الخميس ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٢٢
بقلم الهادي عرجون

سدين حديث امرأة بلا رأس

قلق وجودي أم صفحات من مذكرات امرأة؟ للكاتب سالم شرفي

أن تكون أنثى محملة بثقل الواقع ومرهونة بجملة من الاعتبارات الاجتماعية، وما تعانيه من مرارة وانكسارات تحطم ارادتها و تقيد حركتها، ليولد من رحم الوجع والظلم الإنساني ذلك الأمل، حين تبني من الوجع هويتها وكيانها الأنثوي، وهي تتذوق ثمرة الأمل المحاط بحالة الفوضى والسكون، فوضى صنعها القدر، تحاول ترتيبها وتتأقلم معها، ولكن هناك من ينكر هذا الترتيب وتأسره الفوضى، ليولد من رحم الصّراع والفوضى شكل إبداعيّ جديد يختلف اختلافا كبيرا عن المصطلحات المألوفة وبنمطيّة جديدة اختار لها من الأسماء ،سدين، التي صدرت عن دار أديب للنشر والتوزيع سنة 2021، منذ البداية نكتشف أن الشاعر والكاتب سالم شرفي وظف رواية ،حدث أبو هريرة قال..،للروائي محمود المسعدي بمبانيها وجزء من معانيها متبنيا أفكاره ومتخفيا بعباءته، واقتفى أثره في حديث بحديث، فهل نحن إلا أحاديث قبل أن نكون حدثا؟ وهل نحن إلا أسماء وكلمات قبل أن نكون أرواحا تسافر عبر الزمن؟ تلك هي أحاديث سالم شرفي.

الذي يقول في تصدير الكتاب ،إننا لا نمكث أبدا في الزمن الحاضر بل نحن نتوقع المستقبل نظرا إلى بطء إقباله... نحن غير محتجزين لدرجة أننا نتوه في أزمنه ليست في حوزتنا"(ص5) والتي أراد الكاتب من خلال هذه الكلمات أن يرسم جغرافية مرور القارئ عبر ثنايا النص ليعلمنا كيف نلج نصه ليخاطب ذلك الحاضر الغائب (الزمن)، ليبتعد بذلك عن التّلميح والإيحاء وأساليب الإخفاء لتجد الحرية والانعتاق ويطفئ حرائق الألسن ونظرة المجتمع. حيث يعالج من خلال هذه الرواية واقعا اجتماعيا ونظرة تجاه المرأة تحكمها العادات والتقاليد وتأسرها حكايات الناس وأحاديثهم والقيل والقال. «الفتيات حين يبلغن يصبحن قنبلة موقوتة وجب التخلص منهن قبل حدوث الكارثة» (ص28).

والمرأة (سدين) وما تعنيه هذه الصفة، هو ذلك الضلع الحسّاس بالمجتمع، الذي يرفض المواجهة، خوفا من الأحكام المسبقة أساسا، فهي المتمردة، الأنانية، غير الحكيمة، المُخطئة، وغيرها من الأحكام التي سبق تجهيزها من قبل الآخر، والتي تقف عاجزة أمام كل الوسائل لتغيير هذه الأحكام، فتختار –في كثير من الأحيان-الانطواء والانزواء، والصمت، حتى يحين وقت التمرد على كل هذا المسلمات فتكون المواجهة والوقوف في وجه التيار. وما تعانيه من نبذ في المجتمع وفي علاقتها الضدية بين،الواقع الذي يقضم التفاصيل بناب عجوز،وبين،الحاضر الذي لا يعرف غير النزق"(ص12) وبين مجتمع الرجال والنساء على حد السواء، لذلك نرى البطلة من خلال هذه الرواية في محاولة جريئة لتفضح سر الرجل وبعض من أسرار النساء.،الحب ليس رواية...هي وردة حمراء ندية في حقل أسود...هو تاريخ النساء وحدث عابر للرجال...الرجال الذين يفكرون بنصفهم الأسفل...رأسهم هناك..."(ص16).

كما نلاحظ أن هذه الأحاديث عبارة عن رسائل الحاضر للماضي ورسائل الحاضر للمستقبل ليكون الحب سفر في الزمان والمكان، وهو يقلب ذاكرة الماضي ويخط خطوطه على مرآة تعكس الواقع الاجتماعي، ليكون التحدي محاولة للانطلاق والانعتاق وهو ما بدا في قول البطلة «لن أكون حطبا للذاكرة أو أكون خرافة تتسلى بها النساء في ليالي الشتاء الطويلة. لا أريد أن أكون نسخة عن غيري أو أن أرث الماضي، لست روحا تنتقل عبر الأجساد...» (ص65-66).

ونحن نتصفح الأحاديث التي جاءت قصيرة نسبيا، والتي تبدو عبارة عن إشارات أو في شكل ومضات مقارنة ببعض النصوص جاءت أطول منها. وقد عمد فيها الراوي إلى رواية ما يمكن أن يقع وليس الأمور التي وقعت فعلا، فهو يستبق الأحداث وينفي أخرى ليروي لنا الأحداث التي لم تقع ولم تخطر على بال القارئ وهي خاصية تخييلية لا تنقل الأشياء كما هي، وإنما توصلها توصيلا خاصا ينطوي على إدراك ذاتي متميز، مثلما ينطوي عن موقف من الأشياء والقيم انفعالات وآراء تقود إلى موقف من الأحداث التي تثيرها الرواية لتكون الواقعية أسلوبه في أكثر الأحيان.

وفي خضم هذا الصراع الداخلي بين المرأة (الأنثى) والذات المتمردة على الواقع، تظهر شخصية المرأة الباحثة عن سكون الحياة والحب، المرأة التي سرق منها الزمن السعادة، وتفنن في قضم تفاحة الأمل الباقية والمرهونة بطبيعة المجتمع، وأحاديث الناس، والعادات والتقاليد، التي جعلت من المرأة رهينة تلك العادات وما يصاحبها من بحث عن الخلاص والانطلاق والتحدي تحدي المجتمع والبيئة التي تحيط بها ليكون الأمل. فكان صوت الحوار الباطني يستمر لبعض الوقت ثم ينقطع مع كل حدث كبير، وليقع أجراس الواقع الذي تعيشه البطلة (سدين) في تلك اللحظة ليستمر بعد حين من الصمت ويعود صوت الباطن من جديد «يا للطيش الذي قيل عنه طيش... يا للعدوى التي قيل عنها عدوى... يا للجمال الذي يفقد هذا الاتزان ويلوذ بالشهوة...» (ص11).

ورغم ما تحمله تلك الذكريات من ألم وحزن إلا أن أبواب الأمل والحلم مفتوحة رغم ما تحمله شخصية سدين من قلق وجودي، فهي شخصية متعثرة بين القوة والضعف والانكسار، بين الأمل والألم والانهيار، لتسرد لنا بعض ما ادخرت ذاكرتها الفتية وتجربتها الشخصية، وما عانته من ألم وانكسار في الحياة. لتخرج تلك الذكريات في شكل صور تذكارية وومضات حدد من خلالها واقع وحياة بطلته المستقبلية دون اكتراث لطبيعة الواقع المعيش بما فيه من عادات وتقاليد، يتحدى من خلالها نظرة الرجل الشرقي والمجتمع عموما.

كما أن الكاتب سالم الشرفي يقرأ علينا صفحات ربما من مذكرات سدين عبر ضمير الغائب (هي) مع استخدامه في بعض المواضع لضمير (الأنا)، ليفيد انتقال الصوت من الأنا إلى الآخر القابع في ذات السائل والمسؤول، ربما ليوهم القارئ بأن هذه الشخصية، شخصية حقيقية غير منفصلة عن الواقع متجذرة فيه. وهو ما يجعل هذه الرواية عبارة عن سيرة ذاتية تتحول عند الكاتب إلى مسكن هادئ يتلذذ بالعيش فيه رغم ما فيه من قلق وحزن وألم، فالكاتب في النهاية غايته إيصال صوت المرأة والتعبير عن خوالج ذاتها. رغم ما يحمله قلمه من مسحة الحزن في عالم مادي لا يؤمن بالمثل النبيلة والقيم.

فالروائي يتجاوز الزمان ليختزله في (الليل) مرتع السكون والأحلام «منتصف الليل هي اللحظة التي تمزق نومي وسكون العالم» (ص09)، كما يتجاوز المكان ليخزله مثلا في مكان جزئي يتمثل في الفراش وباب البيت أو كليا البيت والغرفة والكهف، في حين أن الزمان والمكان في العمل الروائي يمثل قيمة متخيلة مشبعة بعناصر جمالية مفعمة بالحركة التي من شأنها التأثير على أحداث النص.

فسدين تمارس رحلة الذات الملغزة الموسومة بالرغبة الوجودية في الخروج من الحلقات المفرغة ومن الحلم القابع في ذاكرتها «لا أريد أن أجعل من حياتي أسطورة. أنا امرأة مثل كل النساء. أريد أن أعيش حياة بسيطة...هذا كل ما في الأمر» (ص65)، لتنتقل من سديم الذاكرة والاحلام إلى قسوة الحاضر. لتنتقل الاحداث من الزمان إلى المكان عبر الدهشات والصدمات والمفاجآت بمعناها المباغت فلا طريق يؤدي إلى رغبتها دون هذا الطريق.

أما بخصوص كثرة الاستفهامات في الرواية التي يحتمي بها السارد، هي أسئلة منبثقة عن رغبة غير واضحة في الحصول عن إجابات هي في الأصل موجودة في شكل تهويمات تتمادى وتتمدد كلما عبر بنا من حديث إلى آخر فالبطلة تمارس بجملة من الأسئلة منطق السؤال الوجودي الراغب في السؤال الذي يتناسل عنه السؤال تلو الآخر بلا نهاية، فلا يدري الراوي عن أي سؤال سيجيب في النهاية لنخرج دون أجوبة بل ونحمل أسئلة أخرى نرغب في الحصول عن إجابة عنها. «ماذا تحاولين فعله؟ عبثا تحولين حياتك إلى رواية. ثم ماذا؟ تحاولين أن تستجمعي أطراف الأحاديث لتشكلي منها هيئة للحقيقة. أية حقيقة؟» (ص71).

وقد استعمل الكاتب الاستفهام البلاغي الذي لا يتطلب جواباً وإنما يحمل من المشاعر أغراض بلاغية عديدة منها: التشويق-الإنكار-النفي-التمني–التقرير-التهكم والسخرية-التعجب – المدح والتعظيم – الاستبعاد – الأسى والحسرة-التسوية وغيرها من الدلالات التى تفهم من خلال السياق وتعرف من خلال الموقف الذي يقال فيه وحالة الأديب النفسية والجو الشعوري المسيطر على الحدث ويظهر ذلك من خلال قوله: «هل هو الانتقام يا سدين؟ ممن؟ من جسدي؟ ولماذا؟ هل كان زوجي،ضياء،على صواب؟ هل كنت مخطئة؟» (ص70).

وفي الختام يمكن القول إن رواية سدين وافقت بين الحلم والواقع بين الخيال والشك تتصارع فيها العادات والتقاليد لتنتصر بدورها رغم تغيرها من الريف إلى المدينة فالعادات تسيطر على الواقع وتفتح أجنحتها على الخيال ليكون هذا الأسلوب من الأدوات التي استعملها الكاتب في صياغة روايته ابداعيا وجماليا مع قوة طرح الأسلوب والمضمون بلغة رصينة أقرب إلى لغة الربة،صهبا،في رواية السد لمحمود المسعدي. ليتجاوز اللغة إلى الكلام، وإلى العبور من الكلام العادي إلى الكلام غير المألوف ليتجاوز اليومي إلى صورة تتغير في الطبيعة الذهنية للمدلول ليحقق الحدث وظيفته في الرواية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى