شعٌرٌ مكتوبٌ بمصلِ القلبِ قَبْلَ مدادِ الكلمات
سَّتةٌ وعشرون حزناً.. ولا قيَّامةٌ
كيْ تعرفَ الشاعرةُ (جميلةُ طلباوي)، سافرْ إلى غسقها الأوَّل، ومرابضِ طفولتها، والنَّاي الذي بوريدها، لتعثرَ على مصادرِ الحَنِينِ، والكلمةُ البكرْ، ولأن الشِّعر جنوبيٌّ الهوى، فنحن على موعدٍ مع الآلامِ والجراحاتْ، على موعدٍ معَ (ياعودُ دندنْ)، وهي تقول: (حنانيْكَ دنْدِنْ، على وقعِ خطى السِّنينْ، عامٌ يجيءُ، وعامٌ يروحُ،أوَّاهُ.. وعمريَ قفارٌ، وهذا الحمامُ على الدَّوْحِ، يصيحُ: مابالهُ الفجرُ كئيبٌ، مابالهُ الفجرُ حزينٌ؟!) لنغرقَ في وساوسها .. في قلقهاَ، وإمِّحاقها، وما تحفرهٌ الشاعرةُ وتتحافرهُ، في ظلِّها الذي ينامُ حوله الَصِّبا المغناجُ، وما ترسَّب من هدهداتٍ على جانبيْ الكثيبِ، (وبشَّار، والعبادلة، وبني عباس، وأدْرارَ) والبحرُ الذي تلبسهْ بردةً شفَّافةً، تدثَّر به مرابضَ الصبواتِ الأولى. غيرَ أنَّنيَ، أعجبُ، كيفَ لجميلةُ أن تأتي من البحر؟، البحرُ الذي لا يشبهُ الجذرُ الأولْ، أو (إن شئتمْ) الرَّحم الأولى، أقولُ هذا الكلام لأنَّها كثيبيةٌ، وبنت الصحراءِ، أتراهُ الرجلُّ تلبسهٌ وتحملهُ للبحر؟!
في شظاياهاَ، ينامُ ستٌّ وعشرونَ تعباً، ثمَّ كسفًا يستفيقون في راحتها، وفي ظلِّها الغمامُ، يخبو الرجاءُ.. وفي شظاياها ملامحٌ وضَّاءةٌ، تطاردها أطيافها.. وطفولةٌ يتيمةٌ تهجعُ في الوغىَ.. ولحظاتٌ تقتربُ من الشَّوقِ، كما تحنُّ للماءِ... في شظاياها مناماتٌ غائبةٌ لا تأتي(أغلب الظنِّ)، وأخرى مؤجلةٌ (وقد لا تأتي)، كما فيهاَ سهادٌ مستديم، ووسادةٌ لم تعدْ تغري بالنَّوم الهادئ والسَّكينةُ، كما الطمأنينةُ... كما فيها جبهتها تلتصق بالدعاء، والآذان، والصلوات الطويلة، وهي تقول (ربَّاهُ، ربَّاهُ) .. وقصائدٌ يتحدَّبُ فيها الأمل، ثم يتقعرُّ (ولا مفرُّ!)
في شظاياها، يقلن لها النِّسوةُ، إقبلي أيتها (العذبة طويلاً)، والبكاء يتقمَّصُ كلَّ ثكلى.. حنينٌ يقرعها سلاماً .. في كلِّ نهارِ تكتبه الأيامُ، تردِّدُ الاشتعال طويلاً حتى تتحوَّل إلى هشيمٍ ورمادٍ.. تستنشق دخان الوجع. وتربِّتُ على صدرها .. لاثمةً، ثم (وكأنها هي التي تقول) (آآآآآه ثم ألف آآآآآآآآآآآآآآه) بكفِّها تمرُّدَ الشهقات... تعلِّقُ على جبينها .. صلوات الاستغاثة، والنِّداءاتُ المتكرِّرةُ، لكأنها ترتلَّ صدى القائل (وامعتصماهُ) ولا إجابةٌ، وتنقِّب عن الماء، وصوتُ الماءِ في وريدهاَ، كما في صفحات الأفق، لكنَّها لا تجدُ سوى غيوماً حبلى بالشقاء (لكأنها تقول) أيَّها الهطول أطفأت شموع الآمال، وأسلمتنيَ للكرى والجراح الرَّاعفاتُ، لكأنها تردِّد مع أم كلثومْ: (أيُّها السَّاهرُ تغفو، تذكرُ العهدَ وتصحو، وذا إِلتأمَ جرحٌ جدَّ بالتَّذكار جرحٌ، فتعلَّمْ كيفَ تنسى وتعلَّمْ كيفَ تمحو).
في شظاياها يأس وصور فقدٍ وغياب، دون صور الحضور .. لا تستذيقهُ الأحداق كلِّها أحمرٌ (لا يغري ولا يجىءُ) ، تطفوا مداركها على الحنين تجدِّفُ بأوردتها وتردد صدى القائلِ: إذا كان خروجُ الرُّوحِ عن الجسْمِ مؤلمٌ، فإنَّ عودةَ الرُّوحِ للجسمِ أكثرُ إيلاماً… علَّ قلبها يصافحُ مجدداً أضلاعها. إنها تتألَّمُ في كلِّ خطوةٍ .. تتألَّمُ بوفرةٍ لا(بندرةٍ) والمسافة(على مانعرفُ إيلامٌ!)
في شظاياها تئنُّ النوافذُ .. والزجاجُ من فرط الوجد ومن فرط الشَّوق، والتِّحنانَات (إليه وإليهم جميعاً)، لكنَّهُ أنين ليس يزيدها إلاَّ طعنات، كخنجرٍ مسمومٍ... يأسرها الخذلان في كلِّ إنتظار وتكبِّلها المرارة في كل حين وآنٍ، كما أنها تقتاتُ النوَّاح في كل واقعةٍ، ومنْ كلِّ حدبٍ، كما من كلِّ صوبٍ .. وتتقيأ الجراحَ والوجعَ والآهات الخبيئةُ، والظَّاهرةُ... لكأنَّها ولدتْ لتقول(الآه أبداً)، لكن ليس لها جهةٌ دونها، ترنو إليها، وتتعلَّقُ بها، فالجهات هيَّ والدروبُ هيَّ. وهيَّ وحدها الدروب والجهاتً الوشيكةُ، كما البعيدةُ.
كما في شظاياها حبٌّ، إنَّها تحبه!(واخجلي من كلام الرَّاحات) تحبِّه، وتناسلتْ ذنوبُ الحبِّ، في داخلها . فلا ضير إنْ هي أطلقتِ العنانَ لمشاعرها. يكبرها الحال يوماً بعد يومٍ. والحياة إلى ذراها ... كأنها مسيرةٌ بوحٍ، على صخورِ الصَّحراءِ... ليس لها أمام، وليس لها مستقرٌّ مكينٌ... فقطْ طوابيرٌ في الوراء لا تنتهي، ولا تريدُ أنْ تنتهي... وطفلٌ رشيقٌ، أنيقٌ، في مسيسِ الحاجةِ إليها، يقول لها،((كما النِّسوةُ)):(إقبلي أيتها الشهد أبداً)، تقولُ في (الوريدُ الأخضرْ)): (هو ذا طفلٌ بحجرٍ، يفتحُ السماواتْ يدوِّي كالبركانْ)، وتقولُ له(حبيبها)على لسان الطفلِ: (أيها السَّالكُ طريقَ الزَّيْتِ،وقمحِ المروجِِ، هذا طفلٌ وراءكَ، حاذرْ، أنت محاصرٌ بالبرتقالِ بكلِّ الزَّيتونِ...)
في شظاياهَا البحرُ. البحرُ الرَّفيقُ، والصديق( في غيابه)، والبحرُ الهادئ، وحبيبتهُ(التي هي) بحرٌ بلا شطآنْ، والبحر العطشانُ! والبحر الذي هو أزقَّةُ حُلُمٍ... والبحر الذي هو البحر، وليس غيرهُ. إلاَّ أنَّنيَ أعجبُ (كما عجبتُ في المرَّة الأولى) لماذا البحرُ؟ وليس الرَّمل مثلاً، لماذا البحرُ، وليسَ البلحُ، والنَّخيلُ، والتَّمرُ، والسَّعفُ المجدولُ، والإبلُ والنُّوقُ، التي هي جميعها من الصحراءِ مسقطٌ شِعْرِهَا، كما هي مسقطُ رأسهَا؟ نقول هذا الكلامُ، لأن معجمُ الصحراءِ نادرٌ، اللَّهم إذا تعلق الأمرُ بقصيدتها (قرارٌ) حين تقولُ:(لأسْتَقِرَّ أخيراً عندَ سعفةِ نخيلٍ). كما في شظاياها الوطن، الوطنُ الأمُّ، الوطنُ المتراميَ الأطرافِ بين حلمٍ بوطنٍٍ، وبينَ الوطن الحلمْ!، الوطنُ الذي لايكفُّ عن المجيءِ إلى الكون، والعالمْ، الوطنُ الأمومةُ منطلقهُ، والأرضُ مستقرُّه (بدْأً ومنتهىَ).
إنَّه الوطنُ القاتمُ، الأسودُ (أغلبَ الظَّن)، الوطنُ المنتهى، والقرارُ المكينُ، أنظرْ إليهاَ كيف تحلمُ بوطنها، الذي أزالتْ عنه السَّواد(بصعوبةٍ)، أليست تقول، في قصيدتها(خطابٌ إلى أمِّي)): (كمْ لونًا يلزمنيَ، كي أزيلَ سوادَ هذا الثَّوب عنْكِ، أمَّاهْ،...، لعنةُ الملوكِ وسوط الجلاَّدْ،...، الشَّمس اختارتكِ وطنًا، فلا تحبسيَ الآهة عنَّا، أمَّاهْ)
كما في شظاياها نزارُ الشَّعرُ، ونزارُ الشَّاعرُ، فيها بلقيسُ، وهندٌ وربابُ ودعدٌ (ومطرُ الكحل الذي ينزلُ كالوحيِ من الأهدابِ)، أليستْ القائلةُ:(فبعثِرْ ضفائريَ، كما تشاءُ، شتِّتْ أضواءَ صبحي كما تشاءُ،...)
هنا يطْفَحُ الكيلُ (كيلهَا) لتعلنَ، عن المرأةِ بداخلها، عن الأسوار الفولاذية، والمرأة التي بدأتْ (تقريبًا) تكون امرأة، بعدما كانتْ أخرى، تقولُ جميلةُ :(الآن أستجْمِعُ، شتاتَ أحلاميَ، وبقايا الأنثى بداخليَ،...، بجنبيَ ديرٌ من حبرٍ).
هذا النَّصُ ذكَّرنيَ بقول القائلِ:( أنا في سفوحِ اللِّقاءِ ، دفنت مواجعَ أمسي فرمتُ العنانَا، وكان اللِّقاءُ كمسِّ الحنينِ، محا الفاجعاتَ ودقَّ السُّؤالاَ أنا مثلك اليومَ أبكي ، أنا مثلكَ قسراً أغَابْ، فإلى متى يا صديقيَ سنبقى، خرافاً بوادٍ غزاهُ الذِّئابُ؟!)، وأحالنيَ طويلاً لى قصيدةِ الرَّاحلْ(عبدُ الله البردوني) حين قالَ: (لماذا تدوسُ حشايا الجريحْ،وفيهِ الحنانُ الذي دلَّلكْ، ونبضي ونبضي سقاكَ الرَّحيقَ، أتذْكرُ يانذْلُ كمْ أثمَلَكْ؟!)
لكنَّ أمامَ، هذا الشُّعورِ بالأنثى المتجدِّدةُ، هناكَ شعورٌ بعدم الرَّاحة، فهي لا تطمئنُّ إليهِ، ((ولا تطمئنُّ فعلاً))، تقول:(يارجلاً قلبَ تاريخيَ كمْ أنا متعبةٌ، وكمْ عشْتُ أحلُمُ،برجلٍ يكونُ جبينُهُ آخر محطَّاتيَ،رجلٌ..،...، يسكنُ وريديَ، وبقعُ الفرحِ في زهراتيَ))... ((يطول الكلامُ ياجميلةُ!)
لغةٌ قشيبةٌ .. وأثاثاتٌ زاهيةٌ
جميلةُ تكتبُ بلغةٍ، تجمعُ بين النَّثْرِ، واللُّغةُ من حيثُ هي السَّرْدُ، لذلك فهيَّ (نصوصها) نثرٌ على سبيلِ الشِّعر، أو قل نثراً متشَعرناً، وهو حال قصيدة النثر، أو ما أسميه (الأقصودةُ)، حين يتوأَمُ فيها بين القصَّة من حيث هي النَّثر، والقصيدة من حيثُ هي إيقاعُ شعريٌّ، وموسيقى شعريةٌ، لذلك فجميلةُ تكتبُ الجملةُ الكثيفة والموجزةُ في آنٍ معًا. قُلْنَا الجمْلةُ الموجزةُ، لا الجملةُ القطارُ، على رأي صديقنا الشَّاعرُ اللّّبْنانيُّ الكبيرُ(أنسي الحاجْ)، وأمامَ نصوصِ جميلةُ، لا يسعنا إلا أن نقرأها نصوصًا شعريةً، فحسبْ، نقرأ شعرها دون الدُّخولِ في رياضياتْ الشِّعر، كما يقول دائما الصَّديقُ (أنسي الحاجْ).
ختامْ:
أخيراً منحتْنَا (جميلةُ) شرفَ القراءَةِ والكتابةِ، والإنصاتْ، لأنَّاتها، وغًَُصَصِهَا التي ملئتْ حلْقهَا، (وَحُلُوقَنَا كذلكَ) منحتْنا أساورَها وخلاخيلهَا، وبشَّارها، ورجُلهَا، وأيقوناتها، وبحرها، حين يأتيَ من الصَّحرهطولاءِ!، لا من البحر من حيثُ هو بحرٌ، منحتنا أساورهَا وطفلها الذي يركضُ ولا مجيءْ، منحتنا أمَّها (رحمةُ اللَّه عليها)، منحتْنا(نسوة العبادلة وبني عبَّاس)، وهنَّ يستقبلنها بالورود والمفازاتْ. أخيراً منحتنا وطنها...نصوصها(الشَّهدُ) لتمكثَ سنيناً طويلةً في ذاكرتنَا البوَّار، وأرضنا الجديبةُ. وتستقرُّ عميقاً في ذاكرةِ الشِّعرِ والشُّعراءِ، قَلَماً نظراً، ينذرُ بالِ طويلاً!