السبت ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد هيبي

(ساحات زتونيا) مفاجأة سارة ورحلة ممتعة

عودة بشارات - من أول غزواتُه حمى عصاتُه ورفع راياتُه

كلكم تعرفون المثل الذي يذكركم به العنوان. عودة بشارات قلبه رأسا على عقب. عرفت صديقي عودة من سنوات طويلة وكانت لنا لقاءات عديدة. عرفته كاتب مقال سياسي أو اجتماعي أو كليهما معا. عرفته ناقدا سياسيا يتخذ غالبا السخرية الهادئة اللاذعة أسلوبا له. عرفته وعرفته ولكن، ما لم أعرفه عنه، وما فاجأني تلك المفاجأة السارة والممتعة جدا، هو أن يكتب عودة الرواية وينجح في بنائها و"مضمنتها" ذلك النجاح الذي لا يتأتى لكل مغامر. وأنا أعتبر ما قام به عودة هو مغامرة، ليس من باب التهكم أو التجني أو عدم القدرة، وإنما من باب المفاجأة، السارة كما ذكرت، لأنني لم يسبق لي أن سمعت، لا من عودة شخصيا ولا من غيره من أصدقائنا المشتركين، أن لديه مثل هذه الموهبة، أو كانت له محاولات سابقة في الفن القصصي. هذا الأمر جعل متعتي بـ "ساحات زتونيا" مضاعفة بل لا أبالغ إذا قلت مثلثة. فقد استمتعت، أولا، بأن صديقي عودة اختارني واحدا من بين أولئك المحظوظين الذين منحهم شرف إهدائه روايته لهم. وثانيا، استمتعت بقراءة الرواية وأسعدني أن أجوب "ساحات زتونيا" وأتعرف على أشخاصها وأجد نفسي واحدا من سكانها. وثالثا، استمتعت بقدرة عودة أن يأسرني بعناصر تشويقه من الغلاف إلى الغلاف، ولذا فأنا أتفق مع كل من سبقني إلى قراءة "ساحات زتونيا" ووصفها بأنها تقرأ من الغلاف إلى الغلاف. وعليه فقد كانت "ساحات زتونيا"، كما ذكرت وبحقّ، مفاجأة سارة ورحلة ممتعة، فيها متعة للنفس والروح والعقل معا. وكان عودة بشارات في "ساحات زتونيا" كاتبا يستحق أن نقول فيه "من أول غزواتُه حمى عصاتُه ورفع راياتُه".

ليس ما قلته حتى الآن مجاملة لصديقي عودة بشارات ولا تشجيعا له، لأنني أنا الأحوج إلى تشجيعه لي من حاجته إلى تشجيعي له، إنما كان ذلك واقعا لمسته من خلال قراءتي الأولى للرواية.

كتابة الرواية هي الأصعب بين الأعمال السردية المختلفة، وكل الباحثين متفقون على أن بناء رواية والحفاظ على قيمها الجمالية والمضمونية أنما ذلك مهمة لا يستطيع بلوغها كل من قال أو يقول أنه سيكتب رواية، وقد بلغها فعلا كل من وضع بين أيدينا روايته أو رواياته واقعا نقرأه ونستمتع بقراءته أو بقراءته ونقده أيضا. ولقد تمكن عودة بشارات في تجربته الأولى "ساحات زتونيا" من أن يقدم لنا هذا الواقع.
الأمر لا يعني، حتى الآن، أن رواية "ساحات زتونيا" هي رواية كاملة متكاملة وأنه لا يوجد فيها ما يمكن نقده. ولكن لا يجب أن ننسى، كقراء وكنقاد، أنها تجربة أولى ناجحة وواعدة. ولذلك سأكتفي، بعد قراءتي الأولى لها، بكلمات قليلة حول ما قدمته هذه الرواية، خاصة وأن النقد العميق والجاد يحتاج إلى أكثر من قراءة.

من حيث المضمون سوف لا يخفى على أي قارئ، مهما كان مستواه الثقافي، أن يكتشف ما يرمي إليه الكاتب من استعراض حياة مجتمعنا، القروي بغالبيته، في فترة زمنية معينة أجاد الكاتب في اختيارها، لأننا عشية كل انتخابات ومن اللحظة الأولى للمعركة الإنتخابية وحتى يوم الإنتخابات، الذي أجاد الكاتب أيضا في إغلاق روايته بنهاية مفتوحة، قبل وصوله، في هذه الفترة الزمنية يعرض مجتمعنا كل قيمه الإيجابية الطيبة والسلبية السيئة، ولذلك في اعتقادي ليس من قبيل الصدفة اختار الكاتب هذه الفترة الزمنية لروايته لكي يشدّ على أيدينا في ما هو خيّر وطيّب في مجتمعنا، المجتمع العربي الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة عام 1948 (إسرائيل)، ويستعرض كل مشاكلنا ونواقصنا وقيمنا الفاسدة التي لا شك أنه لم يستعرضها بالشكل الذي استعرضها فيه إلا ليقول لنا: كفى، آن لنا أن نتخلص من هذه المشاكل والنواقص والقيم الفاسدة.
أما من حيث شعرية الرواية وما فيها من قيم فنية وجمالية فأنا أرى أن الكاتب جند كل العناصر الفنية لخدمته بأسلوب فني بسيط، خال من التعقيد ولكنه ناجح وشيّق ويتفق مع تجربته الأولى.

"ساحات زتونيا" هي رواية ربما يصحّ أن نقول فيها أنها رواية شخصيات وأحداث، شخصيات وليس شخصية، لأن شخصية خالد الموصلي لم تهيمن على الرواية كما يتطلب من شخصية مركزية، وقد أفسحت المجال أمام شخصيات أخرى كثيرة في الظهور. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لأن الزمان والمكان فيها لم يستغلا بالقدر الكافي، وشعورنا بهما يكون فقط من خلال حركة الشخصيات وتطور الأحداث. لقد أجاد الكاتب كما قلت في اختيار الزمان وتحديده، ربما بضعة أشهر أو سنة أو ستة عشر شهرا على الأكثر(سأشرح لماذا اخترت هذا الرقم لاحقا)، هي الفترة التي تسبق الانتخابات البلدية في السلطات المحلية العربية في فلسطين المحتلة عام 1948 (إسرائيل)، وهو مناسب تماما لأحداث الرواية، للموقع الذي انطلقت منه وللكلمة التي جاءت تقولها. وبقدر مماثل نجح في اختيار المكان "ساحات زتونيا" قرية يمكن أن تكون أية قرية من قرانا العربية، وأحد أسرار نجاح عودة بشارات في اختيار المكان، إلى جانب ما تقدم، وبشكل خاص، لأنه جعلني أحسّ أثناء قراءتي للرواية أن زتونيا هي كابول وأنني واحد من سكانها. وأنا على ثقة أن قارئا طمراويا سيشعر أنها طمرة، وشفاعمريا أنها شفاعمرو وهكذا. إذن زتونيا هي قرية الجماهير العربية الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة عام 1948 (إسرائيل). سر آخر من أسرار النجاح في اختيار المكان، القرية، هو إمكانية مقارنته، مقارنة مجتمع القرية، مع مجتمع المدينة الذي يبدو أكثر انفتاحا في التعامل مع بعض الأمور الهامة وعلى رأسها قضية المرأة التي ما زالت تعاني انغلاق المجتمع الذكوري في القرية.

قبل العودة إلى الشخصيات والأحداث أرى أن أقف وقفة قصيرة مع الراوى. من هو الراوي؟ ربما ليس من قبيل الصدفة أيضا اختار الكاتب لوجهة النظر أو زاوية السرد راويا حياديا وليس عليما بكل شيء، أنما هو شاهد حاضر يرى كل شيء ويرويه لنا. حيادية الراوي في السرد أكثر ما تبدو من خلال حياديته في التعامل مع الشخصيات، وإذا أخذنا شخصية خالد الموصلي التي تبدو الشخصية المركزية في الرواية، لا نستطيع أن نحدد موقف الراوي منها، فهو لا يوجهها ولا يساندها وبالتأكيد لا يناصبها العداء، ولذلك من الصعب أن نرى الراوي ومواقفه من الشخصيات تمثل الكاتب ومواقفه منها، سواء كان ذلك على الورق أو في الواقع. وربما يجدر بنا هنا أن نبعد عودة بشارات السياسي ذا المواقف اليسارية الواضحة التي لا يمكنها أن تتفق أو تتهادن مع كل شيء، وخاصة السلبي الذي لا ينفع الناس، ويجدر بنا أن ننظر إلى عودة بشارات الإنسان الذي يحب "زتونيا" بكل ما فيها، حجرا وبشرا، يحبها ويحب سكانها جميعا على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومشاربهم. يعرض لنا سيئهم بسيئاته ولكن، يعرضه أيضا بالوجوه التي يحبه أن يظهر بها في مجتمعه. وربما خير مثال لذلك شخصيتا "سامر الفتخ ونبيل الخالد"، فرغم ما في مجتمعنا من سلبيات تكاد تقتل ما فينا من أيجابيات إلا أن عودة بشارات لا ينفض يده من هذا المجتمع ولا يتبرأ منه كما فعل أهل زينب وحسناء. بالتأكيد نستطيع أن نرى الكاتب، عودة بشارات الإنسان يقف وراء الراوي، يوجهه ويتحمل مسؤولية إبقائه حياديا.

"ساحات زتونيا" تعجّ بالأشخاص كما زتونيا نفسها. وهي شخصيات أقرب إلى النمطية إذ لا نكاد نتعرف على أي شخص من شخوص "ساحات زتونيا" إلا ونجد له نمطا شبيها يقابله في زتونيا الواقع. هذا الكم الهائل من الشخصيات، التي بناها الكاتب بقدر كبير من النجاح، لم تجئ لتخدم الشخصية الرئيسية وإنما، في رأيي، أوجد الكاتب الشخصية المركزية ليصل من خلالها إلى كل هذه الشخصيات التي رأى أنه لا يستطيع أن يهملها إذا أراد أن تصل رسالته، وفي رأيي فقد نجح في توصيل الرسالة. عودة بشارات السياسي اليساري لا يمكن أن يتفق مع خالد الموصلي الذي يتخذ من الشعارات المفرغة، أو التي سرعان ما ستفرغ، من مضمونها صبيحة اليوم الذي يلي يوم الإنتخابات، يتخذها مطية لتحقيق مآربه الشخصية والعائلية، ففي سبيل الشخصية والعائلية لا تضرّ بعض البهارات مثل الدمقراطية والليبرالية والأجيال الشابة وحتى حقوق المرأة. هذه كلها لا يمكن أن تكون بهذه السطحية عند كاتب يساري مبدئي مثل عودة بشارات، ولكن بالطبع هي موجودة عند خالد الموصلي الموجود في كل قرية من قرانا، ورغم وجوده وخوضه التجربة بشكل نعارضه إلا أننا ليس فقط لا نغمطه حقه وإنما نحترم حقه في خوض تلك التجربة بالشكل الذي يراه هو مناسبا، إيمانا منا بما قاله أحد الفلاسفة: "إنا لا أقرّ شيئا مما تقول ولكنني على استعداد للموت من أجل حقك في أن تقول ما تريد".

ما انتهجه الكاتب في رسم الشخصيات وبنائها قام به كذلك في سرد الأحداث وتطويرها. فإذا رأينا أن الحدث المركزي هو خوض خالد الموصلي للانتخابات نرى كيف نجح الكاتب بتطوير الصراع من خلال تطويره للأحداث. فمن جهة هذا الحدث ليس مقصودا لذاته إلا بقدر ما هو حدث موازٍ لأحداث كثيرة في أهميته وأحيانا أهم، هي ذات علاقة به وأحيانا ليست كذلك، ولكن الكاتب إتخذ هذا الحدث كأداة لنبش الأحداث الأخرى. هذه الأحداث، التي تبدو بسيطة ولا نراها كل يوم فقط بل نعيشها، بدت غاية في التعقيد كانعكاس لتعقيد الصراع الذي بدأ كاستجابة لفكرة، كانت الشرارة التي أشعلت النار في الهشيم، وتطور الصراع تدريجيا ليتحول من صراع داخلي نفسي إلى صراع خارجي سياسي واجتماعي، صراع مع الزوجة والأولاد، مع العائلة (الحمولة)، مع القيم السياسية والاجتماعية، ومع المواقف السياسية والجتماعية كذلك. حاول الكاتب ملامسة الأوضاع الإقتصادية ولكن في رأيي لم يعطها ثقلا كبيرا في روايته ومثلا لذلك أوضاع خالد الموصلي الإقتصادية، التي تدهورت بسبب الإنفاق على المعركة الإنتخابية، لم نرها تساهم في تعقيد الصراع الداخلي أو الخارجي في الرواية. ذلك بالتأكيد له أسبابه. كأني بالكاتب أراد أن يقول أننا في مجتمعنا العربي، وفي مثل هذه المعارك، لا نحسب حسابا للخسائر المادية حتى لو كانت النتيجة خرابا للبيوت.

آثر الكاتب، وبحق، أن يبقي نهاية الرواية مفتوحة. هذا الأمر، يوفر على الكاتب مسألة حسم الصراع ليحملنا نحن القراء، أو نحن سكان زتونيا الواقع، مسؤولية حسمه. لا أشك في أن ذلك هو ما يريده عودة بشارات وهو أمر أوافقه الرأي فيه.

أما من حيث الأسلوب فلا أدري حقا لماذا اختار الكاتب أن يوزع روايته على ستة عشر فصلا، ربما تكون هنالك علاقة، جدلية بالطبع، بين عدد فصول الرواية وعدد الأشهر التي يتكلم فيها الناس حول الانتخابات القادمة ويعدّون لها، وهي المدة التي تحتاجها تقريبا أحداث مثل أحداث "ساحات زتونيا"، ربما!.

لقد فاجأنا الكاتب بأسلوبه البسيط السهل والشيق في آن. فقد استطاع أن يحبك نسيج روايته من كمّ هائل من الأحداث والأشخاص بدون أن يغفل العلاقات بين هذه الأحداث وهذه الأشخاص من جهة، وبين الزمان والمكان من جهة أخرى، وقد تحدثت عن العلاقة مع الراوي سابقا. ربما كانت هذه العلاقات قابلة أكثر للتطوير والتعميق، خاصة علاقات الأحداث والأشخاص بالزمان والمكان ولكن هذه الورقة السريعة، وبعد القراءة الأولى للرواية، لا تتسع لهذا الحديث الذي يحتاج إلى قراءة أعمق ودراسة أوسع وأشمل. ومع ذلك فقد حافظ الكاتب على عنصر التشويق على امتداد الرواية، حيث أن اختيار الأحداث والشخصيات والمفاجآت العديدة والفجوات والجرأة التي أظهرها الكاتب في استعراض بعض الأحداث التي ما زال مجتمعنا يراها من المحرمات، على سبيل المثال لا الحصر، قضية سلوى التي تريد إنجاب ولد وهي غير متزوجة. كل هذا جعلنا لا ننسى أي حدث أو أي شخص من أحداث الرواية وأشخاصها، حتى لو تركه الكاتب إلى حين ليفاجئنا بغيره من أشخاص وأحداث تكاد لا تنتهي.

لقد اختار الكاتب الأسلوب القريب من الأسلوب الصحفي وهو أسلوب كثيرا ما ينطوي على السهولة والمفاجآت، الأمر الذي زاد في تشويقنا، إلا أن هذا الأمر انعكس على اللغة التي جاءت هي أيضا قريبة من لغة الصحافة وما فيها من انتهاكات للغة وخاصة لمستوياتها العليا. ومع ما في ذلك من ضعف يظهر واضحا في السرد والحوار معا، إلا أننا رأينا قدرة الكاتب على التنقل بسهولة بين المستويات المختلفة لهذه اللغة التي تمثل مستويات أصحابها، من اللغة الفصحى الخاضعة لقواعد النحو والصرف، وإن كانت هنالك أخطاء كان من الممكن تفاديها، إلى اللغة العامية بكل ألفاظها وتراكيبها، حتى النابي منها أحيانا، والذي لم يتحاشاه الكاتب كدليل على جرأته في تناول الأحداث وبناء الشخصيات وجعلها تلامس الواقع إلى حد كبير، وإلى استعمال مصطلحات من خارج اللغة العربية، ربما فرضها واقع مجتمعنا وتأثره باللغات المحيطة به من جهة، وسخرية الكاتب من استعمال هذه المصطلحات ومن مستعمليها الذين يجمّلون بها لغتهم وشخصياتهم ليقنعوا الآخرين وخاصة الناخبين.

رغم كل ما يمكن أن تفرزه دراسة عميقة، جادة، واسعة وشاملة، من ضعف وأخطاء وقع فيها الكاتب، تظلّ "ساحات زتونيا"، كتجربة أولى للكاتب، عملا روائيا حقق فيه عودة بشارات قدرا كبيرا من النجاح، وهو عمل واعد ومبارك نرجو له أن يكون أول الغيث الذي عمّا قريب سينهمر وبغزارة.

وأخيرا أعود وأؤكد أن هذه الورقة هي ليست دراسة بقدر ما هي استعراض لرواية استمتعت بقراءتها وكلي ثقة أنها ستلقى استحسان القراء على اختلاف مستوياتهم الإجتماعية والثقافية.
(كابول)

عودة بشارات - من أول غزواتُه حمى عصاتُه ورفع راياتُه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى