زهرة المدائن وأبواب التاريخ!
إن كل حجر فى روائع العمارة الإسلامية بالقدس العتيقة.. يحمل سطوراً من حكايات وأحداث من عمر الزمان.. ولكأن التاريخ يطوف نهارا فى أرجاء العالم ثم يستقر ليلا فى مدينته المفضلة "القدس الشريف".
كان أول عمل قام به السلطان صلاح الدين ابن يوسف الأيوبى مؤسس الدولة الأيوبية عند فتحه بيت المقدس استرجاعه الأماكن الإسلامية التى كان قد استولى عليها الصليبيون، وقد جدد محراب المسجد الأقصى وبناه بالرخام وأرّخ ذكرى فتح بيت المقدس فى سنة 583هـ/1187م. وهذه الكتابة موجودة الآن فوق المحراب المذكور. وأحضر المنبر الذى أمر بصنعه الشهيد نور الدين محمود بن زنكى سنة 564هـ/1169 خصيصاً لينقل إلى المسجد الأقصى عند فتح بيت المقدس.. وجدد السلطان صلاح الدين أسوار مدينة القدس وأبراجها التى كانت تهدمت، وشارك بنفسه فى تشييد الأسوار وتحصينها، ولا يزال جزء كبير منها موجوداً إلى الآن، وحفر الخندق الذى يحيط بسور المدينة من باب العمود إلى القلعة فى باب الخليل.
شواهد التاريخ نقرؤها على أسوار القدس العتيقة وأبوابها وعمارتها.. والسور الحالى ليس السور الذى أحاط بها عند تأسيسها، والأسوار الحالية وأبوابها العتيدة شيدت فى عهد السلطان سليمان القانونى 1537 - 1542 فيما عدا بعض بقايا السور والأبواب من العصور الصليبية.
عند البدء فى تنفيذ أمر "الباب العالى" إنطلق العمل من منتصف الجانب الشرقى للسور وبالتحديد عند باب "ستنا مريم" حتى إلتقى بعد عشر سنوات عند" باب الخليل" فى الجانب الغربى من السور، كذلك شيد السلطان سليمان سورا داخليا يحيط بالحرم القدسي الشريف، أقام فيه أبوابا من أجمل آثار العمارة الإسلامية فى القدس أشهرها: باب الأسباط وباب حطة.
باب يافا وإشتهر أيضا باسم "باب الخليل" يرتفع فى وسط الجانب الغربى لسور القدس، ويمتد منه طريقان أحدهما إلى مدينة يافا والآخر إلى مدينة الخليل حيث الحرم الإبراهيمى، وقد أغلق هذا الباب عام 1948 عقب الإحتلال الصهيونى للقدس الغربية.
وباب يافا كان على مر العصور هو بوابة الدخول للأجانب، وكان جنود الحراسة يغلقونه ساعة صلاة يوم الجمعة.. والإستثناء الوحيد كان عندما بقى مفتوحا للسماح للدوق "برايان" وقرينته واللذين تبوءا عرش بلجيكا فيما بعد، بالدخول راجلين إلى داخل القدس.. وفى ذاكرة التاريخ أن القائد الصليبى"جود فروا دى بوبون"دخل المدينة على صهوة جواده الأبيض، وعقب إنتصار جيوش الإسلام على الصليبيين، قرر"الناصر صلاح الدين"عدم السماح لأحد مهما كانت مكانته بدخول القدس على ظهر جواد!.. وتجدر الإشارة إلى أن الجنرال "اللنبى" عندما دخل القدس عام 1917، إقترح عليه مستشاروه أن يدخلها على حصان أبيض، لكنه رفض خشية رد فعل المقدسيين ودخلها مترجلا من باب الخليل.. وعلى مقربة منه ترتفع"القلعة التركية "الشهيرة والتى أطلق عليها اليهود: برج داود!
باب العمود:
ويعرف أيضا بباب "دمشق" كما أطلق عليه "باب النصر" عندما دخل منه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب".. وباب العمود يتوسط الجانب الشمالى من سور المدينة، ويعتبر المدخل الرئيسى إلى القدس العتيقة، ويمتد منه طريق شمالى إلى دمشق. شيد هذا الباب فى عصر السلطان سليمان القانونى، ولا يزال الباب يزدان بكتابة كوفية واضحة"لا إله إلا الله.
محمد رسول الله"وهو عبارة عن قوس ضخم يرتكز على برجين رائعين وإلى جواره بعض من بقايا السور المشيد فى العصرين البيزنطى والرومانى، وكان الباب المخصص لكبار الزوار فى عصر الدولة العثمانية وتجدر الإشارة إلى أسطورة تقول بأن موقع صلب السيد المسيح لم يكن فى مكان كنيسة القيامة، وإنما فى موقع آخر خارج السور بالقرب من باب العمود، وأن السيد المسيح سار عبر هذا الباب"حاملا صليبه"إلى خارج السور..!
باب الزاهرة:
ويعرف أيضا بـ"باب الساهرة" وأطلق عليه الإنجليز فى زمن الإنتداب "باب هيرودس"! .. عندما أعادوا فتحه فى نهاية الحرب العالمية الأولى، ويقع فى الجانب الشمالى من سور القدس على مسافة نصف ك.م شرقي باب العمود، وهناك أسطورة مفادها أن يوم الحشر ستجرى وقائعه على"تل الساهرة"شمال القدس وينسب إليه هذا الباب، والذى عرف أيضا بـ"باب الزهور" وقد اختلط هذا الاسم مع "باب الساهرة" إلى أن اشتهر باسم "باب الزاهرة"!
باب"ستنا مريم":
بالدوران حول السور من الزاوية الشمالية الشرقية باتجاه الجنوب فإن أول باب يصادفنا هو"باب ستنا مريم"الذى يطل على بركة ستنا مريم وكنيسة الجثمانية وقبر العذراء خارج سور القدس، ويحيط بالباب فى الجزء العلوى منه أسدان منحوتان من كل جانب، مما أدى الى ان يطلق عليه"باب الأسود"وتشير الروايات التاريخية إلى أن الخليفة عمر بن الخطاب هو الذى أتى بهذين الأسدين المنحوتين وأن السلطان سليمان القانونى عندما شيد هذا الباب أمر بوضعهما أعلى الباب، ويعرف هذا الباب أيضا بـ"باب الغنم"حيث كان سوق الجمعة لبيع وشراء الأغنام!
وفى عصر المملكة الصليبية سمى هذا الباب "باب القديس اسطفان "طبقا لإعتقاد ساد بأن هذا القديس رجم حتى الموت فى نفس المكان عام 39م وقد أمكن فيما بعد تحديد المكان الذى رجم فيه هذا القديس فى موقع المتحف الفلسطينى حاليا عند الركن الشمالى الشرقى من السور، وأطلق عليه الإنجليز"St. Stephan’s Gate"باب القديس ستيفين!
باب المغاربة:
ويعد هذا الباب أقدم أبواب القدس الشريف حيث شيد فى عهد الإمبراطور "هيرودس" ويطل على وادى "سلوان" الخصيب وهو أصغر أبواب القدس عبارة عن قوس مشيد على برج مربع. وفى العصر العثمانى، كانت أبواب القدس تغلق جميعها إلا فى حالات إستثنائية، فكان هذا الباب يفتح فقط لإمداد المدينة بالمياة.. وتجدر الإشارة إلى أن سلطات الإحتلال الإسرائيلى عقب حرب يونيو 1967 قامت بهدم هذا الباب الأثرى وهدم حى المغاربة بالكامل فى إطار خطتها لتهويد القدس بالكامل!
باب القلعة:
أنشىء هذا الباب فى عهد السلطان سليمان القانونى، وهو باب ضخم منفرج يفتح على ساحة داخل السور، وأطلق عليه المسيحيون "باب علية صهيون" وهى العلية القريبة من الباب خارج السور والتى تشير رواية تاريخية إلى أن السيدة العذراء قد عاشت فيها خمسة عشر عاما قبل وفاتها، ويقال أيضا أن هذه العلية هى التى شهدت "العشاء الأخير" الذى أقامه السيد المسيح لتلاميذه وحوارييه، ويسود إعتقاد بأن النبى داود مدفون هناك، بينما رأى آخر يذهب إلى أنه مدفون فى بيت لحم!.. وقد أطلق عليه الإنجليز"Zion Gate"باب صهيون وخلال حرب فلسطين عام 1948م أغلق هذا الباب لوقوعه عند حدود تقسيم المدينة، وقد أصيب بأضرار بالغة بسبب القذائف والرصاص الذى كان يطلقه الاسرائيليين على الفلسطينيين!..
الباب الجديد:
وهو الأحدث نسبيا، ويطلق عليه أيضا "باب عبدالحميد" نسبة إلى السلطان العثمانى عبدالحميد الذى شيده عام 1887 بناء على طلب الرهبنة الفرنسيسكانية التى رغبت فى إحداث باب فى السور يكون قريبا من دير الآباء الفرنسيسكان ويطلق على رئيسه "حارس الأراضى المقدسة"! ويروى أن فتح هذا الباب تم بمؤامرة تركية روسية فرنسية، ولما ثار المقدسيون أصدر السلطان عبدالحميد أمرا بعزل متصرف لواء القدس ورئيس البلدية!.. وهدأت الأحوال ولكن ظل الباب مفتوحا، وهو الذى دخل منه إمبراطور ألمانيا"غليوم الثانى"عند زيارته للقدس عام 1898.
الباب الذهبى:
وهو أعظم أبواب القدس وأكثرها فخامة، على مسافة 200 متر جنوبى باب الأسباط فى السور الشرقى ويؤدى مباشرة إلى داخل الحرم القدسى، ويعود إلى عصر الدولة الأموية، وهو باب مزدوج يعلوه قوسان، تمتد أمامه باحة مسقوفة ترتكز على أقواس فوق أعمدة كورنثية ضخمة، وقد أغلقه الناصر صلاح الدين عقب تطهير المدينة من الصليبيين، ويسمى المدخل الشمالى "باب التوبة" والمدخل الجنوبى"باب الرحمة"وفى الأساطير اليهودية أن"المسيح اليهودى المنتظر"سيدخل المدينة من الباب الذهبى، وأن أرواح المؤمنين الصادقين ستعبر هذا الباب فى طريقها إلى الجنة!
وكان لهذا الباب مكانة خاصة لدى المسيحيين حيث يعتقدون أن السيد المسيح دخل القدس من الباب الذهبى فى يوم "أحد الشعانين" وفى هذا اليوم من كل عام كانوا يحتفلون مارين من هذا الباب حاملين سعف النخيل!.. وقد أغلق هذا الباب مرة أخرى فى العصر العثمانى بسبب خرافة سرت بين الناس مفادها أن الفرنجة سيعودون ويحتلون القدس عن طريق هذا الباب!
وبالرغم من المخططات الشرسة لتهويدها وطمس هويتها العربية، ستظل عروس عروبتنا: الأرض والتاريخ والتراث الانساني في كتابات المؤرخين والرحالة وروائع الفنانين والمصورين وسيظل للقدس – مهما عابثتها نوائب الدهر – روحها الخاص التى تستعصى على المحو والضياع!