الاثنين ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم إياس يوسف ناصر

زمنٌ بلا خُطى

(الكلماتُ مجازٌ أفلتَ من قيد الحقيقة، ولي قلبٌ يطير كل يوم بأجنحة المجاز إلى أبناء وطني اللاجئين الذين تعرفتُ إليهم في الملتقى الثقافي الرابع الذي عقدته اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم في أيار 2011)

لا أزالُ أشم عبقَهم في فلسطين، وأنظرُ إلى الأرض فأرى ملامحَ وجوههم عليها. أشربُ كأسَ الصدى فأرتوي من دفق أصواتهم، وأجهَلُ طريقي إلى البيت فأقتفي خطى أقدامهم إلى الوطن. أعادوني إلى وطني بعودتهم، وعلموني البقاءَ في الوطن وهم بعداء عنه... ولكنهم... عند رجوعهم أخذوا حفنةً من التراب ليزرعوا فيها الذكريات... أما أنا فقد أخذتُ حفنةً من التراب حيث داسوا بأقدامهم لأضمَّ إلى صدري في غيابهم كلَّ فلسطين الحبيبة.

على صخور الذكريات تتكسرُ الأشواق، وعلى باب المسافات أتلقّطُ خبزَ الحنين كي أسدَّ شيئًا من جوعي إليهم. يكتُبُ الأرقُ على ورق جفني كل ليل ما تركوه فيّ من قصص متعبة من السفر، ويتركُ النسيانُ معولَه في خاطري فأقطفُ عن شجرة الذكريات وجوهَهم التي رأيت فيها وطني الحبيب حرًّا طليقًا.

في آخر الطريق أقولُ في نفسي: قبل أيامٍ معدوداتٍ كانوا هنا... حصدوا سنابلَ السنين وتركوا لنا قمحَ بسماتهم على بيادر الحزن والألم. قبل أيامٍ معدوداتٍ كانوا هنا... جاؤوا يحملون على أكتافهم بيوتهم التي تركوها قسرًا بعدما صاح "الديكُ ثلاثَ مرات"! جاؤوا يحملون دمعَ فلسطين في عيونهم، وبسماتها في شفاههم، وتراثها في ذكرياتهم التي يزرعونها كل سنة في مواسم الغربة فيقطفون عنها جوعَهم إلى الوطن الحبيب.

جاؤوا يحملون فلسطين كلها، يحملون ترشيحا ويافا وسحماتا... وخصلةَ نعنع قطفوها عند رحيلهم، وقطرةَ زيت سكبوها قبل عويلهم... وصوتَ العين في المغارة، وحطبَ الموقد لأغاني السمر، وقصةَ عشق تتدلى في نور القمر... ومفتاحَ الباب العتيق... دليلَ المسافر على جلية النهار...

فهذه فلسطين! رأيتُها أولَ مرة حين رأيتُهم، وقبلتُ يدَها يوم صافحتهم، وتنشقتُ نسيمَها عندما سمعتُ حصانَ عودتهم يصهل من بعيد...

في آخر الطريق لا أبلغُ ضفةَ الغياب! في آخر الطريق أعود إلى أوله كأنني ما مشيتُ خطوةً واحدةً ولا سفحتُ دمعًا على فراق الأحباء... في آخر الطريق لا أجدُ ظلي مسافرًا معي! أعودُ لأجمعَ أشلاءه فأراه مسافرًا إلى مخيم عين الحلوة... إلى الوطن الشريد... في آخر الطريق لا أسمع غيرَ هديل حمامة على شرفة الصباح فأنثر على جناحيها دمعَ أبي فراس الحمداني وغربةَ دانتي في جحيمه...

هذه فلسطين كلها من حولك، فماذا تريدُ بعد من وتر الكمان؟! كن من شئت أن تكون! مسيحيًّا أو مسلمًا أو بوذيًّا، كن البرّ والبحر، والسماء والهواء، أو واحدًا من آلهة هوميروس في الإلياذة... فهذه فلسطين كلها من حولك، وليس مهمًّا أن تكون من تكون، لأنك فلسطيني، ولك الدنيا وما عليها حين تكون في فلسطين!

وصاروخ الغزاة لا يقتل الذكريات، ومسامير الجلجلة وقعتْ عند ضوء القيامة... وأطفال اللاجئين يعودون كل يوم إلى فلسطين ليشربوا من آبارها، فلا يقدرُ الجنود أن يمحوا ما يكتبه الأسرى على جدران سجونهم، شوقًا إلى أولادهم وحنينًا إلى أزقة الحي الحبيب.

فماذا تريد مني أيها الغريب؟! أوتطلبُ هويتي وعلى وجهي سمرة البحر في يافا ولوعة المرحَّلين من وادي الصليب! أيها الغريب... أوتسألُ عن مسكني وأنا أحملُ قبرَ جدي على كتفي لأموتَ حيثما يطلبني الوطنُ السليب!

أيها الغريب، هنا فلسطين... فلا تعبثْ بلغتها عبثًا لأن على الزيتون قصصًا نقطفها كل عام، ولا يزال الصدى يبني كل سنة أعشاشه بأصوات اللاجئين... ليقول أبدًا: هنا فلسطين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى