الجمعة ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم بوشعيب الساوري

شعرية اللعب

قراءة في المجموعة القصصية قُـقْـنُـس لأحمد بوزفور

تتأسس الرؤيا الإبداعية في المجموعة القصصية الأخيرة لأحمد بوزفور قُقْنُس(1) على مجموعة من المقومات كاللّعب، تكسير مفهوم الهوية بجعل الأنا واحدة ومتعددة، وتكسير مفهوم الواقع وجعله احتمالياً يتقاطع فيه الواقعي بالاستيهامي وبالحلمي، والتـنـكـيرالذي يمنح أحداث قصص المجموعة احتماليتها ويعكس رؤيا كلية للأحداث. وكل ذلك في ارتباط بتـيـم الحنين إلى الطفولة.

1- الحنين إلى الطفولة

جل أبطال قصص المجموعة، تقريباً، لديهم نوع من الحنين إلى زمن الطفولة؛ يقول في قصة "قُقْنُس": "وهو مجرد تعبـير عن الحنـيـن الذي يُحسه الحالم الشيخ نحو طفولته. هذه الطفولة التي أصبح يراها الآن بشكل أوضح." (بوزفور، م. م، ص.23.). ولا يقـتصر الأمر على ذلك، بل تعود الشخصيات إلى طفولتها، رافضة واقعها لـتَلِـج واقعاً احتمالياً تَـنسجه وتعيشه عبر لَعِبٍ تُـتـيـحه الصورة والخيال والحلم والوهم، وكلها سنادات تُـكسّر الحدود بين الأمكنة والأزمنة. ويـَرجع ذلك إلى أن كل شيء في واقع الشخصيات يدفعها إلى القيام باسترجاعات تُعيدها إلى الطفولة؛ يقول في قصة "ناتاشا" مسترجعاً عادة طفولية وهي القراءة وأكل الحلوى في الوقت ذاته: "اشتريتها وعُدت إلى البيت. في طريقي عرَّجت على المخبزة، واشتريت بعض الحلوى. (وأنا تلميذ كنت أقطع قراءة دوستويفسكي وتولستوي بالحلوى، أشتري الرواية الأولى من بائع الرصيف وأقرأها ثم أردها إليه[...] مع الأيام، اقترنت الرواية الروسية في ذهني بالحلوى)." (نفسه، ص.41-42.). مما يجعل شخصيات المجموعة تعيش لحظات افتراضية واحـتمالية يلتبس فيها حاضرها بماضيها الطفولي الجميل. وهو الأمر الذي طبع قصص المجموعة بالمراوحة بين الواقع والحلم والطفولة وأضفى عليها نوعاً من اللعب.

2- اللعب

يرتبط الحنين إلى الطفولة والعودة إليها باللّعب كَـلـذَّة طفولية جميلة تـتأسس على الصورة والتخيّل، يقول في قصة "تعبـير الرؤيا": " ثم أراني فجأة طفلاً صغيراً يجري ليخـتبئ من المطر، أدخل دار "بوراسين" جار جدي في "العروبية"." (نفسه، ص.9.) تُكسِّر تـقـنية اللعب السير العادي للقصة مما يُربك القارئ المتمسّك بالواقعي، كما تساهم في تكسير مفهوم الواقع بمعناه التقليدي، وتؤسس واقعاً حلمياً؛ يقول في قصة "قُـقـنس":" فجأة، وأنا لا أزال أقرأ غلاف الشريط أحسست بأني أطير، أطير فوق الكُشك، بين العمارات، أدخل من باب شُرفة ضيقة، أطل وأنا لا أزال محلقاً، على شخص يكـتب فوق ورقة. أكـتشف فرحاً أن الشخص هو "زهرة"." (نفسه، ص.18.). ذلك اللعب الذي يكسِّر الحدود بين الأنا وغيرها ويجعلها متعددة ومختلفة ويوحي بازدواجية في السلوك، فتتجاوز الأنا لحظتها الآنية لتعانق لحظة طفولية ممتعة ناتجة عن أحد المنبِّهات التي تـُثير الشخصية وتدفعها إلى الارتماء في عوالم طفولية قوامها الحلم. مما يؤدي إلى تداخل الماضي بالحاضر والواقع بالحلم والوهم، وتـداخل اللحظات فيصبح وجود الشخصيات وجوداً احتمالياً.

3- الحلم

تشتغل جل قصص المجموعة على الصور العقلية التي تشمل الأحلام والذكريات والأفكار والتخيُّلات، وخصوصاً الأحلام التي تحضر بقوة وتُلغي الواقع وقواعده وتَبني لها قواعد جديدة. فتغدو القصص عبارة عن مجموعة من الصور الحُلمية، التي يخـتلط فيها الواقع بالوهم والماضي بالحاضر، إذ يلـتقط السارد بعض الصور الماضية ويُدخلها مع أخرى آنية، كما يُدمج مشاهد واقعية مع أخرى حُلمية، يقول في قصة "غيابات القلب": "رأيـتُـني أُولَد. أخرُج إلى الدُّنيا شيئاً فشيئًا. أتَولَّد".(نفسه، ص.34.).

كما نجِد أفعال الرؤية والنظر تـتكرر بشكل كبـير في المجموعة (رأيتُني، يرى، أراني، رأينا، رني، لمحتها، لمحني...) وتـتجلى وظيفتها في مزج اليومي العابر الزائل بالمتخيَّل والحُلمي.(2) وكل ذلك ينسجم مع روح اللعب التي تطبع قصص المجموعة، يقول في قصة "الرقص مع الباليرنا": "بم تحلم الباليرنا؟ بأن يكون لها أجنحة؟ بأن تطير؟ ربما تحلم بالحليب: ثوبها الأبيض الحليـبي، والضوء السائل المـتخـثِّر الأبيض، والموسيقى المهروقة؟ كَلاَّ المسكوبة كالحليب. ربما كانت الباليرنا تحلم بأن تُرضع العالم أو أن تَرضعه." (بوزفور، م. م، ص. 26.).وتبعا لذلك تتأرجح الأحداث بين الواقع والحلم، وتبدو كثير من أفعال الشخصيات ذات طبيعة خيالية حالمة.

4- تكسير مفهوم الواقع

تعمل مجموعة ققنس على تكسير مفهوم الواقع بالمعنى التقليدي، ووضع وتشيـيد واقع احتمالي افتراضي، قد يَحْدُث ولا يَحْدُث، يقوم على أسس جديدة. يتداخل فيها الواقعي باللاّواقعي العقلاني باللاّعقلاني، قوامها اللعب، عبر الحلم والتخيُّل اللذين يهدّمان الواقع ويلغيان قواعده ويؤسّسان قواعد خاصة تـتجاوز الواقع الذي يصبح مجرد احتمال من الاحتمالات التي يخلقها الحلم واللعب واللغة. ففي الحلم يتم هدم مفهوم الواقع وهدم مفهوم الهوية، بتداخل الذَّوات، ويصبح الواقع موجودًا ولا موجودًا وتصير الشخصيات هي وليست هي. في حلم وفي يقظة يقول في قصة "الرقص مع الباليرنا": "لا أدري، ربما ليكتمل الإحساس بالالتباس؛ بين الضوء والظلام، بين الواقع والخيال، بـين اللبس والعري كل ذلك يعطي إحساساً بالصوف، بالخفة والنعومة والوداعة(وداعة الخرفان؟) إحساساً ببضع عشرة درجة فوق الواقع. " (بوزفور، م. م، ص.27.) تتداخل فيه والأزمنة والأمكنة وتـتكسر الحدود بين الذوات.

5- تكسير مفهوم الهوية

يُركّّز أحمد بوزفور في هذه المجموعة على تعدّد الأنا واختلافها الباطني، ويحاول أن يظهره ويظهر الأنا في تناقضها وتعدّدها، فنصبـح أمام أنا واحدة ومتعددة في الآن ذاته، يحضر فيها الاختلاف ويـغـيب التطابق. وكأن الشخصيات الرئيسية شخصية واحدة تعيش أوضاعاً وحالات مـتـناقض. ويؤكد أن الأنا والهوية لا يحظيان إلا بوجود ظاهري، ولم تعد الأنا نقية وصافية، بل تحمل في داخلها التعدد والاختلاف. لتصبح الشخصية مـتعددة هي وليست هي، وكذلك مشاعرها مـتـناقضة ومـتداخلة، يقول في قصة "تعبير الرؤيا": " كنت أسمعها تقول إنها تحبني أو إنها لا تحبني، أحسست أنها تقول الجملتين معاً في وقت واحد." (نفسه، ص. 8.).

6- التنكير

كل العناوين تدفعنا إلى التساؤل، لأن العنوان يشكّل تساؤلاً ويخلق انتظاراً.(3) كما أنه غواية تَفـْتِـنُـنا وتفاجئنا. (نفسه، ص.نفسها.) وقد جاءت كل العناوين نكرة ( "تعبير الرؤيا"، "ققنس"، "الرقص مع الباليرنا"، "غيابات القلب"، "إغماضة الشاعر"، "ناتشا"، "زرُّوق"، "الصفعة"، "الموعد"، "عود تبن أبيض". ) فعلى الرغم من أن بعضها معرّف بأل أو الإضافة تبقى مع ذلك نكرة، وتدفع القارئ إلى طرح السؤال، مثلا: "تعبير الرؤيا" عنوان يدفعنا إلى طرح السؤال: أي رؤيا؟

يؤدي تنكير العناوين في ققنس مجموعة من الأدوار:
 يدفع القارئ إلى التساؤل، ويرغمه على القراءة، لأنه يمارس عليه إكراهاً أدبياً. (حليفي، م. م، ص.11.)
- يدخل في تأسيس الرؤيا الإبداعية لهذه المجموعة، لأن العنوان بقدر ما له علاقة بالقارئ، يرتبط كذلك بالظروف التاريخية التي انبثق عنها. (نفسه، ص.نفسها.) وكذا تصورات صاحب المجموعة للكـتابة القصصية.
- تحيل جميع عناوين المجموعة، تقريباً على نوع من اللعب؛ "الرقص مع الباليرنا"، "إغماضة الشاعر"، الذي يرتبط بالطفولة والحنين إليها، وهي أحد العناصر التي تأسس عليها المجموعة.
 كل العناوين مركبة من أسماء، مصادر، وأسماء أعلام، التي تؤشر على أحداث خالية من الزمن. مما يجعلها تساير الرؤيا التي تحكم الكـتابة وهي تكسير الواقع والزمن، لتـتداخل الأزمنة ويغدو وجود الأشياء والشخصيات وأفعالها وجوداً احتمالياً، تنسجه اللغة والحلم.

تركيب

تبعا للرؤيا الموجهة للكتابة في هذه المجموعة القصصية يشتغل أحمد بوزفور على الصورة واللعب والاحتمال والحلم، فكل القصص هي بمثابة أحلام تـتراوح بين النوم واليقظة، تكسِّر المعنى وتؤسِّس اللاَّمعنى داخل المعنى وتجعل الواقع احتمالياً، وتُكسِّر الهوية وتجعل الأنا هي وليست هي. مما انعكس على السرد واللغة القصصية وجعلهما يتميزان بطابع شعري مـنفـلـت.

الإحالات

1- بوزفور( أحمد)، قُقنس، منشورات مجموعة البحث في القصيرة في المغرب، 2002، ص.23.

2- عبد الحميد( شاكر)، عصر الصورة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 311، يناير، 2005، ص. 215.

3- حليفي (شعيب)، هوية العلامات، دار الثقافة، الدار البيضاء، 2005، ص.21.

قراءة في المجموعة القصصية قُـقْـنُـس لأحمد بوزفور

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى