الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم عبد الباسط محمد خلف

سنة خامسة أرقام…

تستذكر كغيرك، في الثامن والعشرين من أيلول سبتمبر، "رحيل" السنة الخامسة من العدوان والانتفاضة رقم (2)، وميلاد النسخة السادسة، تفتش عن نقطة تبدأ بها هذه المرة، لا تحب ككثيرين الخوض في السياسة وإعلان حالة طوارئ كلامية، ولا تُنصّب من نفسك محللاً سياسياً، أو تُشعر من يقرأ كلماتك أنك من طائفة" المُستَحلِيلينَ" أو الباحثين عن مكان في "سوق الكلام"…

في ليل الثامن والعشرين من الشهر التاسع، وهو اليوم الذي سنبدأ فيه بالتقويم السنوي السادس للعدوان، تثقل كاهلك الأشرطة السريعة للأخبار المتلفزة: ثلاثة شهداء في طولكرم، تسعة عشر شهيداً و80 جريحا في جبالياً. وبعدها: 3 في جنين، اثنان في بلاطة، واحد في عسكر...

تعود إلى أرشيفك المتواضع لتجد ما دونته في العام الماضي: شهيدان أو "قتيلان" في بلاطة، وثالث في نابلس، وآخران في غزة… في الشريط ذاته أضافوا منذ حفنة من الأشهر أرقاماً قادمة من العراق أيضاً (من هناك الأرقام مرتفعة وبخانتين أو ثلاث).

تسأل نفسك: متى سنكف عن ترقيم أنفسنا؟، نعلم أننا نكره الأرقام (الخمسون ألف الواردة في سجل أنا عربي)، و ذاتها التي يمنحها السجانون للأسرى الحرية ولأسيراتها أيضاً، ومثيلاتها في تعداد القرارات الدولية ذات الصلة بقضيتنا، 242، 338، 194.

ونظيرها في وصف العجز المالي في موازنتنا أو تبخر السيادة على الأرض، والسماء، والحياة وغيرها كالتي تطالبنا بدفع أثمان ما نستهلكه من ماء وكهرباء وهواتف ثابتة أو متجولة وربما هواء في مراحل مقبلة...

يغذي متحدث غير حكومي كان يصنع من البحر جنائن، عداوتك "للرقمنة" هذه (نسبة إلى الأرقام ولا أدري صحتها أو مدى استساغتها لغوياً)، حينما أشهر أمام حشد من الناس أرقاماً عربية تلخص الدعم العربي لشعبنا خلال أربع سنوات، ومما قاله هناك كذا وثلاثمائة مليون عربي من الماء إلى الماء، يدفعون لنا 19 مليوناً من الدولارات الخضراء مطلع كل شهر، أي أن المواطن العربي الوحيد يدفع لنا كل شهر (56 أغورة)… تصوروا ساوى محدثنا بين العربي الذي تبان هياكله العظمية النحيلة والمصاب بتخمة الطعام الإيطالي والفرنسي…

تسرع إلى حاسوبك، وتعيد الحياة إلى بعض الذي كتبته مطلع العدوان الحالي، فتتوقف عند العلاقة بين الأرقام والضحايا، كل الإحصاءات ونشرات الأخبار والتقارير تقول: مقتل أو سقوط أو استشهاد أو مصرع فلسطيني أو 3، أو 7، أو 16 أو 50…

عند القراءة في ما وراء الأرقام يكتشف المرء مصائب من العيار الثقيل، تُقزمها هذه الأوصاف الحسابية، فمن يتذكر أنه وفي ذات أربعاء سقط 6 شهداء، وقبل شهر فجعت 8 أسر، وفي الأسبوع الحالي بكت 9 أمهات والإجمالي لضحايانا منذ سنة أو سنتين 1000 أو 2000 أو 3000 أو 4000 (بالمناسبة هناك تضارب أيضاً بين إحصاءات زيد وعمرو حول عدد الشهداء)…

تعيدَ "طرق" جدران ذاكرتك، للبحث في هذا العجز الذي لم نستطع التفوق عليه، فلسنا ونحن نعيش صراعاً وعدواناً منذ عقود في درس خصوصي أو عمومي للرياضيات، أو محاضرة خاصة بالاقتصاد الجزئي أو نعيش أجواء محاسبية. إننا نتحدث عن فظائع إنسانية ومشاعر وأمهات وأحبة وهذا يتطلب قصاً ورواية لا رياضيات محدثة أو معاصرة أو قديمة.

من يذكر أن مساحة إعلامية واحدة طالعتنا في يوم ما بشيء لا زال يتكرر صداه في نفوسنا ويهز أعماقنا، ويسيل دموعنا، ويستقر في قلوبنا؟

من يستطيع استرداد عشر قصص لضحايا يمكن لألمهم الثقيل العيش إلى الأبد؟

من يتذكر طفلات الشهيدة رسمية عرار الثمان؟

من سمع عن الطفل أياد الذي تيتم قبل إكمال شهره العاشر (قتلوا والده وأمه وزوجة أبيه)؟

من قرأ عن باسل وعبير وأمهما فاطمة وثلاثتهم سقطوا دفعة واحدة في كرمهم؟

من يذكر تركيزنا على قصة العائلة النابلسية التي رحلت معا، أو شاهد بوستر العائلة والأم والأبناء وهو يقول: كلهم رحلواً؟

من يتذكر الحاجة مرزوقة الزريعي وأم محمد الشيخ خليل، وكلتاهما فقدن أربعة من فلذات أكبادهن…؟

في إحدى الجرائد، كتب أحد الزملاء، قبل حفنة من السنوات، مقالة حملت العنوان: "شهداؤنا أرقام، وقتلاهم قصص"، لكن أحداً منا لم يحاول الاستجابة لها، ويحول وجعنا من أرقام مجردة جوفاء لحياة ناطقة.

سخر أحدهم بود، بعد أن عرضت عليه هذه السطور قبل إرسالها إلى الصحيفة، لأنني لم أذكر فيها بالأرقام الأموال المتسربة إلى وجهات لا تستحقها...

أعود أدراجي إلى بلاط "صاحبة الجلالة" لأسال نفسي وغيري، إلى متى سنظل في صراع مع الأرقام، وهل حقاً بوسعنا التخلص منها؟

ومن الذي يرفع حمى المرء أسئلة الشاشات الفضائية التي تقول بالحرف: .. وماذا عن عدد المشاركين في مسيرة التشيع؟ كم عدد الضحايا إلى حد الآن…؟ هل العدد مرشح للارتفاع؟ ماذا عن عدد الآليات التي تطوق المدينة؟

تتمنى ولو بشيء من الموضوعية، أن نعيد قراءة أوراقنا، ومصطلحاتنا، عادتنا الرقمية في التفاعل مع الشهداء والجرحى والأسرى والمشردين والفقراء واللاعاملين وفاقدي الأحلام والآمال والنساء والأطفال والمهمشين، ومدى مساهمة البث العاجل الفضائي لأحداثنا في صناعة واقع مختلف مغاير للحقيقة أحياناً (لو أردنا فتح باب إبليس: ما كان سيحدث لو كان البث الفضائي غير مستكشف..)

تدقق في الكثير من المصطلحات من طائفة:" اجتياح"، " توغل من عدة محاور"، " اشتباكات عنيفة بين الجانبين أو الطرفين"، "الشهيد الطفل البطل" "الجلاء"، " الانسحاب من شمال الضفة" وغيرها بالعشرات…، فتجد أنها بحاجة لمراجعة نقدية، وهو الذي نجافيه في مراحلنا كلها، أو قد نعتبره عيباً أو نصدر فتوى بحرمته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى