الأربعاء ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
بقلم محمد عبد الرحمان شحاتة

سليل الشيطان.. والصراع الأزلي

مقدمة:

إن القارئ لرواية سليل الشيطان لا يجد نفسه أمام إحدى الروايات التي تنتمي لأدب الفنتازيا فحسب، بل إن الرواية تتجه لما هو أبعد من ذلك، إنها تسلّط الضوء على ذلك الصراع الأزليّ بين إبليس وبني البشر.

إن الفكرة كما يقولون "خارج الصندوق"، حيث اعتمدت الكاتبة على شخصيات ورموز بديلة لتجسيد الصراع الحقيقي ونقله إلى زمن آخر بأحداث متشابهة لتطبيق نظرية الإسقاط على الفكرة الرئيسية للصراع، دون أن نفقد أزلية الصراع الرئيسي وكينونته.

ولمّا كانت الفنتازيا هي تناول الواقع بطريقة غير مألوفة، فقد قدّمت الكاتبة معالجة أدبية بوجهة نظر جديدة، متمثلة في شخصيات روايتها التي أجادت رسمها، وفي الأحداث التي جاءت مطابقة للمنطق الذي نعيشه، من خلال سردها لمشاهد ربما تعرضنا لها أو سمعنا بها، ولم تكن هذه الأحداث إلا نتيجة العهد القديم الذي أخذه إبليس على نفسه للانتقام من بني آدم الذين تسببوا في لعنته.

لولا وجود آدم على ظهر الحياة ما لُعنَ إبليس قط، إنها تلك الشرارة التي انطلقت منها الرواية، واتخذت منها الكاتبة نقطة لانطلاق الأحداث، لذلك أراد قائد الفيالق الشيطانية استعراض قوته، من أجل الهيمنة على البشر، كما تعهّد إبليس منذ زمن بعيد.

وهنا تلقي الكاتبة إسقاطًا آخر على حدث جديد، وهو أن حبَّ الهيمنة ليس مقتصرًا على الإنسان فقط، بل هو داء يستشري عند المخلوقات جميعها، بما فيهم الجن والشياطين، يتبين ذلك مما تطرقت إليه الكاتبة في الفصل الأول "الاجتماع"، حينما دارت عديد من الحروب بين ممالك الجن، لم تكن هذه الحروب إلا لأن تنجح المملكة الأقوى في فرض سيطرتها على البقية، إلى أن استطاع "سوارث" بفرض سيطرته على جميع الممالك، فأصبح هو السيد الذي لا يستطيع أحد عصيان أمره، حتى أنه حينما أراد الاجتماع بملوك الممالك فتخلّفت مملكة عن أمره فأمر أحد أتباعه فأحضر له رأس الملك الذي عصى أمره، وفي حين آخر يأمر بحبس من يتمرّد على أوامره في بئر برهوت.

الرمز في رواية سليل الشيطان:

لقد أجادت الكاتبة استخدام الرمز في الرواية، وهو ما أدى إلى بلورة الفكرة والرمز إلى ذلك الصراع الأزلي بين إبليس وبني البشر، فنجد أن أحداث الرواية تتطابق إلى حد كبير مع ما أخبرتنا به القصص عن ذلك الصراع، لتمنحنا الكاتبة انطباعًا أن سليل الشيطان ليست مجرد رواية تُقرأ فقط، بل إنها تعيد طرح ما حدث بأسلوب جذّاب، فإذا نظرنا إلى شخصية "سوارث" في الرواية سنجدها تطابق شخصية إبليس، بنفس تمردها وطابعها الانتقامي، لقد بدأ الصراع بين إبليس وبني البشر حينما عصى إبليس ربه لمجرد أنه رفض تقديم التحية إلى آدم، فكانت النتيجة أنه لُعِنَ، فقررت نفسه المتكبرة الانتقام من ذلك الكائن الذي تسبب في لعنته.

إن البداية في سليل الشيطان تتشابه أيضًا مع بداية ذلك الصراع وترمز إليه، حيث أننا سنجد "سوارث" الممثل للشيطان في الرواية يقطع ذلك العهد على نفسه، وهو الانتقام من بني البشر بشتى الطرق، حتى ولو اضطر الأمر للصراع المباشر.

إن الرمز في الكتابة هو وسيلة لتمرير الأفكار، وإلقاء الضوء على أحداث دون الإشارة إليها بشكل مباشر، وهو من أهم الوظائف الفنية التي وظفتها الرواية العربية المعاصرة، لقد استطاعت الكاتبة إيضاح تجليات الرمز في منجزها الروائي، من خلال إضفاء بعض الصفات على شخصيات الرواية مشابهة لشخصيات جاء بها التاريخ وتحدثت عنها الأساطير، ومن خلال الإشارة من بعيد إلى مكان بعينه ربما من خلال كلمة شائعة في ثقافة معينة، ليجد القارئ نفسه أمام دافع للتفكير فيما تقصده الكاتبة، ولكنه في النهاية سيصل إلى المقصد الحقيقي الذي أرادت الكاتبة إيضاحه من خلال الرمز.

الأسطورة في رواية سليل الشيطان:

إن من الجيد أن تختلط الفنتازيا بالأسطورة، وذلك يُضفي على الرواية نوعًا آخر من التشويق، نجدها متمثلة هنا في "أم الدويس"، تلك الأسطورة أو الخرافة التي تتحدث عن امرأة جميلة لها رائحة ذكية تلاحق الرجال ليلًا، تفتنهم بجمالها، ومن ثم تفترسهم، إنها تلك الأسطورة الراسخة في الثقافة الخليجية عامةً والثقافة الإماراتية بشكل خاص، إنها تشبه إلى حد كبير خرافة "لايورونا" التي ذكرها الفلكلور الميكسيكي وأمريكا الوسطى، وقصّة النداهة في مصر، لقد تطرقت الكاتبة إلى ذكر الأشكال المختلفة لهذه الأسطورة في الثقافات المختلفة، متمثلة في "أم الدويس" كما تم إيضاحها مسبقًا، و"أم الصبيان" في الثقافة اليمنية، و "عائشة قنديشة" في الثقافة المغربية، ليجد القارئ نفسه يتنقل بين عديد من الثقافات، ربما يتطلب منه البحث عن مسمى معين مما ذكرته الكاتبة فيفتح ذلك أمامه سبيلًا آخر للاطلاع.

المشهدية في رواية سليل الشيطان:

إن من وجهة نظري أن المشهدية هي أهم ما يميّز العمل الأدبي الجيد، إنها لا تقل أهمية عن البنيوية في الرواية أو الحبكة، وإجادة رسم الشخصيات والأماكن بما يتوافق مع متطلبات النص، وبخاصة في ذلك النوع من الأدب "الفنتازيا" الذي يجب أن ينقل القارئ إلى المكان الذي رسمه الكاتب في روايته، ويحمله من عالمه المادي إلى عالم الماورائيات.

لقد استطاعت الكاتبة أن تضع ذلك العالم الغير مادي بين يدي القارئ، من خلال براعة الأسلوب في توصيف المشهدية الخاصة بروايتها، لأن التشويق في رواية الفنتازيا لا يقل أهمية عن بنية الرواية وقواعدها، نجد ذلك متمثلًا في شخصية "أبو الحارث" وهو سليل الشيطان، والذي جاء في الرواية ممثلًا لذرية إبليس الذي جسّدته شخصية "سوارث" في الرواية؛ كي يعاونه في تنفيذ العهد الذي أخذه على عاتقه بأن يهلك بني آدم

لكن الفكرة جاءت فريدة من نوعها، حيث لم يكن ضروريًّا أن يأتي سليل الشيطان من نسل شيطانة ما، ولكنه جاء من رحمِ بشرية، وكأن الكاتبة تشير إلى الرسالة التي أراد "سوارث" ممثل الشيطان إيصالها للبشرية، وهو رغبته في أن يكون السلاح الذي سيهلك به نسل آدم جزءًا منهم، ألا وهو النذر الشيطاني الذي كان محور الرواية في فصلها الثاني.

هل حاولت الكاتبة إقناعنا بفكرة أنه يمكن اختطاف النسل البشري من قِبَل الجِن؟

إن الفصل الثاني من الرواية "إعداد وتقويم" يرمز إلى تلك الفكرة، حين أرسل "سوارث" إحدى أتباعه "الثقوبة" لإحضار "أبي الحارث" سليل الشيطان بعد ولادته، مستعينة بالمبروك، والعودة به إلى عالمها، والاختفاء معه في كهف بعيد عن المتربصين.

وهنا تلقي الكاتبة الضوء على ناحية أخرى، إن "الثقوبة" مهمتها قتل الأجنة في الأرحام، فكيف لها الآن أن تعتني بطفل رضيع؟! وتختفي به في كهف للحفاظ عليه حتى يأمرها سيدها بما يجب عليه أن تفعله بعد ذلك، وهنا تريد الكاتبة أن تخبرنا، أن هناك أيضًا الوصوليين من الجن، والذين يمكنهم فعل أي شيء لمجرد أن يصلوا إلى مرادهم.

إن القانون السائد في الكون هو الاجتهاد، فلن تحصل على شيء أو تبلغ مرتبة ما إلا به، لذلك كان على "أبي الحارث" أن يقدم قرابينه إلى "سوارث"، تلك القرابين البشرية التي سيقوم بالفتك بها، ربما ليثبت أنه قد تخلص من بقايا نسله البشري إلى الأبد، وأنه أصبح ينتمي إلى مملكة الجن تمامًا، ليكون أداةً فعالة في ذلك الصراع الأزلي.

كان على "أبي الحارث" أن يقدّم ولاءه إلى "سوارث" من خلال سبعة قرابين بشرية، أجادت الكاتبة توصيف الحالة الخاصة بكل قربان على حدة، كل قربان له مشهديته الخاصة، وحالته الاستثنائية، ومما أضفى تشويقًا على السرد هو العامل المشترك الوحيد بين القرابين، ألا وهي طريقة القتل التي كانت موحدة للضحايا السبعة، والقط الأسود الذي كان يظهر بجوار جثة الضحية.

ولم يكن اختيار ضحايا القرابين عشوائيًا أبدًا، لقد أبدعت الكاتبة في ذلك الأمر، حيث أنها ألقت الضوء على أن ضحايا القرابين ملعونون، دماؤهم ملعونة تتوافق وما يريده "أبو الحارث".

ومن الأهمية أن نلقي الضوء على مشهد ربما لن يمر مرور الكرام على القارئ، وهو أن المحقق الذي سيهتم بقضية الضحايا سيكون هو خاتم القرابين، نعم أيها القارئ، إن مصيره كان في القبر السابع، الذي قام حارس المقبرة بحفره إرضاءً لسيده، ومساعدته على إتمام قرابينه.

الحاسة السادسة في رواية سليل الشيطان:

قبل أن ألقي الضوء على هذه النقطة، أحب أن أتطرق إلى نقطة أخرى، إن موت المحقق الذي تابع قضايا قتل القرابين في تلك القرية الغريبة، وانضمامه للقرابين ليصبح خاتمها لم يكن عبثيًا، بل أرادت به الكاتبة أن يكون عقدة الرواية.

فكما بدأ "سوارث" صراعه مع بني البشر عن طريق سليله "أبي الحارث"، شاءت أحداث الرواية أن يكون "إسماعيل" ابن المحقق هو سليل آدم الذي يحارب على الجانب الآخر من الصراع، لتتضح أمامنا الصورة جليّة عما تريده الكاتبة أن توصله إلينا.

لقد اكتشف "إسماعيل" أو "الإمام" كما أُطلقَ عليه فيما بعد حقيقة ما حدث، لقد رأى ما حدث لضحايا القرابين، من خلال الحاسة السادسة، أو العين الثالثة التي يمتلكها البعض، ربما تتمثل في هاتفٍ أو حلم أو رؤيا، لكنه من خلالها استطاع أن يصل إلى حقيقة الأمر.

نهاية الرواية:

إن رواية تتحدث عن صراع أزليّ بين الشيطان وبني البشر لابد وأن تنتهي بالمعركة، إنها النقطة الحاسمة التي تنتهي بها الصراعات، لتحدد الفائز والخاسر من ذلك الصراع.

 عن أي شيء تجادلني الآن؟ أنا الأقوى على تلك الأرض لا تستطيع مجاراتي.

هذا ما قاله الشيطان لبني البشر في المعركة، لازال يمعن في الغرور، لتعطي الكاتبة إيحاءً للقارئ أن الشيطان هو الأقوى، وأن علينا نحن البشر أن نخضع، ثم فجأة تنقلب الأحداث، ليكتشف الشيطان أن غروره وقوته وكبريائه لا تُنجيه من مصيره المحتوم الذي ينتظره، فيتفاجأ بقوة "الإمام" ومن ثم ينهزم، وينقلب السحر على الساحر، كنهاية منطقية أجادت الكاتبة سردها لأي صراع بين الخير والشر، والذي سينتصر فيه الخير مهما طال الزمن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى