الأحد ٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم أمينة شرادي

سلطة من الزمن القديم

كانت السيدة خديجة في تلك الليلة الباردة من ليالي الشتاء القارص، تستعد للنوم كعادتها حتى تستريح من عناء يوم كان حافلا من أوله. حيث انخرطت منذ وطأت قدمها أرض بلاد الإفرنج كما تحب أن تسميها، في أعمال اجتماعية خاصة فيما يتعلق بالعائلات العربية. وكانت تسخر كل طاقاتها البدنية والفكرية لحل مشاكلهم أوالمساعدة في حلها. إذ بدقات خفيفة على بابها ومتكررة. لم تتعود على زيارة أحد لها في هذا الوقت المتأخر من الليل. اختلطت خطواتها مع تنهيداتها، لما اقتربت من باب شقتها، سمعت صوتا تعرفه اخترق جدار الباب وهمس إليها: سيدة خديجة، افتحي. أنا كاترين.

فتحت الباب وكل حواسها وخلجات قلبها تتساءل عن سبب هذه الزيارة الليلية المتأخرة. حاولت أن تتحكم في جفونها التي غالبها النعاس وتتظاهر بالاستعداد لاستقبالها. ردت بصوت نصفه نائم: تفضلي يا كاترين. ماذا بك؟

ابتسمت واعتذرت على إزعاجها في هذه الساعة المتأخرة من الليل. لكن ملامحها أكدت أن للزيارة سبب قوي دفعها أن تقتحم راحة صديقتها خديجة. ترددت في الكلام ثم قالت: أعرف أن الوقت متأخر، لكنني في ورطة وأحتاج إلى مساعدتك.

السيدة كاترين، من أوائل الصديقات اللائي تعرفت عليهن خديجة لما حطت الرحال قصرا ببلاد الإفرنج. وكانت تمر عليها كلما عادت من مشاويرها اليومية وتجالسها للحظات وتتركها على أمل اللقاء في الغد. كانت سيدة وحيدة، لا يزورها أحد من أبنائها. نادرا ما كانت تجد عندها ابنتها الصغرى التي كانت تأتي فقط لزيارتها عندما تكون في حالة نفسية غير مستقرة.

استغربت خديجة لهذا الطلب الليلي خاصة وأن كل أعضائها تطلب الراحة. حاولت تأخير الطلب إلى الغد قالت كأنها تتوسل إليها: كاترين، ألا يمكن الانتظار حتى الغد؟

ألحت كاترين في طلبها. جلست خديجة كتلميذة مهذبة تعاند النوم الثقيل وتنصت إليها: لما كنت تأتين لزيارتي، كنت تجدين في بيتي أحيانا ابنتي الصغرى مع طفلها. كانت خديجة تومئ برأسها بالإيجاب حتى تستمر دون أن تقاطعها: لقد أتت من جديد وتنوي العيش معي هي وزوجها. ظلت ملامح خديجة هادئة تنتظر أن تنتهي الحكاية. حتى فاجأتها: مار أيك يا خديجة؟
استغربت لطرح السؤال كأنها كانت في غيبوبة وعادت إلى الحياة. قالت بصوت متردد: رأيي في ماذا؟

رفعت السيدة كاترين من حدة صوتها وقالت: إنها تريد العيش معي. أنا اعتدت على الحياة لوحدي . أتجول في بيتي كما يحلولي. أتنفس الهواء كما يحلولي. . ظلت خديجة ترمقها بين الفينة والأخرى بنظرات فاترة. وعادت إلى صمتها الذي يحمل بين طياته ذكريات من الماضي البعيد الذي دفعتها إلى الهجرة. السيدة كاترين تريد حلا للمأزق الذي وضعت فيه. خاصة وأ نها تعلم أن خديجة ممن يهوون حل المشاكل العائلية ومنخرطة بشكل جدي. دبت الحياة من جديد في أوصال خديجة وقررت الاستمرار مع كاترين إلى النهاية. سألتها بعيون خالية من النوم، متيقظة، تبحث عن شيء ما: لماذا قررت العيش معك هكذا فجأة؟ سألت السؤال وطلبت منها تأجيل الإجابة حتى تعد قهوتها المفضلة، التي ترافقها في كل جلساتها وحواراتها.

. قررت أخيرا أن تهجر سريرها وتسامر السيدة كاترين. لأن في حكايتها رائحة الماضي الذي هجرته وتحاول أن تدفنه في أبعد نقطة في دماغها. أعدت القهوة ذات الرائحة الزكية التي تنعش الأنوف عن بعد وتحيي كل النفوس الواهنة والمرهقة. جلست إلى جانبها تنتظر الإجابة على سؤالها. اعتدلت السيدة كاترين في جلستها لما شعرت فعلا باستعداد صديقتها لسماعها وانبلجت أساريرها، رشفت من قهوتها قليلا في تلذذ وقالت: قهوتك رائعة يا خديجة. تحييني بشكل عجيب. ابتسمت خديجة لهذا الإطراء الليلي الممزوج بوخز الإبر. وضعت كاترين الكأس جانبا كأنها تستعد لمعركة وقالت بصوت حزين: أظن إن سبب رغبتها في العيش معي هووالدة زوجها.

ظلت خديجة فارغة فاها تريد أن تفهم ما سمعت. لم تكمل قهوتها وظل الكأس في يدها والسؤال على لسانها قالت: هل كانوا يعيشون في بيت والدته منذ البداية؟ ردت كاترين بشكل تلقائي: نعم. بيتهم كبير وطلبت منهما البقاء معها. استرخت ساعتها خديجة على كرسيها كاستراحة المحارب. وأعادت شريط حياتها. كأن القدر أراد أن يعيد نفسه أمامها لكن بشكل آخر. غابت عن لحظتها ووجدت ذاتها تسبح في بحر من الذكريات التي اعتقدت بأنها ماتت إلى الأبد.. استيقظت على صوت كاترين كأنها كانت تناديها من بئر عميقة. سألتها بعيون تحمل الخوف والرهبة والرغبة في معرفة ما يجري.: ماذا هناك يا خديجة. هل أنت بخير؟

قامت خديجة تداري دموعها التي انهمرت بشكل مفاجئ، كأنها تعيش الأمس بكل صوره وأحداثه. تذكرت يوم ركبت الطائرة، تنفست ساعتها الصعداء، كمن كان سيحكم بالإعدام ظلما وجورا. وقالت: الآن ، أنا حرة.

لاحظت دموعها وانزعجت للأمر. حاولت التقرب منها وفهم ما يحصل: هل تسببت لك في مشكل؟عادت خديجة إلى مكانها وكأس القهوة لا يفارق يدها، مسحت دموعها التي تدفقت كجداول برية، حاملة معها كل شوائب الماضي . قالت وقد اختلطت الابتسامة مع الدمعة: ياه، يا كاترين، كأنني أعيش قصتي من جديد. قامت كاترين من مكانها واقتربت منها أكثر: ما علاقة قصتي بقصتك؟

غريب هذا الزمن. لا نملك أن نتحكم فيه. ونعتقد أنه بعيد. مع أنه يعيد إليك حياتك كأنها وقعت بالأمس. همست إلى نفسها المتعبة. وتابعت بصوت عالي: كنت أعتقد أن امتداد السلطة الغير الشرعية يوجد عندنا فقط. بل هوممتد عبر الزمن. لم تستوعب السيدة كاترين معنى الجملة ظلت تراقبها بنظرات فارغة . تابعت خديجة وقالت: قبل مجيئي إلى بلادكم، بلاد الإفرنج، كنت أعيش في بيت كبير في العدد والحجم. كنت أعيش بين أهل زوجي. أوهموني على أن الغد الذي سأملك فيه سلطة نفسي قريب. انخرطت كاترين في عالم خديجة الذي تكتشفه لأول مرة. سألتها : وماذا حصل فيما بعد؟ قامت خديجة من مكانها، ـ اخذ ت أذرع الغرفة ذهابا وإيابا. كأنها تلعن اللحظة التي قررت أن تفتح بابها الذي غلقته منذ غلقت قلبها. وقفت إلى جانب نافذتها المطلة على حديقة زاهية وأنيقة. الشيء الوحيد الذي شجعها على قبول الاستقرار في هذا الحي رغم غلاء المعيشة. استنشقت ما طاب لها من الهواء العليل وعادت إلى كرسيها بروح أكثر قوة. وقالت: زوجي، سافر للعمل إلى الخارج، على أمل العودة القريبة والاستقرار النهائي. طال الغياب وطال معه انتظاري. خلال هذه المدة، عانيت الويلات من سلطهم المتعددة والمتشابهة. كانت هناك درجات في التسلط. وما أكاد أضع رجلي على آخر درج، حتى يعيدونني إلى البداية. كنت لعبتهم المسلية في أوقات فراغهم الذي لا بداية ولا نهاية له.

مر من السمر الليلي نصفه، والسيدة كاترين مشدودة إلى حكاية خديجة. لكنها باغتتها بسؤال: خديجة، هل ممكن يكون هذا هوسبب رغبة ابنتي في العيش معي؟

اقتربت خديجة أكثر من كاترين كأنها تفشي سرا. وقالت: ممكن. كل شيء ممكن. لما تكون حريتك مراقبة.

احتمت السيدة كاترين بكرسيها وظلت تحملق في الفضاء المحدود. قامت خديجة وأعدت القهوة من جديد. . والسيدة كاترين كمومياء، لا تحرك ساكنا. تنصت وتتأمل. . وضعت خديجة يدها على خدها، وقالت لجارتها كاترين: ألا تشعرين بالتعب. ردت بكل حيوية ونشاط الأطفال: انه سهر حتى الصباح. ضحكات مجلجلة، في تلك الليلة الباردة، زعزعت سكون النائمين. رشفت خديجة قليلا من كأسها، وتابعت في هدوء: قلت يومها وكلي رغبة في البقاء، لا بأس. أهله مثل أهلي. لكن سلطتهم الأولى امتدت إلي أكثر وحاولت احتوائي بحجة صيانة الشرف. هنا انتفضت خديجة كالدجاجة المذبوحة، وثارت بكل أعصابها ترفض سماع صوت الماضي. حاولت كاترين تهدئتها قالت لها بصوت خافت: لقد رحل الماضي. وأنت الآن حرة نفسك. أجابتها بنفس منكسرة تحاول النهوض والمقاومة: الماضي ساكن في كل عضومن أعضائي. بسببه رحلت عن الديار حتى أختفي وراء السحب الداكنة لبلادكم الإفرنجية وأذوب مع تموجاتها في الفضاء. لكن أتيت أنت وأيقظته من سباته الطويل كجبل عملاق تجدر بفعل الزمن وأتت رياح غاشمة وأحدثت جرحا عميقا في جذوره التالفة تحت الأرض. تابعت بألم شديد: لقد كانوا يختلقون الأكاذيب حتى يحطمون حياتي ويعيدونني إلى عصر الحريم. ظلت كاترين ترمقها وتنتظر أن تكمل قصتها التي أغنتها عن مشكلتها. سكتت خديجة عن الكلام المباح ثم سألتها: هل قالت لك شيئا عن سلطتهم؟ قالت وهي تحاول أن تتذكر: كانت هناك تلميحات فقط.

تذكرت ساعتها يوم منعت من الخروج للنزهة بمفردها. وكانت النقطة التي أفاضت الكأس. قالوا لها بعنف لم تألفه من قبل: ليس لك الحق في الخروج لوحدك. ردت يومها ولأول مرة ترفع صوتها وتتكلم: إنني أختنق، أختنق. . . أريد أن أتنفس. . لقد نسيت رائحة الهواء. .

علامات الاستغراب بادية على وجه السيدة كاترين. قالت لها بكل ثقة: كيف أنك كنت تعاملين هكذا ومن يراك الآن، يرى سيدة قوية وذات شخصية. أكملت حكيها كأنها تخاطب ضميرها وتريد إحداث قطيعة مع الماضي. قالت لجارتها كاترين: سأريك صوري عندما كنت صغيرة السن. ارتاحت كاترين للفكرة ورحبت بها. أحضرت خديجة ألبوم صورها وفتحت باب الذاكرة على مصراعيه، تتألم أحيانا، تفرح مرة، تصمت كثيرا . . ومرا ت عديدة تمر مر الكرام ولا تتوقف عند الصورة كأنها شوكة ضارة مازالت تحدث ألما بذاتها. أخذت السيدة كاترين، كرسيا كان في الصالة الأخرى وجلست قرب النافذة التي كانت تطل على الحديقة الأنيقة. أخذت نفسا عميقا وقالت لخديجة: لقد بدأت تتضح لي الصورة الآن. غالبا ما كانت تأتي عندي ابنتي وهي متوترة وتلمح لي بكلام كاختناق بالبيت، وأحيانا تقول لي بأنها لم تعد تتصرف بحرية وتشعر كأنها مراقبة. . . هنا تدخلت خديجة وقالت بسرعة كأنها تخاف أن تفر منها الكلمات: هنا يا صديقتي، كان عليك التدخل لمساعدتها وفهم ما يجري. لأنه أحيانا تراكم المشاكل يؤدي إلى الانفجار.

في الخارج ، نور الصباح يستوطن سكون المدينة وينشر بأرجائها أشعة تحدث خللا مقصودا في هدوءها. قامت المدينة باكرا من سباتها رغم أن أضوائها الليلية تشعرك بنهار أبدي. تفاجأت خديجة بمرور الوقت وحلول الصباح دون منبه . قبل أن تستأذن السيدة كاترين صديقتها خديجة وتنسحب، طلبت منها أن تجيبها على سؤال أخير. قالت والخجل يرسم ألوانا على وجهها: أريد أن أعرف لماذا قررت العيش بعيدا عن أسرتك ؟ طوت ألبوم صورها ووضعته جانبا دون أن تلتفت أليه. تحركت بخطى خفيفة في غرفة الجلوس. اتجهت إلى غرفة نومها، فتحت نافذتها، وعادت وجلست تبحث عن الكلمات. نظرت إليها بعينين حزينتين وقالت: اسمعيني يا كاترين، حكايتي تشبه كل النساء.. هناك من تاهت عن الكلام المباح. وهناك من واجهت شهريار. لما عاد زوجي من الخارج، ارتاحت روحي الجريحة وكنت مستعدة أن أنسى كل المآسي. وأبدأ صفحة جديدة. لكنني فوجئت بسلطة أخرى أمامي. سلطة تعاتبني وتقسوعلي بذريعة أنني لم أكن مطيعة ومسالمة. وهنا بكت خديجة بحرقة شديدة كمن فوجع فيمن يحب. وكالغريب التائه الذي لم يجد موطنا وتلحف الفضاء. وتوجهت بالسؤال لكاترين: في رأيك ، ماذا كان باستطاعتي أن أفعل؟ كاترين، صامتة، تتأمل وتنظر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى