السبت ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧
في المجموعة القصصية حذاء بثلاث أرجل لعبد الرحيم مؤدن
بقلم بوشعيب الساوري

شعرية الاحتجاج

ظل عبد الرحيم مؤدن وفيا للقصة القصيرة منذ السبعينيات من القرن الماضي، ولم يكن من الذين اتخذوها مرحلة تدريبية للمرور إلى الرواية، ولا من الذين زاوجوا بين الرواية والقصة. لكننا نلاحظ تباعدا زمنيا بين مجموعته الأولى اللعنات الزرقاء(1976)، والمجاميع الثلاث الأخرى (تلك قصة أخرى(1990)، وأزهار الصمت(2002)، وحذاء بثلاث أرجل(منشورات سعد الورزازي، الرباط،2005). ونفسر ذلك بأخذ الكاتب مسافة زمنية للتأمل والمراجعة وإعادة النظر في تجربته وأسسها.

الملاحظة الأساسية التي يخرج بها قارئ المجموعة هي شذوذها عن واقع الكتابة القصصية السائدة الآن(إنتاج كمي غزير، وكثرة الأسماء، لكن الغائب هو القصة.) لتقدم لنا كتابة قصصية مسائلة ومجددة للقصة دون التفريط في ثوابتها الشكلية والمضمونية. تأكيدا منها على ضرورة التجديد لكن ذلك التجديد الذي يجعل القصة قصة قصيرة، أي ما يسمح به جنس القصة القصيرة.

تقدم مجموعة حذاء بثلاث أرجل إمكانات متعددة للتلقي والقراءة كالصوغ الحكائي وآليات السرد وبناء الجملة القصصية، والبناء المفارق والساخر والتقاط اليومي، والميتانص وغيرها. كل ذلك يؤكد على الإمكانات القرائية الكثيرة التي تتيحها المجموعة وهذا قلما يتوفر في مجاميعنا القصصية.
وقراءتنا هذه واحدة من تلك الإمكانات التي تتيحها المجموعة. وقد لفت انتباهنا الحضور التيمي القوي للاحتجاج الذي أضحى بنية تيمية مهيمنة على جل قصص المجموعة، وقد توسل بمجموعة من الآليات؛ أهمها الفانطاستيك الذي كان رهانا من رهانات الكتابة القصصية في المجموعة وسمة مميزة لأغلب نصوصها. إضافة إلى الاشتغال المتميز على اللغة بكل إمكاناتها ومكوناتها إذ نسجل حضورا قويا للغة في كل تجلياتها والتي تتدرج من اليومي إلى الشعري.

1- الاحتجاج

يعد عبد الرحيم مؤدن من القصاصين القلائل الذين يصدرون مجاميع قصصية تنتظم حول تيمة واحدة ناظمة؛ تجلى ذلك، خصوصا، في هيمنة تيمة الصمت على مجموعته أزهار الصمت(دار الثقافة، الدار البيضاء، 2002.) والذي كان خيارا احتجاجيا. ونسجل حضور هذه الخاصية كذلك في مجموعته الجديدة حذاء بثلاث أرجل التي تأتلف قصصها حول بنية مهيمنة ناظمة لها وهي الاحتجاج الذي يتغذى على أسلوب الاستفهام في كثير من الأحيان، وعلى الرفض حينا وعلى التظاهر حينا آخر. وبذلك ينتقل بنا عبد الرحيم مؤدن في مجموعته الجديدة من الاحتجاج الصامت إلى الاحتجاج الناطق والفعلي.

يتمظهر الاحتجاج في القصة الأولى التي يفتتح بها المجموعة"قصة قصيرة" عبر الاستفهام على سؤال لازمة وهو:"لماذا أنا قصيرة؟"(8) تحتج القصة القصيرة، في إطار الوظيفة الميتانصية التي تطلع بها قصص المجموعة، على تسميتها بالقصيرة.

والرفض في القصة الثانية"كاتب عمومي" إذ تحتج الآلة الكاتبة وتمتنع عن الكتابة:"أرفض أن أزيد حرفا.. هذا كثير.. كثير جدا.."(17)
وعبر الدموع في قصة واحد اثنان:"للطفل دمعتان."(56)
وفي أحيان أخرى يرتقي إلى مستوى الفعل، كما هي الحال في قصة الأوطوروت يتجلى الاحتجاج عبر التظاهر:"واختلط الحابل بالنابل ووجدتني أردد مع المرددين[...] طوط.. طوط.. وفلوس اللبن ما يبقاش يديهم زعطوط."(58).

2- الفانطاستيك

تتوسل مجموعة حذاء بثلاث أرجل بمظاهر الفانطاستيك، من خلال توظيف عبارات ومفردات ومقاطع تنشدُّ إلى الغرابة انطلاقا من القصة الأولى. ويتعالق هذا المنحى الفانطاستيكي مع الواقع والمتخيل للتعبير عن تلك المفارقات والتوترات القائمة أساسا في هذا الواقع، إضافة الى تلوين الأحداث بالغموض، الذي يضفي التباسا على النص، بطريقة مختزلة ومكثفة للتفاصيل. مما فتح دلالات القصص على التعدد الرؤيوي والدلالي وعلى عدة احتمالات تأويلية.

فهناك منحى فانطاستيكي في تناول القضايا اليومية، وهو نوع من الاحتجاج بل آلية من آلياته(الاحتجاج). ويتأسس الفانطاستيكي، انطلاقا من مفارقات اليومي، فيستجلي القاص إمكانات خارج حدود المعقول في المجموعة. بجعل الشخصيات القصصية إما أشياء الحذاء، (في قصة "حذاء بثلاث أرجل") أو حيوانات وحشرات (في قصة "حمير جدة" وقصة "فراشات سوداء وبيضاء") والآلة الكاتبة (في قصة "كاتب عمومي"). والقصة القصيرة، التي تطرح أسئلة حول ذاتها(في قصة"قصة قصيرة):"لماذا أنا قصيرة؟". ليجعل القصة تضطلع بوظيفة ميتا نصية. ومن أهم تجليات الفانطاستيكي في المجموعة:

 التداخل بين الواقعي والمتخيل و الممكن والمحتمل، مثلا في قصة "حمير جدة" بين الحمير والجدة إذ يصل التداخل حد التماهي. ينتهي بإضفاء طابع غرائبي على أفعال الحمِيَّر:"ولكن لماذا كان حميَّر جدتي يصل، طال الزمن أم قصر، ولا تصل الطائرات والصواريخ؟! ذلك هو السؤال!"(ص.33.) مما يجعل السرد محاولة لفهم بأي حمير يتعلق الأمر هل هو الحشرة المعروفة أم الجدة أم كائن وهمي؟ وتداخل الرجل والحذاء في قصة "حذاء بثلاث أرجل".

 الغرائبية: يضفي السرد على الأحداث العادية واليومية طابعا غرائبيا تهويليا. يقول مثلا في قصة "رغبات المستمعين":"ولم يكد المقرئ ينهي آخر آية من سورة البقرة حتى اهتز الدرع النحاسي بصرصعة رضيع يتلوى من الألم، لم تلبث أن تحولت إلى ضحكة رائقة تخللتها رضعات سريعة من حلمة منفلتة بين لعاب الشفتين وحركة يدين سايرت إيقاع أغنية راقصة لمنظمة دولية ترعى الطفولة والأطفال!" (ص.39.) وكذلك بإضفاء مواصفات غريبة على الحذاء في قصة "حذاء بثلاث أرجل"يقول:"منذ أربعين عاما والحذاء يلازمني كالظل[...] والحذاء يلمع وذرات الغبار لم تأخذ منه حقا ولا باطلا.. حذاء غريب يجمع بين الغبار واللمعان."(ص.36.)

3- اللغة

لا يختلف تعامل عبد الرحيم مؤدن مع اللغة عن عمله السابق أزهار الصمت، فيستمر على نفس المنوال. إذ تتوسل اللغة القصصية في مجموعة حذاء بثلاثة أرجل، بمجموعة من المقومات كالانفتاح على اللغة المحلية المغربية بكل حمولاتها الدلالية، واستغلال وتفجير المخزون الثقافي الشعبي من خلال الأمثال الشعبية المغربية، والتفاعل النصي مع اللغة القرآنية، الذي يجعل لغة المجموعة تجنح إلى مستوى اللغة الشعرية.
3-1- الانفتاح على اللغة العامية، في ذلك يحقق القاص انسجاما بين مسعاه إلى التقاط اليومي في قالب قصصي، دون إغفاله السياق الذي نبع فيه اليومي فتكون اللغة العامية في عباراتها الدالة هي الأقدر على التبليغ والتوصيل، وذلك بانتقاء القاص مجموعة من العبارات المتداولة في اللغة العامية والتي تتمتع بشحنات دلالية قوية، فيحولها إلى لغة وسطى دون أن يقطع الصلة مع بنيتها التركيبية الأصلية، لكنه يمنحها دلالة أكبر. يقول:"وسمعت بأذني هاتين، وسيلتهممها الدود والتراب."(58) ونلمسه هذا النوع من التعامل مع اللغة كذلك في تجارب قصصية سابقة، وخصوصا عند محمد غرناط، في مجموعتيه الصابة والجراد وداء الذئب.

3-2- التفاعل مع اللغة القرآنية، وذلك بمحاكاتها:"وفي اليوم المذكور انقلب أعاليها أسافلها، وكأنه نفخ في الصور، واضطربت الصدور بزلزال ذلك اليوم العظيم..."(59) وفي أحيان أخرى يتم إيراد عبارات من القرآن."واسودت وجوه وابيضت وجوه!!!"( ص.58.) مما منح القصص إيقاعا يتأسس على السجع الذي قرب لغة المجموعة من اللغة الشعرية.

3-3- المنحى الشعري للغة، في كثير من الأحيان ما يتعالى مستوى اللغة القصصية في هذه المجموعة ليعانق الشعر، بل تغدو لغة شعرية محضة، حيث يبلغ التكثيق الشعري ذروته، كما هي الحال في قصة "واحد اثنان." يقول:"للمعلمة رجلان: واحدة للوقوف، والأخرى مطوية عند الركبتين. غيرت المعلمة وضع الرجلين. فأصبح للمعلمة حذاءان. للطفل دمعتان."(56) تبرز هذه القصة تمكن الكاتب من صنعته القصصية، وقدرته على تسخير اللغة وتطويعها عبر التكثيف وكذا الاشتغال على الجملة القصصية.

تركيب

تبرز قصص مجموعة حذاء بثلاث أرجل توافق وتواشج البنيات التيمية والخطابية، الذي يمنح القصص انسجاما دلاليا وخطابيا، ويسوغ لها حق الانضواء تحت مجموعة واحدة. هذا وإن دل على شيء، فإنما يدل على تمكن صاحبها من صنعته القصصية وإخلاصه لطريقته في الكتابة القصصية والتي تستند إلى رؤيا إبداعية واضحة المعالم، وهذا قلما يتوفر لقصاصينا.

ألقيت هذه الورقة ضمن اللقاء الذي نظمته الجمعية البيضاوية للكتبيين مع الكاتب وذلك يوم الجمعة22 دجنبر2006 بمكتبة الفكر العربي بالدار البيضاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى