الثلاثاء ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١
بقلم محمد زكريا توفيق

سقراط يواجه السفسطائيين

الفلسفة اليونانية القديمة، كانت تفرق بين المادة والعقل (أناكساجوراس)، وبين الطبيعة والإنسان. لكن إبان نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس قبل الميلاد، انصرفت الفلسفة اليونانية منذ ذلك الحين إلى الإنسان وخصته بالبحث والدرس. كان أول من شق هذا الطريق هم جماعة السفسطائيين.

لم يكوّن السفسطائيون مدرسة فلسفية لها آراءها الخاصة التي تربطها عقيدة فكرية منظمة. إنما كانوا طائفة من المعلمين، متفرقين في بلاد اليونان، يتخذون التدريس حرفة. كانوا يرحلون من بلد إلى بلد، يلقون الدروس ويتخذون لهم تلاميذ. يتقاضون على تعليمهم أجرا.

لم تكن دروس السفسطائيين للطلبة موضوعات فلسفية تقليدية عن الحقيقة و الصدق وخلافه، إنما كانت دروسا تشرح طريقة اقتناص الفرصة، والوصول إلى السلطة. أو تمارين لإجادة فنون المناظرة والإقناع. وكانت محاضراتهم، تشمل أيضا دروسا في التاريخ وقواعد اللغة والنحو. لكنهم أهملوا تدريس الرياضيات والفيزياء.

أشهر السفسطائيين هو بروتاجوراس (490 – 420 ق م). كان يقول ما يفيد بأن الطريق للوصول إلى النجاح، هو الاعتراف بعادات المجتمع وقبولها.

لا لأنها صحيحة، ولكن لأن هذا أفيد للفرد الراغب في النجاح. أو كما نقول نحن بالبلدي "خليك مع الرائجة"، و "اركب الموجة". إذا كانت الموجة هي موجة الإسلاميين، فلنكن إسلاميين.

بالنسبة لبروتاجوراس، ليس هناك عادة صحيحة وأخرى خاطئة. العادة ببساطة قضية نسبية. ليست العادة فقط، ولكن كل شيء نسبي. يخضع لحكم الشخص وتقديره.

لذلك جاء قول بروتاجوراس الشهير: "الإنسان مقياس للأشياء". وهو بذلك يكون أول من فكر في قوانين النسبية. ويقول البعض أنه قد ألهم ألبرت أينشتاين بفكرة النسبية. فلا يوجد جديد تحت الشمس.

فمثلا، ثقافتنا الشرقية تعطي اهتماما بالغا لعفاف المرأة وشرفها. لكن الإسكيمو عندما يحل عليه ضيف، يترك زوجته تشاركه الفراش، كنوع من حسن الضيافة والكرم. وعندما يكون القمر بدرا، يطفئون المصابيح ويتبادلون الزوجات. الشرف هنا نسبي كما يقول بروتاجوراس. يختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان.

أفكار بروتاجوراس كانت هي أساس أفكار السفسطائيين. لكن بروتاجوراس تم اتهامه بسب الآلهة، وأحرق كتابه في ميدان عام بمدينة أثينا. بعض السطور القليلة التي أنقذت من الحريق كانت تشكك في وجود الآلهة وتقول: "أنا لا أعرف شيئا عن الآلهة".

سفسطائي ثان هو جورجيوس (483 – 375 ق م). حارب الفلسفة وأراد أن يسقطها من عليائها، وقام باستبدالها بعلم البيان. في محاضراته وفي الكتاب الذي ألفه، أثبت المقولات الثلاثة الآتية:

- ليس هناك شيء موجود. (يعني خلاها ظلمة)
 إذا كان هناك شيء يمكن معرفته، فلا يوجد من يعرف هذا الشيء. (الناس كلها أغبياء)
 إذا عرف شخص ما شيئا معينا، فلن يستطيع نقل هذه المعرفة إلى شخص آخر. (اللغة قاصرة وبظرميط)

الفكرة هنا أنك لو استطعت برهان هذه التخاريف الثلاثة، فيمكنك برهان صحة أي شيء.

يأتي بعد ذلك سفسطائي ثالث، هو سراسيماخوس المعروف بالقول المشهور: "العدالة تكون دائما في جانب الأقوى".

ونحن نعرف الآن، من تجاربنا المريرة في الحياة وفي نظم الحكم، أن القوانين مثل بيت العنكبوت. يتلعثم فيها الضعيف ويمزقها القوي.

حزب الوفد في بلادنا يتبنى مقولة سعد زغلول: "الحق فوق القوة"، وسراسيماخوس يقول "القوة فوق الحق". ونظم الحكم في بلادنا تثبت أن سراسيماخوس كان أصدق من سعد زغلول وحزب الوفد.

الكلام عن الأخلاق هو في الواقع صراع خفي على السلطة. قضية الحجاب والنقاب في بلادنا اليوم، حسب رأي سراسيماخوس، هي قضية بسط نفوذ واستعراض عضلات، قبل أن تكون قضية أخلاق.

اثنان آخران هما كاليكليس وكريشياس. كانا سفسطائيين ساخرين. كاليكليس كان يعتبر أن الأخلاق التقليدية هي مجرد أمل الضعفاء والمساكين في كبح جماح الأقوياء.

أنا غير قادر على هذا المفتري الذي يحتكر السلطة وينهب ثروات البلد ويبني القصور ويهرب الأموال. لذلك أنادي بالأخلاق الحميدة وأتوسل للطاغي لكي يلتزم بها.

التوسل والاستعطاف هو الخيار الوحيد الباقي للضعيف. خيار السلام أصبح قضية أخلاقية للعرب اليوم. لأن السلام هو حيلة العاجز وسلاح الضعيف.

كان يعتقد كاليكليس في نفس الوقت، أنه من واجب القوي التخلص من هذه القيود المسماة بالأخلاق عندما يستطيع. لأن هذا هو حقه الطبيعي. هل اسرائيل تفعل غير استخدام حقها الطبيعي في سرقة الأرض وإبادة الشعب الفلسطيني، لأنها أقوى من العرب مجتمعين. كاليكليس لم يكن مخطئا أبدا.

المهم هنا هو أن يطلب الناس السلطة والقوة بدلا من طلب العدالة. أو كما يقول أولاد البلد "طظ في العدالة". لكن لماذا القوة والسلطة شيء جيد يجب أن نسعى إليهما؟ لأنهما وسيلة البقاء.

لماذا البقاء شيء جيد؟ لأنه يقود إلى المتعة والرفاهية. السكن في القصور ولبس الثياب السندس الخضر وإستبرق، واقتناء السرائر والقنان، وركوب الجياد المطهمة، والاستمتاع بالطعام والشراب والجنس. هذه أهدافنا جميعا غير المعلنة، والتي نتمناها ونخزنها في عقلنا الباطن.

هذا ما يجب أن يطلبه الإنسان الذكي. ولا يجب أن تضيع الوقت، و "تخلّى نفسك في حاجة". قيم اليونانيين القديمة التي تدعو إلى الوسطية والاعتدال، هي ببساطة قيم "يوك" كما يقول الأتراك، لا تصلح إلا للضعفاء والمساكين.

كريشياس، الذي تبين أنه أقسى السفسطائيين، قام بمناهضة الديموقراطية، والدعوة إلى الدكتاتورية. كانت دروسه تنصح الحاكم الذكي باستخدام الخوف والرعب، والدعوة لعبادة آلهة وهمية، للسيطرة على رعاياه.

وهو سابق لميكافيللي في استخدامه مقولة: " الغاية تبرر الوسيلة". وألعن من ميكافيللي في النصيحة باستخدام الدين وتوظيفه لمصلحتك الشخصية.

من هنا يتضح أن جوهر السفسطائية يتضمن عدم الموضوعية والشك والعدمية. بمعنى أن القيم والمعتقدات التقليدية للمجتمع لا أساس لها من الصحة.

وأن الوجود لا معنى له ولا غناء فيه ولا يستحق ثمن بصلة. مما يجعل الهدم لقيم المجتمع أمرا واجبا ومرغوبا فيه لذاته، بمعزل عن أي برنامج إنشائي.

ليس هناك حقيقة موضوعية. إذا وجدت، الإنسان غير قادر على استيعابها. الذي يعنينا هنا هو الوسيلة والتلاعب بالحقيقة، وليست الحقيقة نفسها التي من الصعب الحصول عليها.

لذلك لا نتعجب من امتعاض سقراط من فكر السفسطائيين. لكن هناك جانب إيجابي في فكر السفسطائيين. أولا، الكثيرون منهم كانوا سياسيين مهرة. لهم إسهامات كبيرة في تاريخ الديموقراطية.

ثانيا، كرهنا لأفكارهم ينبع من كره سقراط وأفلاطون لهم، وأفلاطون هو الذي نقل لنا أخبارهم. نحن نستمع إلى طرف واحد.

ثالثا، كان لهم تأثير إيجابي على الوعي الإنساني وإيقاظه. فأصبح الإنسان موضع الاهتمام. الإنسان مقياس للأشياء كما قال بروتاجوراس. الإنسان بدأ يهتم بنفسه ووضعه في هذا الكون.

السفسطائيون الذين كانوا مدرسين محترفين، واجهوا ندا لهم شرس شديد المراس. هو الآخر مدرس محترف، لكن يعتبر من أعظم المدرسين اللذين عرفهم التاريخ. سقراط (469 – 399 ق م).

بالرغم من أن سقراط كان يعارض السفسطائيين في أفكارهم، إلا أنه قد نهج منهجهم في التحول عن دراسة طبيعة الكون، وركز على طبيعة الإنسان.

لكنه التزم بالموضوعية في كل حججه وأسسها على تعاريف صحيحة مقنعة. أي أنه نزل بالفلسفة من السماء ومن عليائها إلى الأرض. وأسس أصولها وقواعدها السليمة.

لكي تقول إن "الإنسان مقياس للأشياء"، فأنت في الواقع لم تقل شيئا له معنى أو قيمة. إلا إذا كنت تعرف ماذا تعني بكلمة إنسان وكلمة مقياس. لماذا الإنسان هو مقياس للأشياء بدلا من الحمار أو القرد، مثلا؟

تركزت جهود سقراط في اتجاهين: الأول، التركيز على مفهوم التعاريف وموضوعيتها. يعني إيه كلمة "إنسان". وما معنى كلمة "الحق" و"الصدق" و"الأمانة"، الخ.

الجهد الآخر، كان يهتم بالغوص في أغوار النفس الإنسانية من الداخل، للبحث عن مصادر الحقيقة والصدق. هذا عمل لم يكن قاصرا على دروس نهاية الأسبوع لتلاميذه، لكنه عمل مستمر كان بمثابة رسالة سقراط طيلة حياته.

لم تكن عادة سقراط إجابة الأسئلة والقضايا التي كان يطرحها. وكان يقضي جل وقته في الشارع والأماكن العامة بمدينة أثينا. يسأل الناس إن كانوا يعرفون شيئا مؤكدا. وكان يقول إنه لو كانت هناك حياة أخرى، فهو لن يتردد في طرح نفس الأسئلة والقضايا على أرواح الناس في العالم الآخر.

من المضحك أن سقراط كان يعترف بأنه لا يعلم شيئا. لهذا قالت كاهنة دلفي أن سقراط هو أحكم الناس. لأنه على الأقل يعلم أنه جاهل.

بينما الآخرون يعتقدون خطأ أنهم يعرفون كل شيء. وله القول المشهور: "أيها الإنسان، اعرف نفسك". ترى كم منا من يعرف أنه لا يعلم شيئا؟ وخصوصا حكامنا ومن بيدهم مصائرنا.

لم يكتب سقراط في حياته كتابا واحدا. لكن محادثاته قام بنشرها تلميذه النجيب أفلاطون تحت عنوان محاورات سقراط. وكانت محاورات سقراط، ينقسم كل منها إلى ثلاثة أقسام:

 طرح المشكلة للنقاش(على سبيل المثال، مشكلة تعريف العدالة أو الحقيقة أو الجمال،...إلخ).

 يكتشف سقراط خطأ بسيطا في تعريف الشخص الذي يجادله. وببطء، يظل يركز عل هذا الخطأ إلى أن يجبر المجادل على الاعتراف بجهله. في أحد المحاورات، جعل خصمه يجهش بالبكاء ويزرف الدموع.

 في النهاية يعترف كلا من المجادلين بجهله، ويتعهدا بالبحث عن الحقيقة بجدية واهتمام أكثر.

غالبا ما كانت تنتهي المحاورات بدون حسم. سقراط لا يستطيع أن يفرض الحقيقة على غريمه. كلا منا عليه أن يبحث عن الحقيقة بنفسه.

في بحث سقراط عن الحقيقة، قام بإحراج شخصيات كبيرة وهامة من مواطنيه. فتآمر أعداؤه عليه، وقاموا باتهامه كذبا بالتجديف في حق الآلهة وإفساد الشباب. وقاموا بمحاكمته على أمل إذلاله وإجباره على الركوع وطلب العفو.

لكن سقراط لم يركع على ركبتيه. وبدلا من ذلك، قام بإحراج ممثل الاتهام وإغضاب مجموعة المحلفين البالغ عددهم 500 محلف. وقام بإظهار مدى جهلهم وغباوتهم.

عندما طلب منه اختيار طريقة عقابه. اقترح أن يقوم الأثينيون بعمل تمثال له ووضعه في ميدان عام بالمدينة. عند ذلك استشاط المحلفون غضبا، وقاموا بالحكم عليه بالإعدام. 280 صوت موافق على عقوبة الإعدام، ضد 220 صوت غير موافق.

بسبب إحساس الأثينيين بالخزي لحكمهم بالإعدام على شخصية مرموقة مثل سقراط، كانوا على استعداد للسماح له بالهرب من السجن إذا أراد، بعد رشوة حراس السجن. لكنه لم يرد.

بالرغم من توسلات أصدقائه وتلاميذه، إلا أن سقراط رفض أن يهرب. قائلا إنه لو قام بانتهاك أحكام القانون بالهرب، سوف يعني هذا الفعل أنه ضد القانون. وفضل أن يموت على أن يخرج عن قانون الجماعة التي ينتمي إليها، حتى وإن كان الحكم جائرا.

قام سقراط بتجرع السم وهو يتناقش مع تلاميذه حتى اللحظة الأخيرة في قضايا فلسفية. وبموته، أصبح سقراط رمزا عالميا للشهادة في سبيل الحق.

هكذا مات أحكم وأنبل وأطهر وأفضل رجل. كما قال عنه تلميذه أفلاطون. فهل كانت محاكمة سقراط وإعدامه، دلالة على عسف سلطة الأغلبية في النظام الديموقراطي وتحكمها الظالم في الأقلية؟

من كتابي قصة الفلسفة الغربية

يمكن تنزيله بالمجان من هذا الموقع

https://archive.org/details/zakariael_att_201610


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى