الأربعاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
بقلم إبراهيم البوزنداكي

شارلي إيبدو

أحيانا يغلب علي الحزن حتى تغرورق عيناي بالدموع فلا أستطيع أن أحكي ما جرى لي في هذه المحنة، فأكفكفها مدة تطول و تقصر على حسب نوع الشخص الذي أحاوره، فبعضهم يكون قويا في المواساة، طيبا رقيقا. حينها تكون الاستجابة سريعة لكفكفة الدموع، لتجف بعدها.

على كل قصتي تبدأ، عندما حاولت أن أمسك سرابا ظننته شيئا حقيقيا، ما هذا؟

كنت قد حصلت على عمل بعد جهد طويل، و كان هذا العمل عبارة عن مسؤولية ملقاة على عاتقي بتقييم أداء شركة صغيرة و عمل حسابات و صرف أجور الموظفين، و هم أربعة على فكرة. كما قلت هي شركة صغيرة متخصصة في مجال بيع تقنيات الري و تنصيبها و صيانتها. كنت في الوقت نفسه، بين الفينة و الأخرى، أكتب مقالا و أرسله إلى إحدى الجرائد المحلية و في أغلب الأحيان إلى مواقع إخبارية. هي طبعا مجرد مقالات رأي أعبر فيها عن وجهة نظري في مواضيع معينة. كانت هواية أنفس بها عما في نفسي.

كنت عاكفا على جهاز الكمبيوتر في آخر الشهر أدقق في تفاصيل حسابات و أرقام. شرعت في كتابة الحصيلة الشهرية لتقديمها للمدير- طبعا هو المالك أيضا- لما لفت نظري و أنا أتصفح المواقع الإخبارية التي أرسلت إليها المقالة، أن واحدا من بينها غير فقرة كاملة من مقالي.

على الفور كتبت رسالة إلكترونية و أرسلتها إلى بريد الموقع عبرت فيها عن استيائي الشديد من هذا الفعل و خصوصا أنهم يكتبون أسفل المقال أنهم لا يتحملون مسؤولية ما ينشر فيه و أنه لا يعبر عن رأي الجريدة بالضرورة و إنما يعبر عن رأي كاتبه.

في اليوم التالي لذلك الحدث، لما فحصت بريدي الالكتروني وجدت رسالة من الجريدة المذكورة يقول فيها صاحبها:
سيدي،

نحن نعتذر عن اضطرارنا لتعديل المقال الخاص بكم لما وجدنا فيه من مغالاة و تمجيد لأعمال إرهابية يجدر بك و بنا و بكل إنسان عاقل مقتها و شجبها و محاربتها. هذه السياسة التي تعاملنا بها مع مقالك، هو ما نفعله عادة مع كتاب الرأي الشباب المتحمسين المفتقدين للحكمة حتى يمعنوا النظر قبل خط كلمات من شأنها أن تضر بهم و بغيرهم.
كان من السهل جدا أن لا ننشر المقال، لكن رسالتنا إليك هي أنك صاحب موهبة، لكنك تفتقد إلى الحكمة.

و السلام

قرأتها مرارا، بعدها تفقدت المواقع الإخبارية الأخرى فوجدت ثلاثة منها نشرت مقالي كما أرسلته دون التعرض له من قريب أو بعيد.

نسيت ذلك في الأيام التي تلت و انغمست في العمل و في رتابة الحياة اليومية حتى فوجئت بسيارة الشرطة تتوقف أمام مقر الشركة الكائن بشارع الحسن الثاني و نزل منها شرطيان، اقتحما علي المكتب و أنا منكب على قراءة شيء ما على الكمبيوتر، لم أعد

أذكر ما هو على وجه التحقيق.

اقتاداني إلى مخفر الشرطة الرئيسي بالمدينة و بدأ العذاب.
مكبل اليدين أدخلوني إلى غرفة ضيقة بيضاء من جوانبها الأربعة، صفراء من السقف الذي يتدلى منه مصباح يلقي ضوءا ضعيفا شاحبا، و كان الخيط الذي يتدلى منه المصباح طويلا لدرجة أن الطاولة لا يفصلها عنه إلا متر أو ما يزيد قليلا.
حول الطاولة مقعدان أحدهما من معدن مصقول لامع. أجلسني أحد الشرطيين بحركة من يده على كتفي و أحسست ببرودة المعدن تتداخل مع لحمي و عظمي.

فعل ذلك و أغلق باب الغرفة المصنوع من خشب الصاج المطلي بدهان أبيض كلون الجدران. أغلقه بحركة عنيفة و كأنه يرسل رسالة خفية مفادها: يومك أسود.

تركوني وحيدا جالسا على ذلك الكرسي المعدني محاطا بالبياض و يداي مقيدتان خلف ظهري. لم يخبروني حتى بسبب هذا الاعتقال العنيف المفاجئ، كان ردهم: يا الله حتى الهيهْ و تعرْفْ .

ثلاث ساعات كاملة و أنا على هذه الحالة و كرسي المعدن يكرمني ببرودته التي أحسها تدخل من مسامي، و أنا أنظر إلى الساعة و أتخيل نفسي مسجونا منذ تلك اللحظة لسبب مجهول. ما الذي فعلت؟

استعرضت سنوات عمري واحدة بواحدة، ليس فيها شيء يخالف القانون. لم أقترب يوما من الأشياء الممنوعة و لم أسرق في حياتي، لا أمارس السياسة و لست منضويا تحت لواء أي جماعة، فما الذي جرى؟

خيم صمت مطبق على الغرفة البيضاء لا يقطعه إلا دقات ساعة دائرية صغيرة معلقة على الجدار المقابل لي. صمت من النوع الذي يجعل الدماء تغلي في الأعصاب.

و البرودة!! اللعنة على رطوبة هذه الغرفة، جعلتني أشعر بحكاك في جلدي و في أنفي، و لسوء حظي أن يدي مقيدتان.
أغلقت عيني محاولا إقناع نفسي بأن الأمر سيكون بخير، و أنه مجرد خطإ من نوع ما سينجلي لهم بعد قليل و سأحظى باعتذار.

أحسست أنني عصفور قص جناحاه و ترك بابا قفصه مؤاربا، فأين له أن يذهب حتى لو اهتدي للخروج؟
بعد دقة الساعة الثالثة بقليل، فتح الباب بقوة و دخل منه رجل متوسط الطول مربع الفك تتلألأ عيناه كأنهما زجاجيتان. قدم نفسه بلطف على أنه المفتش سعيد. كز على أسنانه و هو يتفوه بالكلمات و كأنه يحاول حبسها عن الخروج.
جذب المقعد الآخر و كان خشبيا، جلس عليه و نظر إلي نظرة صياد ينظر إلى سمكة صادها للتو تضرب بزعنفتها الهواء و تقاوم الموت الزاحف إليها لثوان ثم ترتخي.

لم يسبق لي أن وضعت قدمي في الكوميساريات و المخافر إلا من أجل الأغراض الإدارية، أو مرة أخرى عندما أبلغت عن اختفاء أختي.

جلس على الكرسي المقابل لي و صمت. أخذ علبة مالبورو من جيبه. انتقى سيجارة و بحث في جيبه الآخر عن ولاعة هنيهة. عندما وجدها أشعل السيجارة و أخذها بين أصبعي السبابة و الوسطى و أعاد القداحة إلى جيبه بيده الأخرى.
عرض علي سيجارة، ثم ما لبث أن قال: - آه سمح لي، نسيت واش انتا متقي الله ... و اللحية !!
قالها بمسحة استهزائية و هو ينظر إلى لحيتي المشذبة.

عاد يتطلع إلي و كأنه يدرسني بدقة. أخذت أنظر إليه بحذر و أنزل من عيني متفاديا أن يتقابلا مع عينيه الزجاجيتين.
بعد مدة مرت بين التدخين و قبقبة الحذاء التي أثارت أعصابي سألني: - شنو اسميتك؟

أجبت بعفوية و كأنني آلة تجيب أوتوماتيكيا: -عصام الحايل.

نظر إلي مجددا بتلك النظرة المقيتة التي تشعرني بنوع من الخوف الغريب. بدأ معصماي يؤلمانني، و هذا الكرسي المعدني اللعين قهرني ببرودته التي لا تستجيب لسخونة مؤخرتي، و كأن المعدن يصنع البرودة ليزودني بها.
أثارت تقلصات الألم في وجهي اهتمامه الشديد إذ خيل إلي أنه زاد من فتحتي عينيه ليرى ملامحي المتألمة بشكل أجود.
قال لي:

إيوا آسي عصام آش دّاك لشي سياسة؟!

قلت له إنه لا علاقة لي بالسياسة و إنني بعيد كل البعد عنها. ضحك و كأنني ألقيت عليه دعابة. ضحك ضحكة مصطنعة تكلفها لتصبح نوعا من القهقهة العالية.

صمت مرة أخرى واضعا رجله اليمنى على اليسرى و بدا كأنه مستمتع بالمشهد، يدخن السيجارة تلو الأخرى.
شنو كاتدير؟؟

لوهلة بدا لي سؤالا غبيا جدا ما داموا قد اعتقلوني من مقر العمل. لكنني جاريته ما دام هو المسيطر على الموقف، أجبت بنوع من الخمول:

محاسب في شركة صغيرة.

نهض من على الكرسي و دار دورة في الغرفة. وصل إلى وراء ظهري و توقف لبرهة من الزمن و أنا أكاد أشعر ببصره الحاد على قفاي.
همس في أذني:
وا السّي، واش كاتفلاّ عليّ، شنو هي الجماعة لّي خدام معاها أنت؟؟
استغربت السؤال، كيف يمكنهم أن يشكّوا في رجل هادئ مسالم مثلي؟
أجبته بعد تريث:

أنا ما خدام مع تّا شي واحد من غير الشركة لّي قلت ليك عليها.
ضربني بيديه الاثنتين على كتفي و زفر حنقا، و بغضب صرخ بصوت هادر:
واش باغي تخرج على راسك؟ من الخير ليك تجاوب بصراحة.
يا إلهي! ما هذا الذي يجري؟ كيف يمكنهم أن يخطئوا بهذا الشكل؟
أردت أن أدير رأسي لأجيبه، لكنه خبطني براحة يده على أم رأسي فقلت:
أنا داكشّي لّي عندي راه قلته.

عند هذه النقطة بدا لي مستشيطا غضبا، عندما عاد إلى مكانه في مقابلي، صرخ بأعلى صوته:
أحمد ... أحمد.
دخل شرطي بزي الشرطة المعروف و أدى التحية بشكل يوحي بأنه مستجد. قال له المفتش:
سير جيب لي الملف لّي على المكتب ديالي.
قال ذلك و استرخى على الكرسي الخشبي و شبك يديه خلف رأسه. عاد إلى الصمت المعهود و هو في انتظار الشرطي الذي أرسله لجلب الملف.
دخن بشكل كثيف كالمدخنة، و بدا كأن الشرطي تأخر عمدا ليمنح للمفتش مزيدا من الوقت قبل إظهار أوراقه. تكتيك متفق عليه بينهما.

طفق ينظر إلي. عينان شغوفتان بمظاهر ضعف الآخرين. كان ينقب بعينيه عن شيء في ملامحي لم أستطع أن أتبين كنهه.
بعد مدة غير يسيرة دق الباب دقة خفيفة، صاح على إثرها المفتش:
زيد آ حْمد.

دخل الشرطي و في يده ملف ورقي، أعطاه للمفتش بهدوء و انسحب. طرح المفتش الملف أمامي على الطاولة بعنف و قال:
شوف أش هذا الشيء، آنت لّي قلت ما عندك علاقة بالسياسة.
نظرت إلى الملف بخشية. و لأنني مقيد اكتفيت بالنظر إلى الملف و إلى وجهه إشارة مني إلى كوني عاجزا عن إطاعة أمره.

فهم الإشارة واستدار من حول الطاولة و نزع الأغلال عن يدي ببطء بواسطة المفتاح الصغير الذي كان مشبكا بسلسلة مفاتيحه.
فتحت الملف فوجدت بداخله ورقتين مطبوعتين من صفحة موقع إخباري وطني، في الصفحة الأولى عنوان المقال و على يمينه صورتي. نفس المقال الذي أرسلته قبل أسبوع إلى مجموعة من المواقع لأجل أن ينشر، كان عنوانه " شارلي إيبدو".
لما وقعت عيناي على المقال فهمت فورا سبب الاعتقال. كان مقالا أرد فيه على أصحاب التبريرات الواهية بشأن ما حصل للمجلة الفرنسية من الهجوم الذي أودى ببعض صحفييها، و في نفس الوقت عبت عليها كونها تمادت في غيها بالاستهزاء بالإسلام و رموزه و أعظمها سيد الخلق صلى الله عليه و سلم . أشرت مجرد إشارة طفيفة، هي جملتان على وجه التحقيق، إلى أنها ربما استحقت ما حصل لها لترتدع عن الخوض في الاستنقاص من الإسلام.
كانت الجملتان قد لونتا بلون أصفر فاقع لتبرز بشكل أوضح. في آخر المقال توقيع باسمي كما عهدت أن أفعل، كان هو الآخر ملونا بلون أصفر لكنه أدكن من سابقه.

قال لي المفتش :

شنو كاتقول في هذا الشيء؟؟

بلعت ريقي بصعوبة، بصوت مسموع، حتى ظننت أنني سأغص به من شدة التوتر، قلت و أنا أجاهد للمحافظة على رباطة جأشي:

إيوا أسيدي ما قلت والو، ذاك الشيء لّ قلته صحيح، أنا ضد الإرهاب و القتل و لكن...
قاطعني صارخا بوجهي بأعلى صوته:

و لكن آش ؟ آه، بغيت تقول ولكن همّا استحقوا.

لم أجب بشيء، لا أدري كيف سأبرر موقفي الذي وضعت نفسي فيه. كنت أظن أن مقالات الرأي مجرد زينة في تلك المواقع و الجرائد و لا أحد يكلف نفسه عناء قراءتها. تأكد لي الآن أن الرقابة على الأقل تقرأها، و أن المكتوب دائما حجة على صاحبه. ليتني لم أكتب ذلك المقال اللعين.

كانت نظراته حادة و هو لا يكف عن الكز على أسنانه و هو يتكلم، قال:
إيوا دوي... دافع على راسك...

نهض ببطء مثير و نادى على أحمد مجددا. دخل الشرطي و كأنه كان يسترق السمع. أمره بإنزالي إلى القبو. قال له:
دّي هذا إلى لاكاڤ باش إيتبرّدْ.

نزلنا في درج من ثلاثة عشر درجة و الشرطي أحمد لا يرسل يدي و كأنه يخشى أن أهرب. في الأسفل قبو فسيح تعبق منه رائحة العطن و الرطوبة. فيه خمس زنازن، حيل بينها بجدر إسمنتية. كل زنزانة بطول ثلاثة أمتار وعرض مترين تنتهي جميعا بسياج حديدي في وسطه باب مقفل برتاج. فتح باب الزنزانة و دفعني بقوة كدت معها أسقط على وجهي.
كان المكان بالداخل مظلما. تلمست طريقي بصعوبة و لم أستطع تبين كل ما يوجد بداخل الزنزانة إلا بعد أن ألفت عيناي ذلك الظلام.

عرفت أنني السجين الثالث، أحدهما قابع بالركن الأيمن أخد يقضم أظافر أصابعه بهمة، والآخر كان مستلقيا على جنبه في الركن الآخر. كان يلبس جلبابا سوقيا لونه بني و يغطي رأسه بطاقية سوداء.

حاولت أن اجلس، لكن قاع الزنزانة كان باردا جدا. أقعيت على قدمي و أسندت ظهري للحائط الشمالي.
كانت الزنزانة – بعد أن اتضحت الرؤية أمامي- قذرة لم تنظف منذ زمن. على مقربة مني كومة رماد و أعقاب سجائر. الجدار الذي يواجه الباب كان مغطى بكتابات اقتربت منها لأجدها عبارات شتم و ألفاظ بذيئة فتراجعت إلى مكاني. تأملتها فبدت منقوشة بأشياء حادة. الجداران الآخران كانا شبه مقشرين يظهر الاسمنت و اللبن من أجزاء منهما، وخصوصا في الجزء السفلي.

نسيت شيئا لم أذكره، مقعد التواليت أو المرحاض الرومي. كان مثبتا في الجهة اليمنى من داخل السياج الحديدي. شيء غريب جدا، صحيح؟ لماذا لم يضعوه في داخل الزنزانة إلى جوار الجدار الجنوبي المواجه للقضبان؟ اقتربت منه فإذا رائحة كريهة تزكم الأنف، و رائحة النشادر القوية المصاحبة للبول منتشرة بقوة. لماذا لم أفطن إليها لحظة وصولي؟
لا أدري ربما أن انشغال البال لا يترك للحواس الأخرى فرصة للعمل. يحيط بالمكان كثير من الورق القذر من كل صنف. لولا هذه الظلمة لكان هذا المكان مزرعة للذباب. ابتعدت عن الرائحة أو لنقل إنني حاولت الابتعاد، لأنها تصلني في كل بقاع الزنزانة.

جلست رغما عني، لأن قدمي قد تعبتا من الإقعاء و القرفصاء، و أحسست بالبلل يتصاعد عبر بنطالي، و تصل إلى لحمي برودته. بدأت بحك أنفي و أجزاء أخرى من وجهي لأن لدي حساسية تجاه الرطوبة و الغبار.

نعم، هذه الحساسية المرض الآكل للصحة المنزوي بالداخل ينتظر المؤثر ليؤثر.
آ مرحبا.

انطلقت الصيحة المفاجئة من الجار القابع الذي لا يكف عن قضم أظفاره. رددت بفتور و عبوس:
الله يبارك فيك..

ضحك ضحكة جلجلت، خلت أن أصداءها ستصل للضباط و المفتشين فوق.
اقترب مني ببطء و تردد. جلس على الأرضية الباردة و كأنه لا يبالي ببرودته الجليدية ووخزني بأصبعه في فخذي.
شي ڴارّو الله يعفو عليك..

نظرت إليه نظرة جانبية غاضبة و فيها الكثير من الترقب و أجبته بتلقائية:

 لا، أنا ماكانكميش ( أنا لا أدخن).
سكت لبرهة أخذ خلالها بقضم أظافره مجددا.
غير بعيد كان الآخر، صاحب الجلباب البني، نائما و ما لبثنا أن سمعنا شخيره.
قمت من مكاني و بدأت أذرع الزنزانة جيئة و ذهابا. بين الفينة و الأخرى ألمس القضبان الحديدية و أمسكها بيدي، أطل منها و كأنني في انتظار شخص ما.
ضاق قاضم الأظفار ذرعا بتصرفي. أرغى و أزبد، شتمني مرات متكررة و دعاني للجلوس و الصمتـ دون أن أبدي أي اهتمام بما يقوله أو يفعله. قال لي و قد نفرت عروق جبينه و بدت زرقاء بعدما وقف قبالتي ضامّاً إحدى ذراعيه إلى صدره:
غادي تجلس أولا نشوف أش ندير معك.
تأملته بطرف عيني و كأنه مخلوق ضئيل لا يعي ما يقوله. لم أعره اهتماما، بل عدت إلى المشي جيئة و ذهابا.
و لأنني استخففت به و كسرت كرامته بازدرائي إياه، صرخ بأعلى صوته و انقض عليّ بشراسة مادّاً يديه أمام وجهه.
صدمني بقوة جسده الذي ألقاه علي و سقط كلانا على مقعد المرحاض النجس. نهض صاحب الجلباب مذعورا لا يدري ماذا جرى، هب كالملدوغ صائحا: - شنو واقع؟

و كنا قد التحمنا، أنا وزميلي، في عراك محموم على الأرض، بجانب مقعد المرحاض الذي كان لونه أبيض فيما مضى. كال لي بضع لكمات و حاول عضي بنفس الأسنان التي قضم بها أظفاره فلم أمكنه من ذلك. ضربته بيدي و رأسي و حاولت إبعاده عن جسدي لأقف على قدمي.

راقبنا صاحب الجلباب مستندا إلى الجدار و كأنه يشاهد عراكا لديكين متحمسين.
كانت الجلبة قوية جدا، خاصة بعد صرختي الأثيرية التي كانت على مقام البياتي، إذ يبدو أن الوغد تمكن من عضي أخيرا في لحمة ساعدي.

ضربته بجبهتي القوية، و أنتم تعرفون قوة جباهنا، على أنفه فانبجس دما. صرخ هو الآخر لكن بصوته الأجش، و استغاث بصاحب الجلباب، فما كان مني إلا أن رفسته بقدمي في ظهره.
أسرع صاحب الجلباب إلي يريد ضربي نصرة لصاحبه المهزوم، لكن ما إن أمسكني من ياقتي حتى فوجئنا بالشرطي أحمد و شرطي آخر بدين قصير يحاولان فتح الباب و في أيديهما الهراوة السوداء الشهيرة فتراجع كلانا و التصقنا بالجدار.

* * * *
و توالت علينا الساعات و أنا لا أكاد ألامس الأرض مفكرا في المصيبة التي وقعت فيها. لم يعرني المفتش سعيد أي اهتمام بعد الاستجواب الماراطوني الذي مررت به للمرة الثانية أعيد خلاله نفس السيناريو السابق. ظللت في الحجز خمسة أيام كاملة، يعيدون فيها جلبي إلى القاعة البيضاء و استنطاقي بنفس الأسئلة المعادة صياغتها. كانت أجوبتي لازمة متكررة، لا زيادة فيها و لا نقصان.

فقد المفتش "سعيد" أعصابه مرارا و كاد يخنقني في إحدى المرات لولا تدخل الشرطي البدين الذي علمت، فيما بعد، أنه مفتش هو الآخر، رغم أن سمته و صفاته و ملامحه لا تشيان إلا بكونه شرطي دورية على أبعد تقدير.
تعارفنا أنا و زميلا الزنزانة و نسينا أننا وقعنا في تلك المشاجرة الغبية التي لم يكن لها أي معنى. قاضم الأظفار اسمه "حمزة" و هو هنا معتقل احتياطيا لأنهم يشتبهون في كونه يروج مخدرا جديدا، ذكر لي اسمه لكنني نسيته، و العتب على ذاكرة الأسماء الخاصة بي فهي ضعيفة جدا. الآخر صاحب الجلباب قبضوا عليه بسبب السكر العلني المفضي إلى إثارة الفوضى في الشارع العام و الاعتداء على المواطنين.

لم أجدني منجذبا إليهما و لكنني حاولت أن أكون طرفا في المحادثات و المسامرات و المهاترات.
في اليوم السادس، جاء الشرطي أحمد و اقتادني عبر الدرج إلى الغرفة البيضاء حيث وجدت المفتش "سعيد" في الانتظار.
أمرني بالجلوس بإشارة من يده فجلست. قال لي و هو يحاول أن يكون لطيفا:
هاذي غادي ندوزوها ليك أسّي عصام، و لكن تعاود راه غادي نقدموك لوكيل الملك. وراك عارف أأه، غادي تحاكم بقانون الإرهاب.. ياللّه نوض اتﮚاعد، سير الله اهنّيك..

لم أصدق نفسي حين سمعت ذلك.. مددت يدي لمصافحته متناسيا كل ما كان منه، لكنه أزاح يده بعيدا عني زاعقا بصوته الخارج من بين أسنانه :

راه هضرنا معاك و سير بحالك قبل ما نعاود نصيفطك ل لاكاڤ.. يا اللّه.

شكرته بصوت يملأه التأثر و أنا لم أصدق نجاتي و انصرفت ناطا من الدرج الرباعي، درجتين درجتين.
ذهبت رأسا إلى المنزل لآخذ دشا و أغير ثيابي و أخفي مظاهر البهدلة، قبل أن أذهب إلى الشركة. لا أعرف ماذا سأقول للمدير بشأن هذا الاعتقال. علي أن أرتجل شيئا، أو لماذا لا أخبره بالحقيقة الناصعة التي لا تحتاج لبيان؟
ذهبت لمقر الشركة و استقبلتني سكرتيرة المدير بدهشة بالغة إذ يبدو أنهم توقعوا أن أمضي وقتا في السجن. منعتني من الدخول على المدير مدعية أنه مشغول. أجبتها بأنني لست من النوع الذي تنطلي عليه هذه الحيلة، دفعتها برفق جانبا و طرقت الباب الكبير و دخلت دون انتظار إشارة من المدير بالإذن.

استقبلني المدير بوجه مكفهر عابس و قال لي كلاما فظا. قال لي:

كنت كا نظن بلّي أنت ولد الحلال و داخل سوق راسك و لكن تبين بلّي أنت شلاهبي. علاش دّاوك البوليس أسّي العصام.
هكذا ينطق اسمي معرفا بأل. و لأنه عاملني بفظاظة و لم ينتظر أن أشرح له الأمر، رفعت صوتي و شتمته بأقذع النعوت، واصفا إياه بالاستغلالي الذي يأكل أجر موظفيه دون حياء، فمنحته العذر الذي كان ينقصه ليطردني طردا تعسفيا، مهددا إياي باستدعاء الشرطة، فما كان مني إلا أن رضخت متذكرا ساعات القبو الباردة.

طردني الوغد دون أي تعويض، و للأسف كان ذلك بعد مرور عام و بعض العام فقط، و أنا أعلم يقينا أنه سيربح أي دعوى أرفعها ضده مع العلم باعتقالي و بنفوذه الأدبي على الموظفين اللذين سيشهدون ضدي لا محالة.
عرفت فيما بعد أنني كنت مطرودا منذ اللحظة التي جاءت فيها الشرطة إلى مقر الشركة، في ذلك اليوم المشؤوم، إذ قرأت في موقع محلي لعروض العمل إعلانا يطلب فيه المدير مسيرا لشركته حاصلا على دبلوم في التجارة و التسيير. كان هذا الإعلان مؤرخا بتاريخ اليوم التالي لاعتقالي ما يدل على أن المدير استغنى عني منذ البداية دون الحاجة لما دار بيننا في اليوم الذي عدت فيه.

بقي أن أجلي نقطة مهمة، ستبدو لبعضكم غامضة و هي عدم زيارتي من قبل أقربائي و هو ليس شيئا غريبا جدا إذا علمتم أنني أجنبي عن المدينة و كل أقربائي أو جلهم على الأقل يعيشون بالقرية مسقط رأسي.

أشعر الآن بالضياع مرة أخرى بعدما فقدت العمل الذي اعتاش منه و أرسل بفضله أموالا إلى أبي بالقرية. بقيت أيام على نهاية الشهر و التي تعلمون أنها موعد دفع الوجيبة الكرائية للحاج عابد و كذلك فاتورتي الماء و الكهرباء.
و عادت حليمة إلى عادتها القديمة: التجول بالشوارع و الأزقة و دق أبواب العمل، حافظة الأوراق الجلدية لا تكاد تفارق يدي مبديا بعضا من الأناقة التي تسمح بها ميزانية مدخراتي القليلة، لأنه كما لا يخفى عليكم، المظهر مهم جدا و يكاد يكون مرآة الإنسان و خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعمل.

كادت مدخراتي أن تنفد، و أنا كما ترون ما أزال من دون عمل، و لا يواسيني في مأساتي التي تشهدونها إلا القلم، فيبدو أن التجربة التي مررت بها قد قوت صلتي بالكتابة، و صدقوني صرير القلم اليوم نفير التغيير غدا...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى