الجمعة ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
قصة قصيرة :
بقلم أحمد الطيب اسماعيل

سأرحل رغم أنى ..

كان الليل قد انتصف وهو لا يزال ممدداً في فراشه ، ناظراً إلي سقف الحجرة شارداً إلى بعيد ، يسترجع حلمه القديم ، حين كان في كتيبته ، كان يحلم بأرضه التي يعشقها ومنزل صغير يعيش فيه مع زوجة وأطفال حياة طيبة هادئة ... نهض من الفراش ، جلس فوق الكرسي الخيزران المواجه " للسرير" نظر إلي زوجته الغارقة في النوم ، تأملها في صمت، لم يعرف إن كان يشفق عليها أم علي نفسه ؟ ، هل هي تعيسة في حياتها مثلما هو أيضا؟ ، هكذا سأل نفسه ، ارتخى إلي الخلف،أخذ نفساً عميقاً، أغمض عينيه...

ــ هل سترحل؟ ، لمن ستترك أرضك التي تحبها؟
الدقائق تمر متباطئة قلقه ، يجوب بحدقة عينيه مترقباً الفراغ حوله ، عاود النظر إلي زوجته ، كانت قد غيرت من وضعها ، نظر إلي وجهها ، ملامحها صغيرة لم تنضج بعد ، ونومتها بريئة هادئة ، شعر برغبة قوية في أن يقبلها .
جلس إلي جوارها ، رفع خصلات شعرها البنية المتدلية فوق جبهتها ، قبل جبينها
ــ كم أخطأت بحقك ، حتي حياتك قد حرمتك منها .

استرخي إلي جوارها ، رآها بجسدها النحيف المعروق تنظف البيت وتخبز العجين وتذهب لتطعم الماشية ، ثم تجلس منهكة بملابسها المتسخة وقطرات العرق تتصبب من كل وجهها ، بالكاد تجذب أنفاسها وكأنها تستجديها ...
ضمها إليه ، لم يفكر في هذه اللحظة بأنها زوجته التي آلمته ، فكر بأنها فقط ابنة عمة المسكينة ، التي كانت تقف في النافذة تتأمل الفتيات وهن يلعبن في الشارع وحين ساقتها قدميها للعب معهن ، كان جزاؤها الضرب حتي سالت الدماء من كل جسدها ، لم يكن وقتها مدركاً حاجتها لذلك ، حتي حين كان يري نظرات عينيها وهي تترقب الفتيات وهن في طريقهن إلي المدرسة بزيهن الأزرق ، لم يكن يتفهم أن هذه الفتاه الصغيرة لها أحلامها المتكسرة التي تسحبها إلي عالم محرم عليها .
امسك بيديها ، وضعهما بين كفيه .

ــ لم يكن الأمر بيدي صدقيني ، لقد فرض علي مثلما فرض عليك، أنني أتألم من أجلي وأجلك.
تمني لو تسمع ذلك ، لو تفهم ما يفكر به ، نهض ، فتح حقيبته الموضوعة فوق "الدولاب" ، تأكد من وجود كل شي مكانه ، ثم أعادها حيث كانت ، وقف فــــي منتصف الحجرة تائهاً ، شعر بضيق ٍ يسرى فى بدنه ، بآلام الرحيل ، حين يُشد ذلك الخيط الذى يربط الإنسان بالمكان الذى ولد به ، يجذبه من قلبه فيؤلمه ويمزقه .

لبرهة ظل ُينقل بصرة بين صورته المنعكسة في المرآة وزوجته النائمة في فراشها
ــ كنت أريد روحاً تحلق معي ، زوجة ، تعيش حلمي ، وتكون جزءاً مني
تنهد في آسي ، استدار خارج الحجرة ، نزل درجات السلم إلي الطابق السفلي ، كانت أمه جالسة بردائها الأسود الفضفاض ، رآها من أعلي برأسها المرتكنة فوق راحة يديها ، وظهرها المقوس الذي تظهر أغلب عظامه ، حين شعرت بخطواته التفتت إليه.
ــ سترحل ؟ ، ترحل وتتركنا ، أي عمل أفضل من أرضك ودارك في بلد بعيد ، أنك لم تطيق الغربة حتي في أيام الدراسة .

جلس بين يديها ، قبلهما ، انصرف ، ماذا سيقول لها ، هل سيقول لها بأنه يشعر بالوحدة ، إنه يحلم بحضن ليس كحضن أمه ، حضن يشعره بأنه مازال حياً .
ترك الدار ، ظل يسير في خطوات متسارعة ، عابراً المنازل الطينية المتقزمه ، والحقول الواسعة البعيدة التي تحتضنها من كل جانب.

هناك عند منتصف الطريق الزراعي تقع أرضه ، وقف تشمم هواءها الممتزج برائحة الماء والزهر ، جلس بجوار شجرة التوت العجوز ، التي تظلل فروعها فوق الساقية ، سمع طقطقات خفيضة من أخشاب الساقية ... طوال النهار تدور الساقية بلا توقف أو ملل ، وحين يأتي الليل تأن بتعبها ، فكر بأن حتي الأشياء الصامتة ، يأتي وقت لتنفض عن نفسها آلام الحياة لتستطيع التحمل والتواصل ، مر وقت طويل غالبه فيه النوم ..

أفاق علي ضوء الفجر ، ينسل عبر فروع الشجرة ، نهض متثاقلاً ، سار وكأنه مرغماً علي المشي
حين دخل المنزل فتح الباب حسيساً ، كانت أمه تغفو وهي جالسه مكانها ، حمل حقيبته ، سار متسارعاً
ارتخى علي مسند الكرسي في القطار المتجه إلي" القاهرة" ، كان ضوء النهار قد عم عربات القطار ، شعر بأن هذا الضوء سكيناً بترته عن قريته ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى