهال بالضرب على أحد المجندين الجدد لمجرد أنه لم يكوي قميصه.. لذلك كرهت أن أكون ضابطا.. وتراجعت عن قراري.

ثم أدرت وجهي إلى ذلك العون وقلت له: لو كنت من العائلة المالكة.. ماكنت لأتغرّب.. بل لأسكن هنا.. لأنني كما تعرف أنت ومن والاك، كنت منحت بعض الإستثناءات.. وتغاضيت أنت وأمثالك عن كثير من التجاوزات.. وسيتشرف أي سمسار، أو تاجر بناء، أن يقدم لي أرضا في المكان الذي أحب.. وبالسعر الذي أحدد.. وأستطيع خلال أسبوع أن أبني أفضل (فيلا) في المرسى.. وتكون لي أنت من الحراس.. ولكنني لست من العائلة المالكة، ولذلك فعلت مافعلت..

طبعا أولائك عندهم أموال كثيرة جاءوا بها من أرض الكاوْ كاوْ.. من خلال تجارتهم بالـ... والعياذ بالله.. وهم قادرين على أن يهدموا "الحوش" فوق رأسي ورأس أجدادي الذين تمتد سلسلتهم إلى الفاطميين، حيث قدموا مفاتيحها صاغرين وولّوا الأدبار وهم يحمدون الله أن هؤولاء لم يطالبوهم بالإيجار عن الفترة التي قضوها هنا. لهذا سهل عليهم هدم شجرة العائلة حين أزالوا بيتنا من ذلك المكان بحجة بناء مجمع تجاري..

ياصديقي متوجها إلي! أنت تتابع الحياة السياسية في بلدنا.. وتستطيع أن تكتب، وتعبّر بأسلوب لبق مقنع.. قل للحكومة إن الظلم انتشر.. والفساد عم.. وإن الرواتب لا تكفي.. وأن الموظف هناك يعمل ليل نهار، ثم تقدم له الحكومة راتبا شهريا لا يكفيه سجائر.. الماء يتوقف عند الطابق الثاني لقلة الضغط.. بل لكثرةالضغط عليه.. والمصعد يصعد حتى الطابق الثاني في أكثر الأحيان، لأنه لم يصمم بشكل يراعي الكثافة السكانية والتوسّع العمراني.. الناس غرقوا بالرشاوي.. والمسكين لا يستطيع العيش..

قلت له: في الواقع أن صفة الحمرنة أو الجحشنة لدى قدماء العرب العقلاء ترمز إلى صفة حميدة من صفات التحمل والصبر، لما يتمتع به الحمار عامة والحمار العربي خاصة من أرقى صفات العمل والصبر والجلد والذكاء.. ولعل من أهم صفات الذكاء لدى الحمار أنه قد يحفظ طريقه غيبا من أول مرة يطرق فيها طريقا جديدا.. ولهذا فقد استخدمه عتاة المهربون في الطرق الجبلية الوعرة من أجل تحميله، وتركه يخاطر وحيدا بعبور الحدود ليلا، ومع كل تلك المخاطر فإنه كأولائك الأعوان المساكين الذين تنطبق عليهم هم صفة الجحشنة، لتحملهم وصبرهم، ولايجدون كلمة شكر واحدة من مالكهم المهرب؟؟؟ أما أنت فلا تنطبق عليك هذه الصفة لأنك لم تستطع أن تتحمله..

الكاتب اليوم ياأخي صار ممسحة للجميع.. الناس يطالبونه، والحكومة تطالبه أيضا.. فكلما قابلت أشخاصا من شرائح مختلفة.. وجدتهم يتذمرون.. ولأنني لم أتجرأ حتى هذا اليوم عن كتابة سطر واحد مما سمعت من أمثالك.. إكتفيت بأن أشاركهم أحزانهم.. حتى لو تجرأت وكتبت.. لن تجرأ أي صحيفة أو ناشر على إذاعة ما أكتبه.. الأعذار كثيرة.. تعرفونها طبعا.. فما فائدة الكلام؟.

صحيح مافائدة الكلام..؟ لأنني من جهة أخرى مطالب.. لا.. لا.. ليس من الحكومة بالتحديد.. إنني مطالب من أي شخص أقابله هنا.. أكان عربيدا أو صالحا.. أي واحد منهم مضمون له حق العودة، مسؤولا أم لا.. يطالبني بشيء من العتب الممزوج بالتعنيف: ياأخي أنت تعرف الحال.. عش الواقعية.. لا تساهم في تخريب عقول الأجيال وإفساد تربيتهم من خلال السماح بترويج مثل هاته الأشياء.. حببهم في بلادهم، ولاتنفرهم فيها.. هل يمكن أن ترفع الدولة الرواتب ومواردنا محدودة.. ونحن ما زلنا نواجه نظاما عالميا جديدا غازيا..؟ إن التحمل واجب على كل مواطن في الوقت الراهن..

وهكذا يمسي الكاتب ممسحة للجهتين.. الناس يحملونك مسؤولية شقائهم، ومن تسلطوا على رقاب العباد يحملونك مسؤولية تهييج الناس..

ولأن الكاتب مطالب من الجهتين، تهمله الجهتان معا.. الناس يظنون أنك بجرة قلم تستطيع إجبار الحكومة على تغيير سياستها.. والحكومة تدس رأسها تحت الرمال، ولا يحرك لها ساكن أي كان في المقابل، بل تعلن الحرب عليك.. ولهذا لم يتدخل أحد حين جردني الدهّان القادم من بلاد الواكْ واكْ من لوني الطبيعي.. بل تشوق إلى رؤية ما سيحدث لي.. لو أنك كنت مسنودا أو يدك طويلة لوصلت الشكوى إلى المسؤول، بل لأوقفت أنت بنفسك ذاك العون..
وبما أنني مثلك، لست ضابطا ولا من العائلة المالكة.. إنما كاتب.. والكاتب عليه أن يحمل خطايا الآخرين دون تذمر.. كما أنه قوّال.. لا يستطيع أن يدعم إلا الحقيقة.. ولا يخاف من أحد.. سأدعم قضيتك هاته المرة، لكن معاتبا، ومذكرا إياك ماقاله الحلاج لشيخه الجنيد: "لو قال المؤذن: الله أكبر‍. بصدق الإشارة، لما حملته هذه المنارة، وكانت تفتتت من تحت أقدامه الحجارة"‍.

فلو رجعنا إلى الله بقلوبنا، لجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا.. ماستأسدوا علينا إلا بكثرة ذنوبنا.. إن كان مارأيته هناك ليس بمعقول، فألزم غربتك وإلا قعادك في الحبس يطول.. أنت تخبرني بقصتك هذه كي تقنعني بمطلبك.. وهو أن نقاوم فكرة إقامة نصب تذكارية لهم بعد الموت.. أتركهم ينصبون لأنفسهم مايشاؤون من تماثيل، لأنها ستغدوا أماكن أمينة يلجأ إليها من يريد أن يبول..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى