الاثنين ١٠ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم مروان أبو صلاح

سيكولوجيا التخاذل وسحرية الفعل

دراسة نقدية لرواية (خطوط تماس) للروائية غصون رحال

هل يمكن أن يعاد تكوين الرجل ليغدو فِِعلاً صرفاً ينجم عن الإرادة الكاملة ومحاط بالمنطق المفهوم والمقبول؟ فيغادر الحالة الواقعية المعاصرة... حالة رد الفعل... والتبرير المبني أساساً على الوهم الشخصي!

تقوم رواية "خطوط تماس" لغصون رحال على سياق اجتماعي معاصر، مكوناته الأساسية امرأة ساهمت خبراتها الحياتية في تشكيلها بصورة سيكولوجية قوية منظّمة، وثلاثة رجال يعيشون حياة ظاهرية رتيبة... ويحلمون بحياة مفترضة مبنية على التصور المثالي الصّرف لرغباتهم وأحلامهم المبعثرة والمتناقضة... أولهم خالد، رجل في العقد الرابع أنهى حياته في الغربة التي حاول مراراً أن يقيم تواصلاً فيها مع الآخر - غير العربي- ليؤول ضحية ذلك الآخر الذي سلبه في النهاية ما سعى إليه عائلته وأمواله. ثانيهم رُمز له بكنية الصياد، باحث عن الحيوية والمتعة والتجدد وهارب من رتابة الزوجة والعائلة. وثالثهم سيف الله، الشاب المتدين المتصوف الذي يتلمس طريقاً شرعياً ممكناً للتواصل مع المرأة، والتي تبدو له ككائن سرمدي منفصل عنها، بحكم عدم احتكاكه بها، وجهله بعموميات سيكولوجيتها فضلاً عن دقائق أسرارها فهي متشكلة له بصورة فطرية ساذجة.

فهم بكونهم نماذج مختلفة يمثلون ثلاثية الأطياف الفكرية، الطيف الأيسر ذلك الصياد المنطلق إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه المتعة الجسدية، هارب من أسر زوجة وطفل ليبحث عن التجدد، يظهر بمظهر الفحولة حين... "يهز رأسه بيقين الواثقين، يمرر أصابعه فوق شاربه بعناية ليمنحه الـ "style" المعهود."ص25

والطيف الأوسط هو خالد، الرومانسي الحالم بـ "رسائل مكتوبة بخطوط جميلة فوق أوراق معطرة، ومغلفة بمظاريف فاخرة ومعقودة بأربطة حريرية ملونة" ص25، ينتظر المرأة التي تغادر الصورة المتجمدة داخل الورق لتكون حالة حقيقية.."وتراءت له المعلومات على هيئة نساء رشيقات وقد أصابهن الملل واليأس من استلقائهن الطويل والعديم الجدوى بين طيات الكتب، وفوق صفحات الصحف والمجلات...انفجرن غيظاً وغضباً، فتحولت ذواتهن الورقية الجامدة إلى موجات مغناطيسية..." ص23

والطيف الأيمن هو سيف الله، الطالب الجامعي القروي الخجل والمتعلق بالطبيعة حد التواؤم "أستمع إلى أذان الفجر، هاهي العتمة تتلاشى أخيرا، تتآكل بصمت بين أنياب فجر فتيّ نهم، يلعق ما التصق من بقاياها فوق أطراف أصابعه بتلذذ ويمضي ليزف بثقة نبأ ولادة نهار جديد." ص19، يعرف ما بداخله دون أن يُلم بتأثير هذا الداخل في المرأة التي ينشد "أمضيت الليل استجمع انقشاع العتمة. أقتل الساعات بترتيب أفكاري، وإعادة ترتيبها من جديد. للمرة الألف أعدت ترتيبها. أنسق العبارات ثم أعاود تصفيفها على نسق مختلف علّه يكون لها وقع أكبر في نفسها."ص19

فهم النماذج المعبرة عن ألوان المثقف العربي، غير أن المشهد أحيانا ينفتح على نماذج مغايرة، فمثلاً نرى عاصفة شبابية تدخل وتخرج دون أن تلفت النظر إلا نحو سطحية الممارسة في اللباس والاستهتار بالنظام العام، وعائلة محكومة لرغبات طفل، وشاب يعيش مع جهاز حاسوبي متنقل.

وتبدو خطوط الرواية معقودة بيد حورية البحر والتي تشكلت ببراعة لكل منهم عبر الحديث الالكتروني بصورة المرأة الحلم، لتكون الأسطورة التي يتعلق الكل بها، على اختلاف مشاربهم وأصولهم العرقية وبناهم الفكرية، فتتشكل ببراعة حواء مفترضة لكل آدم منهم.

الفعل ورد الفعل، تظهر القدرة السحرية لعقل الإنسان في تملكه المبادرة للفعل الأصلي الأساسي والذي يوجه الأدوات المحيطة من ظروف زمكانية وشخوص أخرى يقع الفعل عليها فتواجهه برد فعل موازي، ويكمن سر نجاح الفعل وتحقيقه لأهدافه في القدرة على استشراف ردود الفعل وتوقعها وبالتالي التحكم في هذه الردود لتصب في مصلحة الفعل وتحقيق غايته.

تكشف الرواية عن القوة السحرية للفعل وقدرته على توجيه الردود عليه بالشكل الذي يمكنه من التحكم في الردود ضمن الوجهة المقصودة، فنرى أن الفعل المستقل الرئيس الذي نتلمسه في الرواية هو فعل تحديد موعد اللقاء وآليته، وقد قامت به حورية، " ما رأيك لو نلتقي لشرب فنجان من القهوة؟ موافق؟ حسناً. غداً في تمام العاشرة... مقهى السراب."ص8، وهو فعل ذكي، فردود الفعل المستشرفة من الأدوات الواقع عليها متوقعة بنسبة تكاد أن تكون مطلقة لا شك فيها.

ونرى فعلاً مؤطراً آخر يلوح لنا في النص قامت به أيضاً امرأة تقتحم المقهى، "عبرت مع إحدى حزم الضوء القادمة عبر باب المقهى امرأة فارعة الطول. شعرها أشقر طويل، تتناوب أصابع يديها على سحبه إلى الخلف كلما مال ليغطي جزءاً من جبهتها وخدها. ترتدي ثوباً أخضر اللون يتوقف طوله عند ركبتها..."ص28.

فالمرأة بكونها الفاعلة ضمن هذه الرواية تبدو مسيطرة على مسار الأفعال المستقلة الهادفة... فالفعل الأول يقود إلى صفع النماذج الذكورية التي تفصّل المرأة كما تشاء، وتحاول أن تشكلها في قالب يحقق الرغبة الذاتية لكل منهم، دون أن تُتيح لها فرصة الكينونة المستقلة، لتنسحب في النهاية وهي تحمل اتجاهات سلبية نحوهم "... صدقوني، اكتشفت أن نذوركم غير صادقة، وأنكم رجال غير طيبين"ص126، والفعل الثاني يقود إلى تحقيق الذات اللافتة والمغرية الجاذبة "... لاحقت كل خطوة من خطواتها ست محاجر، متفحصة قسماتها منذ لحظة عبورها من الباب حتى منتصف القاعة. أثقل الجو بعطر قوي وصارت الأنفاس تسحب بصعوبة."ص28

أما ردود الأفعال فقد كانت كلها من العناصر الذكورية في الرواية، بداية من الأطياف الثلاثة التي سارت إلى الموعد وهي تظن أنها قد غدت قرب تحقيق ما دأبت في الأشهر الماضية ترنوا إليه... حتى إذا ما أدركت مآلها وحقيقة الموعد التي جُرّت إليه وقفت بسلبية دون أن تستطيع إلا أن تكون ردود فعل صرفة "كفى الآن.. من يرغب بالبقاء فليبق، ومن يرغب بالمغادرة فليفعل. وكأن تلك الكلمات وضعتهم جميعاً وجهاً لوجه أمام اختيار قدري أشبه ما يكون بالاختيار ما بين الموت والحياة، قرار مصيري على كل منهم أن يحسمه مع نفسه في غضون لحظات.. مرت الدقائق وهم جامدون في أماكنهم دون أن يحسم أي منهم مصيره، فليس اختيار الموت كاختيار الحياة! " ص15، فتكمن القدرة المنظمة والقادرة لحورية البحر في توقع ردود أفعالهم فهم لن يغادروا المقهى، وسيبقون حتى نهاية المشهد، مع أنها أعطتهم تلميحاً صارخاً "مقهى السراب"، هل حقاً كانت خطواتهم منطقية حيث يذهبون إلى مقهى السراب للقاء حورية البحر أسطورة الخذلان الكبرى!

هي لم تكن غبية، حين أعطتهم كل تلك التلميحات، بل كانت مالكة للأدوات المحيطة بالفعل ومحللة لها، ووظفتها بحسب سماتها في الأدوار الموكلة إليها، فوضوح الدلائل لم يكن ناجماً عن ضعف في صاحبة الفعل بل كان لغباء النماذج الذكورية الثلاثة "غيرت خطتي في اللحظة الأخيرة. عدت إلى المنزل اتصلت بالنادل الأخرق عشيق الكمبيوتر، وأمليت عليه ما ينبغي عليه قوله لكم. ولن اعتذر عما فعلت. اسمحوا لي، أنتم رجال جهلة. لا تعرفون ما وراء اسم حورية البحر". اعتبرتم الاسم مجرد اسم مستعار يخلو من الحكمة!"ص125

وتقوقع الرجل في الرواية في دائرة رد الفعل الموجه لم يظهر فقط في البؤرة السابقة بل حتى في المشهد الجانبي حين تدخل عائلة مكونة من رجل وامرأته وطفليهما إلى المقهى، ويحاول الأهل إقناع الطفل بتناول العصير لا الكوكاكولا، دون أن يفلحا بذلك لينجم الموقف عن "رضخ الأب إلى رغبته مستبدلاً العصير بالكولا"ص58.

وصورة الرجل مسلوب القدرة على الفعل لم تبق حكراً على رجل الشارع العربي سواء العادي أو المثقف بل تُوجّت بالرجل الممثل لشعبه طوال عقود..." يتأمل خالد جثة التمثال المنهار ويتخيل ما تبقى من المشهد يقوم الجنود بربط جثة التمثال بالدبابة وجرّها في شوارع المدينة كما جر "أخيل" جثة "هكتور" خلف عربته الإغريقية في حرب طرواده! بينما يجلس صاحب التمثال في مقعد وثير وبيده سيجار هافاني فاخر، متابعاً عملية شنق وجر تمثاله على إحدى القنوات الفضائية كغيره من ملايين البشر في شتى أنحاء العالم... يتمتم (خالد) لنفسه: بالتأكيد سيكون ذلك أشد وقعاً وتأثيراً؟ ترى أين صاحب التمثال الآن؟ وهل يتابع ما يجري لتمثاله بالفعل؟ لم صمد التمثال وقاوم شانقيه أكثر مما فعل صاحبه!!" ص42

وتتحدى الرواية نماذج ردود الفعل الذكورية بأن تضع أمامهم نموذج فعل مبدع في تفوقه على بساطته... وهي النملة الصغيرة التي "تتحرك نحو هدفها بثقة وصبر... تدب النملة بحملها الثقيل فوق السجاد بصعوبة بالغة تكاد تغرق في وبره تحت وطأة حملها المرهق، غير أن نظرة تحد تطل من إحدى عينيها ونظرة إصرار من العين الثانية. تتجه إلى حوض النباتات عند الزاوية القريبة حيث كان سرب من النمل في استقبالها ومساعدتها. سار الموكب بالغنيمة حتى وصل شق في الحوض واختفى داخله."ص48، ولكن حتى هذا النموذج اللافت لم ينجح في دفع الصياد لاتخاذ فعل مستقل موجه، بل وظّفته الرواية في جعله أداة تساهم في تشكل رد فعل الصياد بالوجه التي يتجه إليه فعل الحورية، "همس (الصياد) لنفسه: إذا كان هذا المخلوق التافه يحمل هذا الحجم من العناد والإصرار من أجل تحقيق هدفه، فما بالي أنا أصاب بالملل وعدم القدرة على الانتظار لتحقيق هدف طالما انتظرته؟!ص49

وغياب الفعل المستقل عن الرجل كما تعرض الرواية غير ناجم عن غياب الأدوات اللازمة له بقدر ما هو انعكاس عن غياب إرادة الفعل عنده، فهو... "الرجل دوما في مركز أقوى من المرأة. ما الذي يرغمه على إسماعها مئات من الجمل الفارغة في سبيل أن يقضي ليلة نارية معها؟! ... ألا تعتقد أن الرجل يستطيع أن يبرر أفعاله بعبارة واحدة دوماً: أنا حر، ولن يتلق لومة لائم، فلما بحق جميع الأنبياء يكذب الرجال؟!" فهو ممتلك لأدوات الفعل لكن تنازل طواعية عنها... كما رأت حورية.

وإن كانت الرواية قد عرضت لنا نماذج الرجال المُوجَّهين إلى أقدارهم دون أن يمتلكوا القدرة على صياغة الفعل وتنفيذه فهي قد عرضت أيضاً نموذجاً لافتاً للرجل الريفي البسيط، أبي سيف الله "المزارع الطيب... أبي حلال المشاكل، الذي يقصده أهل القرية ليصلح ويوفق بينهم إذا ما تخاصموا لما يتمتع به من حكمة ورجاحة عقل. أبي الذي يخرج إلى حاكورته في الفجر، لا تتعدى زوادته عدد من أقراص الزعتر، تخبزها له أمي طازجة، وتصرها بحطة نظيفة مع راس بصل...أبي الكادح الذي يفلح الأرض ويزرعها ويوزع خيراتها على أمثاله ليأكلوا، لا يعرف من متع الحياة إلا العزف على الربابة ورندحة المواويل وهو يتمشى ما بين أشجاره ليتفقد أغصانها، ويتحسس أوراقها، هامساً في أذني بسرّ ثمين: الأشجار كائنات رقيقة كالنساء، إن أحببتها أحبتك. كائنات تعشق دغدغة الأنفاس الحارة ولمسات الأنامل الطرية، فتزهر وتثمر ويكثر عطاؤها. أبي الغني بعطائه وحبه للناس وما كنت يوما لأخيب ظنه بي..."ص 85، ولا نجد نموذجاً مدينياً موازيا في الرواية لهذا النموذج الريفي الرائع الذي يقترب بالرجل إلى حالة التحرر الفطرية الطبيعية بكونه ملتصقاً بها وجزءاً من نسيجها والتي تساعده على أن يكون فاعلاً حقيقياً في الحياة، ولكن هل نجح هذا النموذج الريفي في أن يوجه ردود فعل ولده الوجهة التي تصب في تكرار هذا النموذج القدوة؟ يبدو من انسياق سيف الله في خيط حورية البحر أن فعل الأب لم يكن قادراً على تحقيق ذلك. وهنا يحق لنا التساؤل هل ذلك لأن الأفعال الأنثوية الموجهة للرجال تمتاز بسطوة الغريزة والرغبة أم لأن المرأة تمتلك قدرات عقلية - مستقلة عن دعم سحر الأنوثة - أبسطها ملكة الإيحاء غير المباشر... أم لأن سيف الله قد تحاكم مع حورية المدينة بعقل وقلب القرية؟

ونتساءل أيضاً هل يقع الذنب في عدم توصل حورية البحر لنموذج من العلاقة الصحيّة مع الآخر على تلك النماذج؟ في الوقت الذي تمادت هي نفسها كونها صاحبة الفعل المستقل في أن تكون حلم كل واحد منهم دون أن تكون ذاتها؟ حتى تصل فيما بعد إلى مرحلة الملل، وتقرر النيل من تلك النماذج، هل كان فعلها مبرراً؟ نعم كانت ساحرة وماكرة وقادرة... وتلاعبت بتلك النماذج التائهة التي أعمل الواقع فيها حتى غدت نماذج ممسوخة، ولكن هل خرجت من سياق فعلها منتصرة؟! أهي علاقة متبادلة تضفي المشاعر الإنسانية على طرفيها أم حرب يخرج الأذكى والأقدر على التحكم بنزعاته الإنسانية منها وقد ثأر لكينونته وحقق مصالحه العليا والدنيا؟ أهناك علاقة خفية بين انتصارها وتحطيم ذلك التمثال الرئاسي؟ وتلك النماذج التي سُجنت في بوتقة رد الفعل وسحقت وهي تحاول أن تعيش ذلك الحلم... سواء أكان حلماً قومياً جمعياً أم حلما ذاتياً في حواء... الخيال الفردي، أكانت تلك النماذج الذكورية مخطأة في أحلامها! أم أنها لا يجوز لها أن تتجرأ حتى على الشروع بالحلم إلا إن امتلكت أدوات الفعل المستقل الكامل، ولكن حتى هذه الأدوات هل هي مضمونة بيد الرجل؟ هل يملك إنسان تحقيق حلمه إن ارتبط هذا الحلم بإنسان آخر؟! إشكاليات صاغتها حورية البحر دون أن تقدم لها الإجابة الشافية... وتقع على القارئ مهمة إكمال النص...

فعندما يتناول نص وجهة نظر نحو سيكولوجية جنس ويتفوق في رسم الملامح المحددة لها لابد أن يكون مدركاً أنه قد مارس بالضرورة فعلاً يتوجب عليه استشراف الردود عليه... وكلما كانت تلك النظرة واقعية وجدلية وشائكة – وهي كذلك- تتنوع ردود الفعل وتتمايز بعدد القراء والمتلقين، وهنا يكمن سحر النص.

دراسة نقدية لرواية (خطوط تماس) للروائية غصون رحال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى