الجمعة ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠
بقلم أمينة شرادي

زمن الكوفيد

التقيته صباحا، كنت ذاهبة للعمل. كان يمشي بخطى سريعة لكن خطواته كانت تتعثر وتتثاقل وهو يحاول أن يعيد محفظته الثقيلة الى مكانها أي تتربع خلف ظهره وفي نفس الآن يعدل من "كمامته" التي يبدو أنها كبيرة على وجهه الصغير والنحيل.

اقتربت منه محاولة مساعدته. لكنه ابتعد مني وهو يقول لي بصوت غير مسموع من تحت "الكمامة": "لقد قالت لي أمي يجب أن تظل بعيدا عن الآخرين" ابتسمت وقلت له وأنا بدوري أتنازع مع كمامتي التي أرهقتني:" كلامك صحيح. وجيد جدا أنك تسمع كلام أمك."
تركته وجسده الصغير في صراع أبدي مع محفظته الكبيرة وكمامته الواسعة.

ظلت صورته تحتل خيالي وتتأسف لعذابه في ذلك الصباح الباكر. قلت لنفسي " لماذا لم يحضر أحد معه من أهله لكي يساعده في محنته؟" وواصلت طريقي كأنني أبحث عنه. فجأة، وجدته باكيا وحزينا أمام باب المؤسسة والباب مقفل. سألته عن بعد لكي أحترم التباعد وعدم الاقتراب من بعضنا البعض:" ماذا حصل لك؟" لم يجبني وظل الخوف يستوطن ملامح وجهه النحيل. تمزقت "الكمامة" وسقطت المحفظة أرضا واتسخت بالتراب. واختلطت دموعه بالخوف والألم. أعدت السؤال بإلحاح. نظر الي وكله يرتجف:" لقد تأخرت عن موعد الدخول. وحاولت أن أجري لكي أصل في الوقت المحدد. فسقطت وتمزقت الكمامة وطردني الحارس. " قلت له وانا ما زلت احتفظ بالمسافة القانونية بيني وبينه:" سأساعدك. سأتكلم مع الحارس و أشرح له أنك تأخرت لأن محفظتك ثقيلة و لم تسنح لك أن تتحرك بسرعة و.."

حمل محفظته بين يديه ومسح وجهه كمن استسلم لحكم المحكمة ونظر الي وقال:" المشكل ليس في التأخير عن المدرسة. المشكل أنني ضيعت "الكمامة" وسأنال على هذا عقابا شديدا."

استغربت من تحليله للحالة. قلت كيف أنه لا يهتم للتأخير وباله مع ضياع "الكمامة"؟
اتكأ على حائط المؤسسة واحتضن رأسه بين يديه كأنه يحمل هم العالم كله. لم تكن معي "كمامة" إضافية، أعطيها اليه وأريحه من هذا المخاض النفسي. حاولت الاقتراب قليلا مع اتخاذ الحذر. كنت اود احتضانه وتهدئة روحه الصغيرة التي ترفرف من الخوف كطائر جريح. قلت له: "هل يمكنني مساعدتك؟" ظل مطأطئ الرأس كأنه ارتكب جرما فاضحا ويخجل من نظرات الآخرين وجعلني أسمع صوته بصعوبة كأنه يتكلم من بئر عميقة وقال لي: انها "الكمامة" الوحيدة ببيتنا. حصلت عليها أمي من عند جارنا. ولما أعود للبيت تغسلها وتستعملها هي أو أحد اخوتي"

تفاجأت لسماع هذه الحقيقة المرة. واستهزأت من نفسي التي كانت تصدق ما يقوله الاعلام. عن توفير "الكمامات" لكل الأسر. أسرة واحدة من آلاف الأسر الفقيرة والمتوسطة لا تمتلك ثمن شراء ما تحتاجه لحماية نفسها. فهمت ساعتها خوفه واضطرابه. لأن والدته بالبيت تنتظره لتأخذ "الكمامة" بدورها وتخرج تبحث لهم عن الخبز.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى