الجمعة ٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم سمية البوغافرية

شاقور*

اندفعت مرحة لأجيب نداء زوجي ثم تسمرت في باب الصالة أبحلق في وجه زائره كالبلهاء وشفتاي تنقشان في صمت: (هو شاقور.. وحش حارتنا.. هو.. هو..)..
أيقظني زوجي وهو يربت على كتفي ويعيد علي تقديم ضيفه مبتسما لي:
ـ السي شوقي.. مساعدي في العمل
تيممت بابتسامته. ابتلعت ريقي الحار مع كأس ذكرياتي فأرخيت يدي كما الآلة لتصافح يد ضيفه الممدودة ثم انكمشت بجانب زوجي أحتمي به من هول لا أستبينه.. فقط صورة شاقور المتسخ الملتحي وهو يتمسح بجدران حينا أمام بوابة المدرسة يتفرس فرائسه ككلب جائع ظامئ تستحوذ على ذاكرتي.. تمطرني بسنان حقبة اعتقدت أني نسيتها وانمحت من مخيلتي.. فجأة، تسربت إلى أنفي رائحة شاقور من مسامات جلد زوجي الذي اتخذه رفيقا له، فتشوك جسدي وانصرفت خارجة أجر هلعي وصدمة أول صباحي لألتقط أنفاسي بعيدة عن صفقاتهما...

لم ينبت في تربة حارتنا وحش بشراسة شاقور.. فهو لم يكن يسرق ليأكل، أو يقتل ليغتني حتى لا يثير في كل هذا الرعب.. كان لا يسيل لعابه إلا لبنات في عمر الزهور.. يمتص روحهن ويذرهن أجسادا تتلظى على قارعة الحياة.. سمعت يوما، إحدى جاراتنا تقول لأمي بأن شاقور سيتزوج فتياته يوم يبلغن.. فهرعت إلى صديقتي فدوى ونصحتها بأن تتزوج عفريتا ولا ترضي بشاقور زوجا.. فانفجرت تبكي لأن لا أحد استجاب لصراخها في ذلك الخلاء حيث استفرد بها شاقور.. أما أنا، فعويشة جارتنا الغالية وحدها من استجابت لصراخي وخطفتني من بين يديه قبل أن يقتلع جذعي ويطير به.. ومن يومه تحرسني كما لو كنت ابنتها..

يوما، جاءتنا البيت وقد التقطت محفظتي وأحذيتي من الشارع وقالت لي ضاحكة: شاقور يبلغك التحية.. هي وأمي تضحكان وأنا الصغيرة آنذاك أتفقد أحوال جسدي فأرى ثماره قد برزت ومهما حاولت طمسها وعصرها حتى لا تقع عليها عينا شاقور تبدو لي فاكهة قد تمردت كثيرا على أوراق الشجرة.. فأظل أمام المرآة أعصرها بين يدي وأتمنى أن تيبس أو تنضج داخل عظامي من أن تلسعها عينا شاقور.. ثم هرعت إلى أمي أصرخ بعدما استبد بي الهلع والضيق:
 لما لم تؤجلي ميلادي حتى يجدوا لشاقور قبرا يدفن فيه إلى الأبد بدل هذه الزيارات الخاطفة التي يقوم بها للسجن؟؟..
ضحكت من أمري أمي وجارتي الغالية عويشة وقالت لي بنبرة جادة:
 من اليوم لك أن تذهبي إلى مدرستك بمفردك..
قاطعت جارتي متشنجة:
 يستحيل أن أعتب باب البيت لوحدي وشاقور حي
أضافت تؤكد لي:
 اعتبريه من اليوم قد مات واندفن
ثم انحنت توشوش في أذن أمي .. لأعلم من صديقاتي في المدرسة بأن شاقور قد سيق إلى السجن مصفد اليدين وأن أمه هي التي بلغت عنه بعدما ضبطته يكشر عن أنيابه لينفث لعابه الثعباني في أخته الصغرى..

اطمأن قلبي وتحررت قليلا من مخاوفي وسرت في الشارع دون أن أتلفت حولي.. كل شيء كان يهتز حولي أراه رسالة من شاقور وأحيانا أتخيل ظله يسبقني ويداه تمتدان لتلتقطني وفمه فاغر ليبتلعني.. فأصرخ وأطير إلى البيت.. اليوم فقط، سرت في الشارع أمرح وأترنح في مشيتي أكتم الغناء والرقص.. بلغت بيتي. تعريت من ملابسي أمام مرآة غرفتي ويداي تعيدان رسم ثمار جسدي بنشوة لم أستشعرها من قبل.. سرت دغدغة لذيذة في كياني لا عهد لي بها من قبل ليعقبها خدر لذيذ.. انصهرت منتشية فوق سريري.. لاستفيق هلعة مرعوبة من خيال شاقور الذي تسرب إلي مع نقرات على الباب ثم ضحكت من أمري أطمئن نفسي بأن شاقور قد مات ودفن..

في الواقع، لم يسجن شاقور مدة طويلة بل أحيل على مصحة نفسية بضعة سنوات وخرج منها "شوقيا".. الكل أضحى يسميه السي شوقي.. وكل الأيادي ممدودة له كأنه لحس مخهم بطيبته ووداعته التي خرج بها من المصحة.. زوجوه جارتي عويشة التي تكبره بسنوات.. لم يكن يرفض لأحد طلبا مما يفتون عليه.. لم يكن يهمه غير تلميع سجله وطي صفحة من حياته يدعي أنه لا يذكر عنها شيئا.. وزوجي، بائع مجوهرات، فتح له محله يشتغل معه وقد أمسك بزمام متجرنا طيلة شهر العسل.. رغم كل ما يروى عن طيبة قلبه واستقامته ورغم مديح زوجي له فلم تتسرب إلي ذرة ارتياح لشوقي الجديد.. وإن كان زواجه بجارتي عويشة كسا نفسيتي مؤخرا ببعض الهدوء والطمأنينة وأفرح كلما زارانا في بيتي.. أعرف أنه لو نازعته نزعته الشريرة وفتح فكيه لينفث سمه ستنزع غاليتي عويشة أنيابه قبل أن ينهش..

عويشة رجل! .. أنا أعرفها وأعرف كيف كان يرتعد منها إذا هددته بيدها الغليظة الخشنة..

ما أن جاءنا يوما بمفرده حتى نضخت وساوسي القديمة.. شعرت أنه يعتصر ابنتي الرضيعة بين يديه كما حكت لي صديقتي فدوى قبل أن يطعنها طعنته الخبيثة.. وحينما هم ليقبلها خطفتها من حضنه متذرعة بوقت نومها وتركته يحدث زوجي عن معانات زوجته عويشة المثقلة بحملها الأول ثم قام يستودعه ليمضي إليها.. في اليوم التالي كانت يداي تطرقان باب غاليتي عويشة، وأنا محملة بكل ما استطعت إعداده مما قد تشتهيه نفسيتها.. انتظرتها تفتح لي الباب لأطعمها بيدي حتى تتقوى وتنجب لنا من صلبها عويشة رقيقة لطيفة أو شوقيا نقيا.. بعد نقرات خفيفة انتصب أمامي جثمانه الضخم في عباءة فضفاضة يستقبلني في الباب ويفرشني بابتسامة عريضة تبدو لي دائما تكشيرة حيوان مفترس يتأهب للانقضاض.. ارتعش قلبي وتملكتني رغبة في الهرب.. ذاتها التي تملكتني في صغري وأنا في طريقي إلى المدرسة.. خطف ابنتي من ذراعي ومضى بها إلى غرفة النوم وأنا خلفه أدفع بجسدي وراءه وعيناي تجولان في البيت.. صمت رهيب يتدفق إلي من الأبواب فيغوص بي في بحر الهلع.. تسمرت في مكاني وسط البيت وعنقي تشرئب إلى المطبخ حيث رائحة الطبيخ تتدفق قوية مشهية.. يخرج شاقور من غرفة نومه يبتسم لي بخبث وينحني مادا ذراعيه مبالغا في الترحيب يدعوني إلى الداخل لأرى سرير مولوده القادم حيث تنام طفلتي الآن.. أزدرد ريقي الجاف وعيناي على يديه المشعرتين تبدوان لي ملقاطا جبارا ينفتح ليلتقطني وفوه فاغر ليبتلعني.. هكذا هيئ لي وأنا على شفا فوهة بركان أمامي..

تماسكت أرسم بسمة الموت على شفتي وأنا ألفظ آخر ما تبقى في معين كلماتي:
 هي عـ ويـ شـ ة فـ ي الـ داخـ ل؟؟
 لا حاجة لنا اليوم إلى عويشة.. قد أعددت طعاما شهيا.. ستذوقين اليوم حلاوتي.. أنا طباخ ماهر ألم تخبرك عويشة؟...
كل كلمة تنزلق من فيه البركاني أحملها سيلا من الحمم..
غاب في قهقهة مدوية اخترقت أذني كالزئير ثم أضاف:
 عويشة في المستشفى.. أتيت لأعد لها بعض الأكل ثم أعود إليها.. ما رأيك سنذهب إليها معا؟
ابتسمت أهز رأسي بالإيجاب وقد سرت نسمة هواء تجوب تجاويف رئتي وقلت وأنا أعتصر التبسم:
 كل ما يلزم عويشة معي في القفة.. من اليوم لا تحمل هما لطعامها

رشقني بابتسامة خبيثة ومضى إلى المطبخ. انزاح الجبل من طريقي فهرعت إلى غرفة النوم لأفك الأسر على نفسي وعلى فلذة كبدي.. تنفست الصعداء أستقبل نسمة الحياة وأنا أمد يدي لأحرر بنتي الرهينة من كابوس خانق رسمته لي ولها فإذا بملقاط جبار يسحب ذراعي إلى الوراء ويقتلع جذعي من الأرض تماما كما حكت لي صديقتي فدوى...

سمية البوغافرية
أكتوبر، 2008

*شاقور في الدارج المغربي يطلق على فأس لتقطيع اللحم


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى