الجمعة ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

سم الأفعى

السماء الرحيبة تلطخت بقطع سميكة من الضباب معلنة عن موجة برد قارسة، وانهمار مطر غزير، لا مفر من غطرسة هذا الفصل الكئيب، اللئيم، سيحارب بالألبسة الصوفية، الخشنة من دون شك، معطفها البني اللون معلق فوق المشجب يتدلى في عجب وخيلاء، لم تعد ترتديه عن طيب خاطر كسابق عهدها.

ــ ملعون هذا الكرسي المتحرك ذي عجلات الذي يلازمني عنوة كظلي الظليل.
انزلقت هذه العبارة على لسانها التي لدغت بالأسى أحاسيسها، ثم تفحصت قدميها المشلولتين اللتين لا تقويان أبدا على التحرك.

امتدت يدها إلى الدرج فسحبت منه صورا فوتوغرافية حديثة العهد، تأملتها طويلا وتشنجات الألم المبرح تجلد صدرها بألف سياط، وتجرفها بصعوبة بالغة نحو ذلك الماضي الذي هو بمثابة نقطة أشد اسودادا استقرت رغما عنها في سماء حياتها المديدة.

مزقتها إربا إربا وهي تضغط بكل قوة على أسنانها، ثم بعثرتها بإهمال واضح كبير على أرضية الغرفة، ومن بين عبراتها الهادرة كالمطر طفت صورة(شفيق) مهزوزة، متأرجحة كالمرض اللعين. يا ليته لم ينضو تحت دوحة قلبها المتخمة بهالات التوهج، والوفاء، والصفاء!
همس لها ذات مساء وحبات المطر الدافئة تغازل حضورهما البهيج: لن تجرؤ يد دخيلة على تمزيق حبل تآلفنا، سنكون لبعض.

تمايلت ابتهاجا على أوتار الرضا، والمحبة، والأمان، ورفرفت كالقطاة المتحررة راسمة بولع شديد في فضائها الرحب مستقبلا مشعا حروفه من عقيق، وزمرد، ومرجان.
تكررت لقاءاته بدعاء في بهو الجامعة، وترعرعت في سمائهما الفاتحة الزرقة أفانين تفاهم، وود، وانسجام.

قدمته لزميلتها(دلال) فانبهرت به، وتملكتها وسامته الجذابة حتى العظم.
قالت في سرها: لم لا أستولي عليه بنياتي الخبيثة، ويكون من حظي ونصيبي؟ سألف حبالا من الاغراء حوله بعيدا عن زميلتي حتى لا تنهشها الشكوك والهواجس، ألست آية في الجمال كالأميرات الغابرات؟ بالإضافة إلى ذلك أنني أتمتع بالمال الوفير الذي أغدقه علي والدي من صفقاته المربحة.

وابتدأت المهمة التي حبكتها بكل دقة، وذكاء، وإتقان.
أخذت تختصر المسافات متقربة منه باذلة أقصى جهودها في استمالته بشتى السبل.
صرحت(دعاء) لزميلتها وهي تزفر زفيرا مزعجا: لم يعد ساعيا لرؤيتي كسابق عهده، أخشى أن أكون عنصرا مهملا غير مرغوب فيه.
بخبث كبير نطقت(دلال) ومشاعر الانتصار المبين تختلج في أوصالها اختلاجا: لا تأبهي لأمره بتاتا، الرجل هكذا إذا حظي باهتمام امرأة يعذبها بجفائه ليرى ردة فعلها.
ــ أتودين أن أظهر له عدم اهتمامي به؟
ــ هذا ما أصبو إليه يا عزيزتي، كوني صلبة وعنيدة، من غير اللائق أن تعذبي نفسك من أجل رجل تافه لا يستحق اهتمامك.

ظلت(دعاء) تعصف بها شتى الهواجس والظنون حتى كادت تفقد عقلها، وصار العذاب أنيسها الوحيد في يقظتها ومنامها، ولا سمير سوى الدموع الجارحة التي أفسدت عليها راحتها وبلبلتها. إن هي نفذت نصيحة(دلال) ربما ستفقده بالفعل، وينقب عن زهرة أخرى لتعوضه عنها.
عليها أن تجمع قواها من جديد، وتدوس على كرامتها كما تداس الأشياء الرخيصة، وتذهب إليه لتستفسر عن هروبه الدائم الذي بات يقلقها.
سألته بمرارة وهي تتمرغ في بيدر أشجانها: ما الذي يعكر أجواء حياتك، ويفسد علاقتك بي؟ إن كانت هناك مسألة عويصة تدغدغ خيالك فلنعالجها مع بعض.
نطق كطفل ينزلق في متاهات الظلام الدامسة: لا شيء هناك، لا شيء.
وانصرف إلى شأنه.

بقيت متجمدة في مكانها حائرة، مرتبكة، ضائعة، لا تدري ما تفعله في سبيل راحتها وهدوئها.
دعته(دلال) إلى فيلتها الفخمة قصد إحياء عيد ميلادها، رفض الدعوة في البدء، وتحت الضغط والالحاح الشديد أعلن موافقته.

فتيان وفتيات من مختلف الأعمار يملأون بمرحهم الزائد البيت الفخم، يعبون دخان سجائر فاخرة، ويطلقون ضحكاتهم الرنانة في الأجواء والأنس اللذيذ يتخم رؤوسهم، ويدغدغ حناياهم.

زجاجات الشامبانيا هنا وهناك، تدعو الجميع إلى احتساء قطراتها المعتقة، لم يتعود(شفيق) على حضور مثل هذه الحفلات الصاخبة، لم يألفها في حياته قط.
انتابته نوبة صاعقة من الارتباك، لم يشأ المكوث في هذا الجو النتن.
فكر في الانصراف.

تدنو منه(دلال) المدللة باسمة الثغر، قالت بصوت ساحر يخلب فؤاده: ألا تشرب كأسا؟
ــ لا، لا أرجوك، لم أتعود على هذا من قبل.
ردت عليه وفي صوتها الرخيم رنة سخرية: إذن أنت لست متحضرا، لا تساير تطورات العصر، أليس كذلك؟
شعر بأنها خدشت عمق أحاسيسه، وهزت كيانه، فرد مدافعا عن نفسه دفاعا مستميتا: وهل تظنين أن التحضر يكمن في شرب كأس من الخمر؟
هاجمته بسؤال آخر نبت فوق شفتيها الشهوانيتين متألقا: ألديك سيارة من النوع الرفيع؟
ــ لا، أبدا(قالها ببرودة دم).
ولفته سحابة كثيفة من الصمت الآسن.
ــ فيم تسرح أيها الغزال الشارد؟ لماذا انزويت وراء نقاب الصمت؟ يبدو أنك من النوع الخجول.

خانته الكلمات في مثل هذا الظرف الذي تورط فيه، لم يتوقع أنها تتهمه بالخجل والانطواء، وراح يوبخ نفسه ويقرعها إيلاما على هذه الليلة البائسة التي ينهل دقائقها وثوانيها بكل صعوبة.

التقت بدعاء كالعادة، أسرت لها في أذنها: مفاجأة رائعة في انتظارك يا عزيزتي.
ــ أية مفاجأة تقصدين؟
انفجرت ضاحكة وقالت بمرح: لا، لن أفشي لك بذلك، تعالي إلى منزلي على الساعة الواحدة زوالا، وسترين، أكيد أنك ستبتهجين.

وكانت المفاجأة التي لم تكن في حسبانها.
ذلك الخائن(شفيق) يضع الخاتم الماسي في أصبع (دلال) المخادعة، كتمت(دعاء) شهقتها المجنونة براحة يدها، ثم غمغمت كأنما الموت يبتلعها: خائن، خائن.
مادت الأرض تحت قدميها، تمايلت كأنما ثملت عن آخرها، تهالكت على الأرض مغشية عليها.

هناك في المستشفى أكد الطبيب لعائلتها: لقد فقدت إحساسها بالحركة، صارت مشلولة.
تذكرت آنذاك قول(دلال) الماكرة: أنا أطمح ما في يد غيري، لن تهدأ ثائرتي أبدا إلا إذا سطوت على ما ليس لي.

عادت إلى واقعها من جديد، وتفحصت بعينين دامعتين ذلك المعطف البني الذي أهداه لها(شفيق)، ثم صرخت بأعلى صوت: لا أريد المعطف، لا أريد المعطف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى