الخميس ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم ساما عويضة

سنبلة كسيرة الجناحين

"سنبلة" طائر من أجمل طيور الغابة... ريشها ألوانه زاهية خلاّبة تجلب النّاظرين ... وفي منقارها رسمت علامة... وأمّا جناحيها فيرويان ألف قصّة وحكاية...

"سنبلة" تعلمّت الطيران وتربّت عليه منذ كانت صغيرة... لا تقلقها المسافات القصيرة منها والطّويلة، .. تحبّ الغابة بكلّ ما فيها، والكلّ يحبّها... تحدّثت عنها الطيور وحيوانات الغابة وحتّى أسماك النّهر الصّغيرة والكبيرة...

طيران "سنبلة" كان حديث كل طيور الغابة... فهي تطير بخفة ورشاقة... وتحلّق عاليا لا تخشى الغيوم، تحاكي الطّائرات في سرعتها ولا تتعب...

في يوم من الأيام، حلّقت "سنبلة" في الأعالي... وابتعدت عن أرضها لتصل إلى بلاد " الحساسين " البعيدة... و" الحساسين " فصيلة طيور لها نفوذ عال ... تأمر وتنهى وتعنّف كل من بأمرها لا يبالي...هكذا حدّثنا عنها الجميع ...

للوهلة الأولى ظنّت "سنبلة" أنّها قد وصلت إلى بلاد الأحلام... فتلك بلاد لم تر مثلها يوما ولم تسمع عنها... بها من الزهور أشكال ومن خيرات الدّنيا ألوان يشتهيها كل طير وكلّ دابّة وكلّ إنسان...
فإلى أين وصلت يا سنبلة ؟!
هل بامكانك أن تحدّثينا عن رحلاتك،
عمّا سمعت وعمّا رأيت ؟ ...
هل سيصدّقك أحد؟

تلك هي الأسئلة التي شغلت بال "سنبلة"...وجهدت النّفس كثيرا كي تجيب عنها بذكاء وفطنة... ولكنها سرعان ما انشغلت بغيرها عندما رأت تلك الشجرة... شجرة كبيرة ذات أغصان وارفة ممتدة.... وعلى كل غصن أوراق وزهور وأعشاش لطيور شتّى...

طارت "سنبلة" باتجاه الشجرة، وعلى أعلى أغصانها حطّت... ومن غصن إلى غصن تنقّلت... وعلى كل غصن توقفّت.... تتأمّل الجمال وتتعرّف إلى كلّ الطّيور من سكّان الشّجرة...

طيور جميلة، وديعة ومهذبة... استقبلتها بكل حب ومودة... لعبت معها كما تعوّدت أن تلعب... وعن بلادها حدّثتها كما هي تحدّثت ... وقبل غروب الشمس استأذنت سنبلة ورحلت...

إلى روضها عادت "سنبلة"
ومعها حكايات كثيرة ومذهلة
عن بلاد الحساسين المدهشة
وعن سكّانها من الطيور ذي الطّباع الطيّبة
ستروي رحلاتها للأهل والأصدقاء
وستغير رأيهم في طيور الحساسين الطيبة
......
في أول جلساتها حكت سنبلة عن رحلتها وأطنبت...

بإنصات واهتمام أول الأمر سمعها القوم ...... وبحذر شديد تابعوها...وقبل أن تنهي كلامها أسكتوها... وبعد فترة تغيّر الأمر

نادى الأهل لاجتماع غير عاديّ... وفيه سجّل كل من الحضور موقفا:
 "سنبلة" لم تعد صغيرة
 طيرانها أصبح خطيرا
 تتنقل لتكتشف أمورا كثيرة
 تتعرف إلى طيور غريبة
 تروي حكايات عجيبة
 تأتينا بأخبار مريبة
 حكاياتها تحمل أمورا جديدة
 غيرّت فيها كلّ ما كنّا نعرفه

إذن فقرار العائلة قد صدر... أجنحة سنبلة لا بد أن تقتلع... وفي مكان مجهول لا يصله طير ولا بشر ستخزن... ومن الآن فصاعدا سيكون الطيران عليها محرّما... والخروج من الوكر مشروطا ومحدّدا...

وفي أيام قليلة نفّذ القرار... واقتلعت أجنحة "سنبلة" ... وداخل الوكر بقيت لا تقوى على الخروج بعد أن فقدت كلّ إمكانية للطيران...

ومرّت الأيام... و "سنبلة" تزداد حزنا وآلاما... ترفض اللعب وأحيانا لا تقدر على تناول الطّعام... تميل إلى الصّمت وترتاح إلى العزلة والانفراد... وعندما يسألونها عن صمتها تتعجب كيف تلام !... عن ماذا ستتحدث وهي رهينة وكر جامد لا يتغير، يحجب عنها نور الشمس ويحرمها دفء الطّبيعة والحرية...

آه يا "سنبلة" ما الذي أصابك؟
وكيف بين يوم وليلة تغيرت أيامك؟
قد كنت يوما حرة تمرحين في الغابات
واليوم أمسيت أسيرة هشّة تنشدين الحرية من جديد

وبينما هي في وكرها جاثمة سمعت ضجة وضوضاء عالية...

حاولت أن تخرج لتستوضح النبأ... ولكن خوفها من أن تخرج بلا أجنحة أبقاها بعيدة عن الحدث...

ساعات مرّت والضوضاء تزداد... ولا يصلها في وكرها إلا أصوات عالية وعويل وبكاء... لم تعد قادرة على الانتظار... فقرّرت أن تطلّ من فتحة صغيرة لتعرف ما يحدث وما يمكن أن يحاك... رأت عراكا بين الطيور وسيلا من الدماء... لم يكن من طبع سنبلة أن تكون من المتفرّجين ففكّرت في التّدخّل بأي شكل من الأشكال...

صرخت من مكانها، فلم يستمع لصراخها أحد... مشت بصعوبة مرّة وتدحرجت مرّات إلى أن وصلت الأرض وحاولت أن تساعد الجرحى وتلملم أطفال الطيور بكل عزم وثقة بالنّفس...

ساعات مرّت والعراك جارٍ... وهي تهتم بالجرحى وتداوي... ولكنّ أيّا منهم بوجودها لا يبالي...

ومع غروب الشمس هدأت المعارك... وذهب كلّ طير إلى وكره بين جريح وهالك... أما هي فقد بقيت في السّاحة وحيدة كسيرة الجوانح...قلقة... فغدا ستبدأ من جديد المعارك...

من وكر إلى وكر مشت... علّها تستوضح أمر ما حدث...فاكتشفت بأن سبب القتال واهي...فالطيور تتعارك على الزعامة، وكل يريد أن يثبت بأنه الزعيم بلا منازع...فتعجبّت للأمر وحاولت أن تقنعهم بأن الأمور لا تحتاج إلى قتال، بل إلى حوار واتفاق...ليسلموا وتسلم البلاد...

استغرب الجميع شأن هذه الضعيفة... مقصوصة الأجنحة المسكينة... كيف يكون لها رأي بما يجري داخل القبيلة...

ولكنّها بالرغم من كل المصاعب تابعت... ومن عش إلى عش تنقّلت... وبكل ما لديها من حنكة تدخّلت... وباستعمال الحيلة ودهاء الأذكياء تمكّنت...

لقد ادّعت "سنبلة" بأن طيرا من طيور قبيلة الحساسين كانت قد تعرّفت إليه في رحلتها، قد جاءها مساء وأخبرها بأن قبيلته ستهجم على قبيلتها في صبيحة يوم الغد... وستسلبها كلّ ما تملك من حبوب ومئونة وتستولي على أعشاشهم... ولهذا فقد دعتّ الجميع لبحث سبل الدفاع عن النّفس في اجتماع عام يعقد غدا فجرا يحضره الطائر "النفّاث" الذي سمعوا عنه كثيرا في الحكايات، كي يساعدهم على صدّ الهجمات ويريحهم من بطش قبيلة الحساسين...مدعيّة أيضا بأن هذا الطائر قد أمرها بالدعوة لهذا الاجتماع الهام...

وما أن لاحت علامات الفجر حتى امتلأت الساحة بالطيور استعدادا لخوض المعركة وحماية النّفس والمتاع... في هذا اللّقاء احتدّت النّقاشات وكثرت الخلافات في الرّأي وكادت أن تتحول إلى مجازر كشّر فيها الجميع عن أنيابه بهدف الظهوروالزّعامة لولا تلك الصرخة التي انطلقت فأسكتت كل الحضور...

نظر الجميع باتجاه الصرخة، فرأوا طيرا ضخما مغطّى بعباءة سوداء رثّة... وبصوت مرتفع أعطى النّصح و الموعظة...

"يا معشر الطيور...يا معشر الأحرار...
هل ترضون أن يسرق أحد طعامكم وطعام أطفالكم ؟
هل ستمضون في خلافاتكم وإضعاف إمكاناتكم إلى أن تصلكم الحساسين فتنهب ثروتكم وتجوّع صغاركم وتستولي على أعشاشكم؟ ...
وعلت الهتافات:

لا وألف لا... لن نمكّن الحساسين من أرضنا، ولن نفرّط في ممتلكاتنا، ولن نقبل بحياة الذّلّ والتشرّد مهما يكن الثمن...

وبصوت أعلى صاح الطائر النفّاث: "ولكن كيف لكم أن تهزموا الحساسين الأقوياء وأنتم على هذه الحال في عراك وخلاف؟ "...

ثمّ صمت الطائر لحظة... وبصوت أعلى من ذي قبل صاح مرّة ثانية: " صمتكم هزيمتكم، ووحدتكم خلاصكم...

وفجأة ضجّت الساحة بالهتاف: معا سنهزم الحساسين... يدا بيد على الحساسين...

ومرّة ثالثة يصيح الطائر النفّاث: لا حاجة لكم بوجودي بعد اليوم، فأنتم من سيهزم الحساسين وغيرهم... ستهزمون كلّ جبابرة الدّنيا طالما يدكم واحدة...

وبتثاقل شديد غادر الطائر النفّاث الساحة، وفي العيون ألف سؤال يبحث عن إجابة...كيف لا يطير هذا النفّاث؟!
ك ي ف لا ي ط ي ر ه ذ ا ا ل ن ف ا ث ؟!

ومن بين الجموع خرج طائر صغير وقال: "النفّاث هو "سنبلة" ومن العلامة التي على منقارها عرفتها...

ركض الجميع وراء النفّاث... ورفعوا عنه العباءة السوداء

ومن تحت العباءة ظهرت "سنبلة"... ليست ضعيفة... ولكنها بلا أجنحة...

نظرت إليهم وقالت تعاتبهم: لست ضعيفة بل أنتم من خلع أجنحتي... وبالرغم من هذا فلن أقبل أن أكون بلا فائدة... أما الحساسين فهي طيور مسالمة لا تهاجم أحدا، تحبّ الرّقص والغناء والربيع... ولكن أن بقيتم متفرقين تتنازعون لأتفه الأسباب فهناك ألف خطر يتهددكم وخطر ...

ودون أن تلتفت إليهم مشت، ومن خلفها مشى ألف طائر وهتف:

لن نخلع أجنحة أحد... لن نخلع أجنحة أحد... فكلنا لكلنا دعم وسند...

وعملوا جميعا ذكورا وإناثا...صغارا وكبارا بجد ونشاط حتى باتت بلادهم من أجمل البلاد، وفصيلتهم من أقوى فصائل الطيور التي عرفها هذا الزمان...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى